عبد الستار قاسم
قال الجانب الفلسطيني في المفاوضات الصهيونية الفلسطينية إن المفاوضات في خطر بسبب الممارسات الإسرائيلية بخاصة الاستيطانية. وطالما ردد المفاوض الفلسطيني إن استمرار اعتداءات إسرائيل تهدد المفاوضات، لكن الاستيطان والاعتداءات استمرت، واستمرت معها المفاوضات. أما الجانب الأمريكي فأشار في مناسبات عدة أن المفاوضات تمر بمنعطفات صعبة، لكنها ستستمر، وعمل بكل جهد ممكن من أجل استئنافها عندما أوقفها الجانب الفلسطيني. وأما الطرف الصهيوني فذكر دائما أنه يبحث عن شريك شجاع لديه الاستعداد أن يتخذ القرارات الصعبة من أجل إنقاذ عملية السلام. أي أن الأطراف المشاركة في المفاوضات عبرت عن حرصها على استمرار المفاوضات وإنجاحها.
تمر الآن المفاوضات في مأزق، والأطراف تنتظر تاريخ 29/4/2014 وهو نهاية الجولة الحالية من التفاوض لترى ماذا سيكون المصير.
الأطراف جميعها متمسكة بالمفاوضات
على الرغم من عبارات التشاؤم التي نسمعها بين الحين والآخر حول عبثية المفاوضات واحتمال انهيارها إلا أن جميع الأطراف: الفلسطينيون والصهاينة والأمريكيون مهتمون باستمرارها بغض النظر عن احتمالات النجاح والفشل. الأمريكيون مهتمون باستمرارها لأن لهم مصالح كثيرة في المنطقة العربية الإسلامية، ولا يريدون بقاء هذه المصالح تحت تهديد التوتر المستمر بين إسرائيل والعرب. حل القضية الفلسطينية يريحهم من الكثير من الهموم والجهود، ويساهم في استقرار مصالحهم وتعميقها. فهم لا يستطيعون إدارة ظهورهم للمفاوضات وترك الساحة لتكون مسرحا لغيرهم، وإذا كان كيري يهدد بإيقاف الوساطة الأمريكية فإن هذا مجرد تهديد يفتقر إلى العقلانية، ويتجاوز ميزان المصالح الأمريكية. أما الصهاينة فمهتمون باستمرار المفاوضات لأنها شكلت بالنسبة لهم ضوءا أخضر للاستمرار في سياساتهم التقليدية من مصادرة أراضي وبناء استيطاني دون حسيب يقف في وجوههم. وحتى أن المفاوضات وفرت لهم البيئة المناسبة للاعتداء على مجمع المسجد الأقصى دون رادع. وأيضا وفرت لهم المفاوضات المناخ المناسب لإلحاق الأضرار المعنوية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية بالشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة/67، وهي أضرار عجز عن إلحاقها الاحتلال المباشر ونجحت بها السلطة الفلسطينية التي تعمل وكيلا أمنيا وإداريا للاحتلال.
أما الجانب الفلسطيني فلن يجد شيئا يعمله إن توقفت المفاوضات، وسيجد نفسه غائبا عن الإعلام والنشاطات الدولية إن توقفت. الجانب الفلسطيني يتخذ من المفاوضات مسألة عقائدية، وليس مجرد أسلوب قد يصل بالجميع إلا حل بدون عنف، ولهذا ردد رئيس السلطة الفلسطينية باستمرار إنه مع المفاوضات، وإن فشلت فإنه سيفاوض، وإن فشل الفشل فإنه سيفاوض. الجانب الفلسطيني لا يملك خيارات ولا يبحث عن خيارات، ولا يرغب في عمل شيء غير المفاوضات. هو الآن يتمنع قليلا، لكننا سنجده مطواعا مع الأيام.
التوقيع على المعاهدات الدولية
حاول الجانب الفلسطيني أن يوصل رسالة بأنه يملك خيار النشاط على الساحة الدولية، ووقع رئيس السلطة طلبات الانضمام إلى معاهدات دولية. لكن هل هذا خيار حيوي يمكن أن يساعد في استرداد بعض الحقوق الفلسطينية من إسرائيل؟ من ناحية المبدأ، من المفروض ألا يغيب الفلسطينيون عن الساحة الدولية، ويجب أن يكونوا هناك في أروقة الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية وذلك من أجل البقاء حاضرين أمام ممثلي الدول، ومن أجل الرد على الادعاءات الصهيونية، وتوضيح الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني هذا الحضور الدولي لن يحرر فلسطين، ولن يجبر إسرائيل على إعادة الحقوق لأصحابها لكنه يشكل عامل ضغط إعلامي على إسرائيل، ويؤثر في الرأي العام العالمي إيجابا لصالح القضية الفلسطينية إن أحسن ممثلو فلسطين صنعا.
