قلم / أكرم عطا الله
إثر الانسحاب المفاجئ للمتظاهرين السلميين على حدود غزة، أو بالأحرى سحبهم من هناك، أثيرت كل التساؤلات عما حدث في ظل صمت مطبق لحركة حماس وغياب حديث يفسر ما حدث، وخاصة أنه سبق يوم الذروة زيارة خاطفة لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى القاهرة، حيث نقل على عجل على مروحية تابعة للجيش المصري كأن هناك شيئا طارئا.
الحقيقة أنه كان هناك ما هو طارئ، وهو الرسالة التي نقلتها مصر لحركة حماس بأن الأمر قد يجر لحرب على قطاع غزة إذا ما تجاوز المتظاهرون الأسلاك، على ما يبدو بأن الحركة حاولت أن تلتزم بذلك، لكن حركة الشعب كان من الصعب ضبطها.. وهنا بدت الأمور أمام خيارين؛ إما استمرار المجزرة وإما الحرب، وفي الحالتين خسارات لا تحتملها حركة حماس وقطاع غزة، وهنا كان خيار الانسحاب بلا نتائج سوى إحصاء شهدائنا وجرحانا دون أن نحقق أي شيء كما جرت العادة في غزة منذ أكثر من عشر سنوات دون أدنى حسابات سياسية.
مجزرة تلك التي تم ارتكابها أول من أمس ضد مدنيين عزل، ولم يسجل على مدى امتداد التظاهرات لشهر ونصف أي رصاصة أطلقت على جندي اسرائيلي، لكن إسرائيل استخدمت أقصى القوة التي لديها، إذ عملت بنظام الصدمة أو ما يشبه عقيدة الضاحية بإحراق كل شيء لإحداث عملية كي للوعي تحدث تأثيراتها خلال الضربات الأولى أو الساعات الأولى، وفعلا كانت الساعات الأولى لصباح الاثنين تشير إلى تصاعد كبير في أعداد الضحايا من الشهداء والجرحى بشكل لا يحتمل، وفي ظل صمت عربي ودولي كبيرين.
الخيار السلمي هو خيار الشعوب المستضعفة، والتي يظهر فارق هائل في القوة بينها وبين محتليها، وخصوصا لدى شعوب لا تجد لها عمقا استراتيجيا تتكئ عليه مثل فيتنام أو حزب الله، لكن إسرائيل التي تعرف أن هذا الخيار ربما هو الأقوى في مواجهتها ارتباطا بطبيعة الصراع الدائر بعد أن عجزت الخيارات الأخرى، أرادت منذ اللحظة الأولى كسر هذا الخيار لأن في نجاحه في قطاع غزة ما يؤهل لانتقاله إلى الضفة الغربية والقدس ومناطق الـ 48 وهذا آخر ما تبحث عنه إسرائيل وسط هذا الصراع الذي تمكنت من تدجين أطرافه الفلسطينية وانتقلت لتدجين المحيط العربي.
لكن الأسئلة التي تركها الحزن المخيم على غزة المكلومة واليتيمة هي أسئلة تتجاوز مساحة الجغرافيا الضيقة، وإن لم يتوقع أحد أن تواجه إسرائيل بهذا الشكل مدنيين، ففي ذلك جريمة واضحة كفيلة بجرها إلى المحاكم الدولية حين يتقدم الفلسطينيون بالقضية، ولكن مناخ الاستقواء والعربدة الذي تتحرك فيه إسرائيل، تهدد وتعربد وتقصف في سوريا، وتسرق في الضفة وتستولي في القدس وترتكب مجزرة في غزة، هو مناخ إسرائيلي بامتياز يتحرك ببطاقة أميركية خضراء وكارت مفتوح للقتل.
واحد من الأسئلة عن خيارات حركة حماس التي تحكم قطاع غزة بعد هذه التجربة السلمية الهامة، وبعد صدور التهديد الإسرائيلي ونذر الحرب عندما قصفت غزة لتنتهي المسيرات: إلى أين يسير قطاع غزة؟ وهل يمكن الاستمرار بهذا الشكل وبهذا الحكم؟ وما هي الخيارات المطروحة لإنقاذ الناس هنا بعد كل التجارب التي مر بها قطاع غزة؟.. ربما لا يبق سوى خيار وحيد وهو العمل على إعادة قطاع غزة لغلاف السلطة كمخرج لهؤلاء المساكين الذين أُثخنت حياتهم هما وبؤسا، ولم يبق فيها متسع للمزيد.
لكن السؤال الأكبر هو حول الخيارات الفلسطينية بشكل عام في هذا الظرف العصيب الذي تمر به القضية الفلسطينية؟.. لقد جرب الفلسطينيون كل وسائل الصراع ضد إسرائيل، سواء بالمفاوضات التي اعترف أطرافها جميعا أنها كانت مفاوضات عبثية ولم تكن سوى مضيعة للوقت وتكريس الاستيطان وشرعنة الاحتلال، أو بالصدام المسلح الذي أعادت حركة حماس تجربته في ثلاثة حروب، ولم يتم تحقيق أي شيء سوى الدمار وتعميق الأزمة الإنسانية في القطاع وعزله عن العالم الخارجي وتوقف الحياة بكافة مناحيها لأكثر من عقد.
لكن دائما ما كانت الدعوات التي شهدت فشل الخيارين ـ المفاوضات والصدام ـ كانت تطلب استدعاء خيار الإرادة الشعبية في مواجهة إسرائيل، إرادة الجماهير وزحفها البشري الذي لم يصمم جيش إسرائيل نفسه لمواجهته، والآن يبدو أن ما أحدثته إسرائيل من صدمة لقتل هذا الخيار في مهده يشير إلى فقداننا واحدا من وسائل المقاومة، حتى في أبسط حالاتها.. فماذا تبقى لنا؟.. وإذا كنا نسلم بفشل خيار التسوية والصدام والكفاح السلمي إذن نحن في مأزق كبير.. إسرائيل بذلك كأنها تطلب الاستسلام على جثث الأبناء وعدم الاحتجاج حتى.. فماذا سنفعل وكيف نواجه؟
سؤال كبير يعكس حجم المأساة وما وصلنا إليه في ذروة الانقسام من إنهاك وإفشال لكل شيء.. وإذا كان الأمر كذلك نحن بحاجة إلى استراحة لتقليل حجم الدم والتفكير بشكل معمق بالمستقبل الذي لا يحمل صورة بيضاء على الأقل في عهد ترامب..!