بقلم: حسين حجازي
جلسنا، مساء الإثنين الماضي، لمشاهدة الحدث الذي اعتبر الأهم في القرن العشرين، ولاحظوا هذا الاقتران أو الرابط في تلك المرة السابقة قبل خمسة وعشرين عاماً، وما يطلق اليوم على السلام أو التسوية المزعومة التي يتبناها دونالد ترامب أنها "صفقة القرن". وكأنما هناك ثمة اعتراف عالمي ضمني مستتر وعميق ودفين بأن السلام الموعود والمنتظر لحل القضية الفلسطينية، هو الذي يمثل وجع العالم أو الخير، والإنجاز الأكبر للبشرية.
ومر وقت يحبس الأنفاس من الانتظار القلق أو لعله تلكؤ التاريخ في الدقائق الأخيرة، بعد أن امتلأت الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض بحضور المدعوين من الشخصيات الاعتبارية من ذوي الوزن الرفيع ومشاهير العالم، قبل أن يدخل ممثلو هذا العرض الكبير وأبطاله الخمسة على المنصة التي تجسد مسرح العالم. الرئيس الأميركي بل كلينتون الذي يتوسط ياسر عرفات وإسحق رابين ومعهم الرئيس محمود عباس وشمعون بيريس، ووسط الانفعال الشديد الذي بلغ ذروته بعد المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين، بدا للحظة وكأننا نشهد أخيراً في بث مباشر وعلى الهواء هذه الحلقة الأخيرة والمنتظرة من سيرورة القدر أو التاريخ، في اقتفاء حركة التحرر الفلسطينية بعد ثلاثين عاماً من كفاحها، المسار نفسه الذي سارت عليه حركات التحرر السابقة من الاستعمار. وأن عهداً جديداً يبدأ الآن مفعم بالتفاؤل والأمل.
ومر وقت كان فيه السلام يمشي أو يمضي قدماً كما لو أنه موجة كاسحة لا يمكن اعتراضها، وذلك تحت تأثير إرادة رجلين هما ياسر عرفات وإسحق رابين، رغم صرخات التحريض والمعارضة من قبل اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو نفسه والرجعيين الآخرين أمثال أرييل شارون، ومعارضة حركة "حماس" في الجانب الفلسطيني، والتي نفذت في ذلك الوقت سلسلة من العمليات التفجيرية في قلب تل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى، حتى انتهى هذا السجال العنيف داخل إسرائيل إلى حدوث عملية القتل باغتيال رابين نهاية العام 1995. وهي العملية التي ستؤدي عند هذه اللحظة إلى توجيه طعنة وضربة قاضية للسلام الموعود، وليبدأ الانقلاب الفعلي لليمين المتطرف الإسرائيلي على اتفاقية أوسلو منذ هذا الحين.
وكانت البداية في الانقلاب مع بنيامين نتنياهو في فترة حكمه الأولى ولكن القصيرة عام 1996، والتي استغرقت ثلاثة أعوام. ليضطر خلالها وتحت ضغوط الرئيس كلينتون وعرفات معاً وقيام الفلسطينيين بما سمي "انتفاضة النفق"، إلى الخضوع والتراجع بالتوقيع مع عرفات وبرعاية الرئيس الأميركي على اتفاق "واي ريفر" وتسليم مدينة الخليل، بعد أن حاول التهرب والمماطلة.
وحينما جاء أيهود باراك حاول الخروج من فلسفة أوسلو التدرجية والالتفاف عليها، حينما قال لعرفات في اللقاء الأول الذي جرى بينهما عند نقطة الالتقاء المعتادة على الحدود بين غزة وإسرائيل في معبر "إيرز" وبيت حانون: "اسمع يا عرفات، إن أوسلو تشبه السير على زجاج متكسر، وقد أدت إلى انقسامنا وبث الخلافات بيننا داخل إسرائيل". وكان مطلب باراك الذي أصر عليه هو التوصل في كامب ديفيد برعاية كلينتون إلى الصفقة الشاملة، على أمل بإحراج عرفات حينما سيطرح عليه ما يمكن اعتباره العرض الأخير، ويؤدي رفض عرفات المتوقع إلى تأليب الرئيس الأميركي عليه واتهام الفلسطينيين بإهدار أو إفشال السلام.
سوف يعاد تشكيل العلاقة ومشهد الصراع بصورة جذرية عند هذه المرحلة الفاصلة، وذلك قرب نهاية تولي باراك رئاسة الوزراء ومجيء أرييل شارون. حيث مثلت الانتفاضة الثانية للفلسطينيين أو ما سمي انتفاضة الأقصى المسلحة وغير المسبوقة بهذا العنف والحجم التحول الحاسم، وهو التحول في مجرى الصراع والذي سينتهي بإعادة اجتياح إسرائيل المنطقة "أ" التي تسيطر عليها السلطة وفق اتفاقية أوسلو، حينما سمي العام 2002 بعملية "السور الواقي".
