بقلم/ أكرم عطا الله
تساؤلات كثيرة وكبيرة بحجم تعقيد القضية الفلسطينية وطريقة إدارتها وقدرة الفلسطينيين على استثمار الموارد المتوفرة لديهم وتحديداً عندما يجري الحديث عن الموارد البشرية، وهي رأس المال الوحيد للشعب الفلسطيني في ظل انعدام الموارد المادية، فالفلسطيني لديه مشروع لم ينجز الحد الأدنى منه، وما زال الطريق طويلاً بعد أن أعتقد بأنه اقترب من النهاية أصبح مع مجيء ترامب كأنه يعود إلى نقطة الصفر وأدنى.
على امتداد التاريخ الفلسطيني لم يستثمر الفلسطينيون جيداً بالشعب الفلسطيني ولم يقاتلوا بكل ما امتلكوا من إمكانيات، بل كانوا على الدوام يواجهون بجزء من الشعب في ظل تهميش الجزء الآخر. فعندما كانت الثورة الفلسطينية في الخارج كانت تقاتل بالخارج دون الداخل، وعندما عادت مع اتفاقيات أوسلو جرى الاعتماد على الداخل في ظل ضمور وتراجع أي دور لتجمعات الشعب الفلسطيني في الخارج.
القضية أكثر تعقيداً وأكثر وطأة من أن يتحمل مسؤوليتها تجمع ما هنا أو هناك، وبالكاد يحتاج الفلسطينيون إلى استجماع كل قواهم حتى يتمكنوا من الصمود أمام ما تتعرض له قضيتهم هذه من تغوّل وطمس في ظل حكومة يمينية قومية دينية ذات مرجعية توراتية تتنكر حتى للوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، وأكثر من ذلك تعتبر أن طرده من هذه الأرض فريضة دينية.
في أوروبا لدينا جاليات فلسطينية تنتشر في كل مدنها وعواصمها وشوارعها وجامعاتها ويمكن ملاحظة شيء هام لدى هذه الجاليات أنها الأكثر تعليماً والأكثر دخلاً بين الفلسطينيين، وربما تكون الأكثر تأثيراً لوجودها في قارة على درجة من الأهمية في العلاقات الدولية. بمعنى أنها تمتلك الإمكانيات الأعلى في الشعب الفلسطيني، ويمكن أيضاً ملاحظة أنها تتمتع بمشاعر وطنية عالية، فالوطن بسبب الغربة هو الحلم الجميل والهدف الوحيد بالنسبة لها. بينما انهار هذا الحلم للكثيرين في الداخل بسبب معاناتهم من صدامات الفصائل ونموذج الحكم الذي تم تقديمه اذا ما تم الاستقلال.
الفلسطينيون في أوروبا لم يهاجروا من الوطن طوعاً كما يفعل مهاجرون من دول العالم، بل تواجدوا هناك كورثة للنكبة ولأجيال ظلت تحلم بالعودة وتحمل مفاتيح البيت، وبالتالي فإن عشقهم للوطن لا يساويه في أية مناطق أخرى في العالم، لكن السؤال هل هناك استثمار لهذه التجمعات؟ هل نستفيد منهم تعليمياً أو مالياً أو حتى هل نضع لديهم برنامج عمل لدعم القضية الفلسطينية؟ يمكن الإجابة ببساطة: لا شيء، وكأنهم خارج هذا الشعب وحساباته، وكل ما يقومون به هناك من عمل هام عبارة عن فعل تطوعي غير منظم، وهذا لا يستطيع مراكمة إنجازات.
أن تجد نشطاء فلسطينيين في أوروبا تشعر بسرعة أن انقسامنا في الداخل ترك أثره عليهم، فخلافاتنا على السلطة هنا في الداخل امتدت للخارج وجعلت من الجاليات انعكاساً لها، وهو ما يحول دون تشكيل جالية موحدة قادرة على مزاحمة الجاليات اليهودية هناك، والتي ما زالت تعمل حتى بعد إقامة الدولة الإسرائيلية لسبعة عقود، وكان المسألة اليهودية في أوروبا ما زالت حية، وكأن الدولة لم تنجز بعد، يقاتلون في كل مكان وعلى أي شيء ترويجاً وتتويجاً للدعاية الإسرائيلية في الجامعات ولدى صناع القرار في السياسة وفي الاقتصاد، يجمعون التبرعات كخلايا نحل تتوزع، فيما نحن مشتتون غارقون بأزماتنا لامبالين تجاه قضيتنا، وبينما تدار الجاليات اليهودية من إسرائيل لا أحد يسأل عن جالياتنا هناك، كأنه لا يعنيه هذا الجزء من شعبنا وهو الأكثر كفاءة. كيف ولماذا؟ أيضاً لم يسأل أحد.