النشاط على الساحة الدولية يشكل عاملا مساعدا وليس عاملا رئيسيا في استرداد الحقوق الفلسطينية. أي من الممكن أن يكون هناك مقاومة للاحتلال تستعين بالنشاطات الدولية، أو حشد لجهود عسكرية عربية ضد إسرائيل تستعين بالحراك الدولي، أما الاعتماد على النشاط الدولي دون أن يكون هناك فعل لمواجهة إسرائيل فلن يأتي بنتائج مرغوب فيها. فضلا عن أن الخطوة التي قام بها رئيس السلطة الفلسطينية من ناحية التوقيع على معاهدات دولية هي خطوة رمزية لا تضير إسرائيل بشيء ولا تشكل عامل ضغط عليها. الانضمام إلى معاهدات مثل التوقيع على حقوق الطفل وحقوق المرأة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لن يكون له تأثير على الواقع الفلسطيني ولا على واقع المفاوضات، وإذا كانت إسرائيل قد أظهر غضبا من هذا الخطوة فهي كاذبة، أو أنها فقط تحسب حسابا لانضمام فلسطين لمحاكم دولية. وحتى الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية يشكل سيفا ذا حدين لأنه من الممكن أن تقوم إسرائيل بتقديم شكاوى ضد فلسطينيين وفصائل فلسطينية، وهي لها أفضلية في هذا المجال لأن الجهات القادرة على تنفيذ القرارات الدولية منحازة لها ضد الشعب الفلسطيني.
الأفق التفاوضي المسدود
منذ البدء لم يكن الأفق التفاوضي رحبا يبشر بنجاح المفاوضات وذلك لأسباب موضوعية تحول دون النجاح. من الجانب الفلسطيني، الدخول في المفاوضات افتقر للشروط الموضوعية والمهنية التي تقود إلى إحراز تقدم وذلك بسبب الضعف الفلسطيني. ذهب الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات وهو لا يملك أوراقا يلعب بها على الطاولة، حتى أن الجانب الفلسطيني كان يحصل أحيانا على معلومات حول المناطق الفلسطينية من الجانب الإسرائيلي كما حصل فيما يتعلق بمنطقتي النويعمة وتلفيت. طاولة المفاوضات محكومة تاريخيا بميزان القوى بين الأطراف، ويحصل عادة كل طرف على ميزات ومصالح متناسبة مع ما يملك من أوراق قوة. ربما ذهب المفاوض الفلسطيني إلى الطاولة معتمدا على القوة الأمريكية، لكنه لم يزن بالضبط إلى من تميل هذه القوة. وقع الفلسطيني في مصيدة اللسان الأمريكي المعسول. لقد ذهب إلى الطاولة وهو يعتمد على إحسان أعدائه متمترسا خلف ضعفه، وهذا أمر لا يفيد إذ لم يكن الضعف يوما وسيلة لانتزاع الحقوق. ومع السنين، لم يحاول الجانب الفلسطيني البحث عن أسباب القوة، وعلى العكس، عمل على تدمير ما يمكن أن يكون مصدر قوة فلاحق المقاومة الفلسطينية، وتتبع السلاح الوطني، وأدت ممارساته في النهاية إلى شرخ عميق في المجتمع الفلسطيني، وإلى ترهل في مختلف أنسجة الحياة العامة الأخلاقية والاقتصادية والأمنية والسياسية. ازدادت إسرائيل قوة، وازداد الفلسطينيون ضعفا.
الجانب الفلسطيني يتقدم بمطالب من الإسرائيليين لا تتناسب مع ما يملك من قوة، أو ما يملك من قوى وضعية يمكن تطويرها، والجانب الإسرائيلي بقي مطمئنا أن الجانب الفلسطيني يتاجر بضعفه، ولهذا لا يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا على شيء من حقوقهم الوطنية الثابتة.
