بقلم: أكرم عطا الله
لِمن لم يتابع الرؤية الإسرائيلية التي ولدت منتصف ثمانينيات القرن الماضي، من حقه أن يتفاجأ بمخطط فصل غزة. ولمن لا يرى استراتيجيا ويعرف في التفاصيل من الطبيعي أن يصاب بالمفاجأة في اللحظات الأخيرة. ولكن كلَّ مَن له أذنان للسمع وعينان للرؤية والقراءة، يعرف أن الأمور كانت تتدحرج؛ لأن الفكر السياسي الإسرائيلي استقر منذ عقود على محطة فصل غزة، وليس لدى إسرائيل خيارات أخرى.
كيف ولد المشروع؟ ومتى؟ تلك قصة طويلة كتبنا فيها عشرات المقالات، وللتذكير فقط منذ لحظة اكتشاف إسرائيل أن تسارع الديموغرافيا يسير لصالح الفلسطينيين وسيضع إسرائيل أمام خيارات صعبة: إما الدولة الواحدة حيث يكون فيها اليهود أقلية أو دولة أبارتهايد عنصري تحكم الأقلية فيها الأغلبية العربية، فكان لا بد من تخفيف الحمولة وكانت غزة المرشحة فهي المنطقة غير المسيطر عليها إنجابياً وبمساحة صغيرة فقيرة ومشاكسة ومنبوذة توراتياً. من لا يعرف ذلك لم يقرأ ويسمع ويرَ وتلك مشكلة.
مع نهاية الأسبوع الماضي، كانت السلطة الوطنية تستشيط غضباً؛ على الموقف أو المحور الذي قرر فجأة تجاوزها بقرار من الرئيس الأميركي، بتوجيه المساعدات لغزة دون المرور بها، وذلك الموقف الذي يمثله نيكولاي ميلادينوف ممثل الأمم المتحدة. والتمويل والتنفيذ تم بتعاون قطري إسرائيلي، بل وذهبت قطر أبعد؛ عندما أعلنت عن دعم بـ 150 مليون دولار لغزة، إضافة إلى استعداد للتمويل؛ فيما لو قررت السلطة وقف كل شيء عن قطاع غزة.
الحقيقة أنني أندهش من كل المندهشين في السلطة ومن كل المندهشين من السلوك القطري، كأن ما يحدث هو شيء جديد تجاه منطقة تم خلع السلطة منها بقوة السلاح وبادرت قطر بمشاريع في هذه المنطقة، وهنا في بيان اللجنة التنفيذية التي اجتمعت، الخميس الماضي، رافضة "دخول أي دولة للعمل" في مناطق تخضع للسلطة قانونياً، طبعاً دون الإشارة بالاسم، ما يثير تساؤلات حول السنوات الماضية.
ليس هناك مواطن في قطاع غزة ليس سعيداً لإدخال السولار من أي جهة؛ لأن الظلم والظلام الذي ساد لسنوات تجاه هذه المنطقة أكبر من أن يمحى، وإضاءة الكهرباء لثماني ساعات طموح بالنسبة لهؤلاء المساكين الذين تركوا لسنوات طويلة كأنهم يتامى يتم سلخ جلدهم ومنعهم من الحركة والتنكيل في حياة انعدمت فيها شروط الإنسانية، دون أن يستمع أحد لشكواهم وأنينهم المتصاعد، ودون أن يفكر أحد أن في هذه المنطقة مَن يستحقون الحياة.
قد تكون التجربة ضرورية لتمرير عملية الفصل، وهي بالقطع مهمة لكيّ وعي الغزيين؛ لنزع روح الوطنية في منطقة تفيض بها، وقد يكون كل ما حصل تم وفقاً لسيناريو، فإسرائيل لا تبيع الزهور، ومراكز دراساتها ليست منظمات مجتمع مدني، وغزة منطقة مهمة كان يجب التخلص منها، وهذا المشروع يتعلق باستمرار الدولة نفسها وبقائها، ولا يمكن السماح لأي عمل في غزة بعيداً عن موافقة إسرائيل. وفي اللحظة التي رفضت مساعدات أو سفناً تركية وقتلت مواطنين أتراكاً وضحّت بعلاقتها مع دولة إقليمية كبيرة مثل تركيا، ثم اعتذرت ودفعت تعويضاً، لكنها في نفس الوقت سمحت لقطر بكثير من العمل وبرصف شوارع وبينما كانت تمنع إدخال الاسمنت لسنوات إلى غزة؛ بحجة بناء الأنفاق، فإنها تسمح لقطر بإدخاله ورصف شوارع وبنى تحتية.. كيف؟ ولماذا؟ كنا نجيب مازحين بأن دولة غزة بحاجة لبنية تحتية، وحتى لا يبدأ العمل من الصفر، ولأن مشاريع الشوارع تستهلك وقتاً طويلاً يجب إذاً البدء بها مبكراً.
ولكن إذا كنا نعرف بشكل واضح بالمشروع الإسرائيلي، الذي يعتبر أن مجيء رئيس - على درجة من جهل التاريخ - على رأس الولايات المتحدة يتماهى مع الرواية الإسرائيلية أكثر من قادة أحزاب اليمين والتي تعتبر أن تلك فرصة ثمينة ستتمم فيها كافة مشاريعها: القدس، اللاجئون، فصل غزة. وإذا كنا نعرف أن الخطوات التي تتم بقرار أميركي وبتواطؤ دولي وبتمويل قطري، هدفها فصل غزة، فماذا علينا أن نفعل؟
ليس المهم الآن تشخيص المؤامرة، ولا شتم المشتركين فيها، ولا إعادة اكتشاف مسار تم التدحرج له منذ سنوات - منذ أن أخرجت حركة "حماس" غزة من غلاف السلطة - والذي تسارع منذ عام ونصف العام، مع الإجراءات التي اتخذت تجاه غزة من قبل السلطة، ليسبح القطاع على بطنه ويصبح التدخل الإنساني فيه ضرورة ملحة.. وهكذا يتم الأمر باسم الإنسانية.
الحل الوحيد، ولا غيره، هو ما يقطع الطريق على كل المشاريع التي تعتبرها المنظمة مشبوهة، وذلك بالتفكير بكيفية عودة غزة لغلاف السلطة، خاصة بعد أن ثبت أن الإجراءات زادت من تباعد غزة وليس إعادتها. فقط بالمصالحة والانتخابات وبناء نظام سياسي للضفة وغزة وبالشراكة الوطنية، وتلك كلمة السر لدى شعب لا يزال تحت الاحتلال.. أما توجيه الاتهامات والانتقادات فلا يصنع سياسة وكأن مشروع الفصل اكتشاف جديد.. الأمر بحاجة لخطوة واحدة لقطع الطريق وهذه ممكنة لو...!
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"