وحيث جسدت معركة مخيم جنين الأسطورية والملحمية ما بدا أنها النهاية التراجيدية والرمزية لاتفاقية أوسلو، تحت انقاض بيوت المخيم الذي دمرته القوات الإسرائيلية عن بكرة أبيه. وهي المواجهة التي ستخلد بطولة الفلسطينيين في تصديهم غير المتكافئ للقوة الإسرائيلية المتوحشة والمجردة، قبل أن يسدل الستار على ما تبقى من هذه العملية باغتيال ياسر عرفات نفسه عبر دس السم له في المقاطعة برام الله.
ولمرة واحدة وأخيرة فقط كما لو أنها صحوة مفاجئة وسط طقس كان سيئاً طوال الوقت منذ سنوات، بعد وفاة شارون المفاجئ وغير المتوقع سوف يقوم أيهود أولمرت والرئيس محمود عباس بالاقتراب إلى أقرب نقطة من التوصل إلى اتفاق تاريخي يحقق الاختراق في حل الصراع. ولكن أولمرت الذي قضى مدة محكوميته في السجن بعد ذلك هو الذي سيصرح بأنه عوقب بالسجن لأنه اقترب من التوصل إلى عقد هذا السلام مع الفلسطينيين. وهكذا بعد إزاحة أولمرت سوف يعود حكم اليمين الأكثر تطرفاً في إسرائيل ممثلاً ببنيامين نتنياهو.
وقد نظروا في معسكر هذا اليمين الإسرائيلي منذ البداية إلى اتفاقية أوسلو بوصفها كارثة وخطيئة وجريمة وغباء بل ومصيبة تنطوي على خبث وذكاء من جانب الفلسطينيين، الذين استطاعوا خداع رابين وبيريس وآخرين ممن آمنوا بحتمية الاعتراف بالفلسطينيين والتوصل إلى تحقيق السلام معهم.
واليوم بعد تسع سنوات من تولي حكم اليمين بقيادة نتنياهو، فإن ما كان منذ ربع قرن من أحلام راودت الفلسطينيين والإسرائيليين بإنهاء هذا الصراع قد ذهبت الآن أدراج الرياح، إذا كان لم يبق من اتفاقية أوسلو سوى إعلان موتها على شاهد القبر. وهو الإعلان الذي قد يصدر هذه المرة عن الفلسطينيين بعد أن ألغى الإسرائيليون من جانب واحد أي أثر باقي على الأرض للاتفاق.
وهل المفارقة ثانياً اليوم أمام الاتهامات والأوصاف الصعبة التي يندد بها البعض من الفلسطينيين، وربما صوتهم الأعلى بهذه الاتفاقية المغدورة باعتبارها أم الشرور في التسبب بالحالة والوضع السيئ الذي وصل إليه الفلسطينيون، وأنها اتفاقية مخزية وكارثية وغبية وتمثل مصيبة عامة وخديعة وقع بها الفلسطينيون، وأن هذه الأوصاف هي نفسها الذي رددها ولا يزال اليمين المتطرف الإسرائيلي، فأين تكمن الحقيقة إذا كان أرسطو أبو المنطق يعلمنا منذ زمن بعيد، أن القضية أو الحقيقة أو الشيء إما أن يكون "أ" في الوقت نفسه أو "ب" ولكنه لا يمكن أن يكون "أ" و"ب" في الوقت نفسه؟
فهل كانت هذه الاتفاقية مثار الجدل إلى الآن مصيبة لإسرائيل أم للفلسطينيين أم أنها وفق قانون النسبية كانت تنطوي على الشيء ونقيضه لكلا الطرفين؟ باعتبارها تنطوي على هذه القاعدة أو اللازمة التي غالباً ما ترافق مثل هذه الاتفاقات أو التسويات بشكل عام، باعتبارها تقوم على الرضا غير المتكامل أو المنقوص، أو الغموض البنّاء. وهي بالأخير كانت تمثل مرحلة انتقالية، وفي المراحل الانتقالية كما في التفاصيل تكمن جميع الشياطين.
ولكن الحقيقة ربما تكمن في هذا الجزء المستتر أو العامل غير المرئي في حينه، الذي جعل من الدوافع ومجموعة الضغوط والقيود المعقدة ولكن المتبادلة بين الطرفين، التي أملت عليهم التوصل إلى هذا الاتفاق كاتفاق ضرورة، وجعلته مليئاً بكل هذه الثقوب والثغرات، أشبه ما يكون بـ"الجبنة السويسرية". وهو الذي حجب عن كلا الطرفين التداعيات المحتملة في الانقلاب اللاحق عليه، وهو ما حدث بالفعل بقتل رابين أولاً واغتيال ياسر عرفات ثانياً حتى ليبدو اليوم وكأنه لم يكن وغير ذي صلة بالواقع.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"