أما الجانب الإسرائيلي فيريد إطالة أمد المفاوضات دون أن يقدم شيئا للفلسطينيين. هو يريد الاحتفاظ بكل شيء مقابل خسران الفلسطينيين لكل شيء. إسرائيل تريد شراء الوقت للعمل على مصادرة الأرض وبناء المستوطنات وملاحقة الفلسطينيين والتحكم بمصيرهم والسيطرة على مواردهم وتهويد الضفة الغربية، ولا تريد أن تقدم لهم شيئا غير القيام بمهام الوكالة الأمنية والإدارية لصالحها. لقد سمحت إسرائيل بإقامة سلطة فلسطينية من أجل توظيف الفلسطينيين عملاء لها يغطون على احتلالها ويجعلون منه احتلالا رخيصا جدا وبدون مآخذ دولية، وهذا كان مطلبها منذ عام 1968. ضمن هذه العقلية الإسرائيلية لا يستطيع الجانب الفلسطيني التجاوب مع كل متطلبات إسرائيل. إنه يتجاوب ببعض الأمور، لكن إسرائيل تستمر في إثقاله وإذلاله وتتفيهه أمام الناس حتى بات غير قادر على تبرير التنازلات.
أما الجانب الأمريكي فيريد إنجاح المفاوضات من خلال انحيازه الكامل لإسرائيل. إنه يستمر في تقديم كل أنواع الدعم لإسرائيل بخاصة في المجالات الأمنية والعسكرية، ويمنع الفلسطينيين من امتلاك رصاصة إلا إذا كان سلاحهم للبلطجة والزعرنة والإساءة لشعب فلسطين. الجانب الأمريكي قرر مسبقا ألا يكون وسيطا نزيها، وهو يؤكد دائما تحالفة الاستراتيجي مع إسرائيل، وحرصه على الأمن الإسرائيلي. لم يتلفظ الجانب الأمريكي يوما بجملة واحدة دفاعا عن الأمن الفلسطيني، أو عن حق اللاجئين في العودة، والذي يندرج تحت بديهيات حقوق الإنسان. الجانب الأمريكي يريد أن ينجح من خلال الانحياز وتجاهل معايير العدالة، وهذه أضحوكة.
أي أن الأطراف المشاركة في المفاوضات لا تتسلح بمقومات تحقيق النجاح، بل على العكس هي تقوم بما يلزم من أجل إفشال المفاوضات. ولهذا لم تستطع المفاوضات تحقيق تقدم على مدى عشرين عاما، ولن تحقق تقدما حتى لو استمرت عشرين سنة أخرى. هكذا ظروف تفاوضية موضوعية لا تنتج إلا الفشل.
البعد العربي الإسلامي
هناك حقيقة موضوعية راسخة تغفل عنها كل أطراف التفاوض وهي أن فلسطين ليست للفلسطينيين فقط، وهي أرض عربية وإسلامية لا يملك الفلسطينيون حرية التصرف بها كيفما يرون مناسبا. وإذا كانت الأنظمة العربية تعبر بين الحين والآخر عن عدم تدخلها في الشؤون الفلسطينية، فذلك لا يعكس الموقف التاريخي للأمتين العربية والإسلامية، ولا جماهير الأمة. فلسطين مسؤولية كبيرة، وأكبر من حجم مسؤوليات الفلسطينيين، وإذا كان للفلسطينيين أن يتنازلوا فإنهم يغامرون بالاصطدام الداخلي ومع جهات عربية وإسلامية خارج فلسطين. فلسطين ليست لعبة بأيدي فئة قليلة من المفاوضين، وهي ليست مجرد قطعة أرض خاضعة للمساومة، بل هي أرض مقدسة تحرسها مئات ملايين الأعين، ومستعدة ملايين السواعد للدفاع عنها والقتال من أجلها. وإذا ظن أحد أن فلسطين لقمة سائغة يمكن ابتلاعها مقابل ملايين الدولارات تعطى لفلسطينيين فإنه واهم، ولا يعرف تماما مكانة فلسطين والقدس في العقول القلوب العربية والثقافة العربية الإسلامية. وإذا كان هناك من الفلسطينيين من أجاز لنفسه التلاعب بالقضية الفلسطينية فذلك لأنهم محميون من قبل إسرائيل والأنظمة العربية، وإذا تغيرت الأحوال، وهي ستتغير فإن جماهير الأمة ستدوس على كل الاتفاقيات.
لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة تدرك حجم المصاب الذي يعاني منه العرب والمسلمون، وإذا ظنت إسرائيل أنها تستطيع أن تضمن وجودها واستمراره بواسطة الغطرسة، فإن عليها أن تقرأ التاريخ جيدا.
ظروف المنطقة العربية الإسلامية تغيرت إلى حد كبير، وستتغير بالمزيد مستقبلا بما يخدم القضية الفلسطينية، وإذا كانت تجد إسرائيل الآن من يخدمها من الفلسطينيين والعرب، فإنها ستجد صعوبة في الحصول على خدام مستقبلا.