لدى شعبنا الموزع قسراً على عواصم القارة الباردة ما يمكن أن يغطي فراغاً كبيراً في الإعلام والمال إذا ما توفرت قدرات إدارية لاستثمار كفاءاته هناك، فهم مسكونون بهاجس الوطن ينتظرون أن يطلب منهم أحد شيء أو يهتم بهم، بدل هذا الانقطاع غير المفهوم، ولديهم أسئلة تصل حد الاتهام عن طبيعة العلاقة معهم وعدم استغلال إمكانياتهم.
رغم غضبهم على القوى المتصارعة والأحزاب وما فعلته في الوطن من تقسيم وانقسام، إلا أنهم لم يستسلموا للاحباط والعدم الذي أصاب الفلسطينيين في الداخل، ولديهم فعاليات وتحركات مدعاةً للفخر والاعتزاز. من هؤلاء الذين أصبح بعضهم من أبناء الجيل الثالث الذين يتحدثون العربية بمشقة، إلا أن فلسطين حية في قلوبهم. وهناك مبادرة على درجة من الأهمية الحديث فيها في بداياته، وتكمن هذه المبادرة بالتواصل مع الجاليات بغرض تبرع كل فلسطيني هناك بمعدل عشرة يورو شهرياً تقوم عليها مؤسسة فلسطينية أعضاؤها من الجاليات هناك ومن الداخل، بإمكانها أن تجمع أكثر من عشرين مليون يورو شهرياً من خلال حساب بنكي موحد، وهذه الأموال يمكن ضخها للداخل واستغلالها بعيداً عن حالة الانقسام الفلسطيني، تذهب للشعب الفلسطيني على شكل مشاريع بنى تحتية أو فوقية.
صاحب الفكرة والقائم عليها رجل الأعمال الفلسطيني في ألمانيا الصديق ياسر الشنتف، استمعت لفكرته التي يعمل عليها ويحلم بأن تتحول الى واقع ملموس، وقد أتم الرجل كافة التفاصيل متجاوزاً حساسيات الراهن والظرف المعقد وحالة الانقسام وحساسية المتبرعين لأنهم جزء من اصطفافات مختلفة، وبالتالي كان المخرج هو أن يتم جمع أموال ولا يُترك القرار لمجلس إدارة لينفرد بشأنها ولا يتم تسليمها للسلطة أو لحركة حماس، بل يجري تصويت الكتروني من قبل المتبرعين ويتم وضع خيارات للتصويت عليها مثل بناء جامعة أو مستشفى أو إنشاء طرق أو أخذ ألف طالب من الناجحين والتكفل بتعليمهم في ارقى جامعات العالم، وغيره بعيدا عن حالة الانقسام القائمة.
ولأن المؤسسة سيتم ترخيصها في أوروبا يمكن إشراك الاتحاد الأوروبي بها ويتم تكليفه بتنفيذ المشاريع لسببين: الأول حتى يتم الإنجاز بعيداً عن محسوبيات الداخل والأهم حتى لا تتولد لدى حكوماته هواجس، لأن أقلها كفيل بوقف المؤسسة عن العمل وسحب ترخيصها، وبالتالي إذا تحولت تلك الفكرة إلى واقع وإن تمكنت من الخروج من الورق إلى الحقيقة فنحن أمام فعل كبير يقدمه أبناؤنا في الخارج ويقدمون نموذجاً علينا أن نخجل منه ونحن نغرق بالتفكك. الفكرة بحاجة إلى دعم ورعاية وإلى ترويج بين فلسطينيي أوروبا، وهذه واحدة مما يمكن أن يقدموه ولديهم الكثير مما رأينا، لكن الأمر يتطلب أولاً التواصل معهم والاستفادة منهم، وهذا يتطلب أن يتم تفعيل دائرة المغتربين في منظمة التحرير والانتقال بطواقمها للعمل هناك، إذا ما أمكن توحيد الجاليات وإجراء انتخابات هناك نكون أمام جسم يوازي الجاليات اليهودية، طاقات وإمكانيات علينا استثمارها تفكر بعقل وطني هادئ ومتحرر من حسابات السلطة والمنقسمين.
المقال يعبر عن رأي كاتبه..