بقلم/ حسن خضر
في الصورة التي نشرتها، يوم أمس، منابر إعلامية محلية، نرى شباناً ملثمين، في غزة، يقفون صفاً واحداً وراء طائراتهم الورقية، كما يفعل الجنود في العروض العسكرية، مع فارق أن أسلحة الجنود من نوع مختلف، وهم يتقدمونها. والواقع أن الصورة أقرب إلى حملة الدروع في أزمنة قديمة.
على أي حال، في الأمر مُفارقة غريبة، فإسرائيل بصدد إطلاق مركبة فضائية في أواخر العام، أو مطلع العام القادم. المفارقة أن أكثر الأسلحة بدائية، في الكون، تناطح دولة على عتبة غزو الفضاء. وثمة، هنا، ما يحيل، إلى عناد من طراز فريد في مجابهة غير متكافئة، حتى في ظل أكثر الحسابات مرونة وأريحية. في مجابهة كهذه، في عالم ما قبل ترامب، يحتل داود الصغير، ومقلاعه، مكانة أخلاقية أعلى من عملاق مفتول العضلات، ومُفزع في عدوانيته، كغولياث. ولكن الزمن تغيّر.
ومع ذلك، لن يتمكن أحد من تجاهل دلالة المشهدية في الطقس والصورة، معاً. فقد فعل هؤلاء ما فعلوا: حضّروا طائراتهم الورقية، وتلثموا، واصطفوا، من أجل الكاميرا، في زمن الصورة، والفضائيات، والأنترنت، والواقع الافتراضي. وبالعودة إلى مارشال ماكلوهن، وفرضياته عن الصورة في زمن التلفزيون، فقد فعلوا ما فعلوا بما يجعل الوسيلة والرسالة شيئاً واحداً.
في الصورة رسالة مثلّثة الأضلاع: لأنفسهم أولاً، وللإسرائيليين ثانياً، وللعالم ثالثاً. وما يعنينا الأكثر رومانسية بينها: رسالة المُصوَّر، بوصفه الرسالة والرسول، إلى نفسه، في لحظة استثنائية تجمِّد فيها الكاميرا ما تُنجب التجارب الرضيّة، من مبالغة في التحدي والعنفوان.
وهم بهذا يعيدون تذكيرنا باليهود الإسرائيليين، الذين ورثوا تجارب رضيّة، وجراح نرجسية، من قرون طويلة مُثقلة بالضحوية، فعبدوا القوّة، وأفرطوا في التحدي والعنفوان، وتجاهلوا الفرق بين أوروبيين نكلوا بهم في أوروبا الشرقية والوسطى، وفلاّحين فلسطينيين أبرياء، في آسيا الغربية، لا ناقة لهم في هذا كله ولا جمل.
وكما أن الإفراط في عبادة القوّة، لا يمكّن الإسرائيليين من تمويه التناقض بين الضحوية، والحضور السافر والكثيف للقوّة، فإن المبالغة لا تمكّن الشبّان الملثمين من تمويه الغياب السافر والفادح للقوّة، بالتحدي والعنفوان، بقدر ما تجعل من الضحوية نفسها ضبابية، ومن "المقاومة" بوصفها "سلمية" مسألة إشكالية في أفضل الأحوال.
ومن المؤكد أن الشحنة الرمزية العالية، في لحظة جمدتها عين الكاميرا، في الزمان والمكان، تحظى بشعبية واسعة في أوساط الفلسطينيين والعرب. وهناك ما لا يحصى من مشاهد الحرائق، وتصريحات الإسرائيليين عن الأضرار التي لحقت بهم، والتي يمكن للمُصِّورين والمُصوَّرين الاعتماد عليها في معرض التدليل على المعنى والجدوى. مع ملاحظة مبالغة الإسرائيليين، لأسباب دعائية وسياسية، في الكلام عن الأضرار.
بيد أن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما تقول العرب، فإذا كان ثمن إحراق حقل هنا، أو هناك، مقتل طفلين في ساحة الكتيبة، في غزة، كما حدث قبل أيام، أو قتل متظاهرين على السياج، في تقليد يوم الجمعة، فإن حياة الطفلين، وحياة آخرين على السياج، أهم ألف مرّة من الصور والحرائق. وهناك آلاف الأشخاص الذين كان يمكن أن يكونوا أحياء، أو غير جرحى، أو معاقين في غزة الآن، لو كانت الحسابات منذ انقلاب حماس أقل فئوية، وأبعد نظراً، أو حتى أكثر شفقة على الناس.
بمعنى آخر، ولنبق في موضوع الدلالات، ما بدا، على الأرجح، كابتكار من جانب شخص ما، وربما بالصدفة، وعن طريق التجربة والخطأ، من نوع أن طائرة ورقية يمكن أن تقودها الريح إلى مكان آخر، وأن تشعل حريقاً هناك، سرعان ما تحوّل إلى ترس في آلة سياسية، ودعائية، أقل براءة، وأكثر تعقيداً منه. ولكي يصبح ترساً كان عليه أن يكون طقساً، مع كل ما في الطقوس من بلاغة ومشهدية، وما لها من قيمة تبادلية في سوق السياسة.
لم تتأخر البلاغة كثيراً، فبعد الحرائق الأولى الناجحة، سرعان ما تعسكرت اللغة، وأطلق صانعو الطائرات على أنفسهم، أو أُطلقت عليهم من جانب بيروقراطيين، وراء مكاتب، يشتغلون بالدعاية، تسمية ذات دلالات حربية، ومهيبة، في آن، من نوع: "وحدة الطائرات الورقية".
أذكر، في زمن بعيد مضى، في الأيام الأولى للانتفاضة الأولى، أن عدداً من المعنيين، في مكان بعيد، أدار على مدار أيام جلسات نقاش مُضنية حول معنى ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة، في تلك الأيام، وخرج بتوصيات منها، وبقدر ما يتعلّق الأمر بموضوعنا:
حماية الانتفاضة من احتكار الفصائل، ومن تحويلها إلى جزء من الحسابات الفئوية لهذه الجماعة أو تلك، ناهيك عن الحيلولة بكل طريقة ممكنة دون عسكرتها، وسقوطها في جماعات سرعان ما ستتحوّل إلى ميليشيات. ولم يكن في وسع هذا كله أن يحدث، أي احتكار الفصائل، والفئوية، والعسكرة، والتمركزات الميليشياوية، في سنواتها الأخيرة، دون لغة سبقته، ورافقته، وسوغته، ومكّنته من أسباب النجاح.
لا يُراد للذاكرة، هنا، أن تكون مدخلاً للكلام عمّا حدث في وقت مضى، بل مجرد لفت الأنظار إلى ضرورة إيلاء اهتمام أكبر لمعجم اللغة اليومية للصراع في فلسطين وعليها، وتسليط الضوء على ما تنطوي عليه المفردات، والتجليات البصرية للصراع، من دلالات قد يكون فيها ما يفتح أفقاً جديداً للتفكير، ويُسهم في إغناء علاقتنا بالواقع، وتحليل ما يحدث لنا، وبنا، ومن حولنا، بعينين أوسع قليلا.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"