بقلم/ رقيب عبد الرحمن المطيري
منذ أن احتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق عام 2003 وأسقطت الحكم القائم فيه آنذاك حاولت تغير المجتمع العراقي وفرض ثقافة مجتمعية جديدة تشمل كل جوانب الحياة فيه وربما فكرت أنها قد تنجح في جعله عامل تأثير في دول الإقليم خصوصا وإنها قد طبقت ما قالته سابقا بأنها ستعيد البلد إلى عصور التخلف وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد من خلال فرضها للحصار الجائر الذي شمل كل شيء يحتاجه المواطن العراقي لمواكبة تطور الحضارة العالمية فقد أعلنت بعد الاحتلال إنها مثلا لا حصرا ستعمل على تطبيق الحكم الديمقراطي في العراق والعمل على تداول الانتقال السلمي للسلطة بين الأفراد والأحزاب وإنها في ذلك ستجعل منه نموذجا يقتدى به ليس في المنطقة بل في دول العالم المتطلعة إلى التقدم واللحاق في ركب التطور العالمي في ذات الإنسان وفي إنتاجه ومن الطبيعي إن هذا شيء حسن يتطلع إليه الجميع في العراق أو في غيره وفي هذا السياق توالت انهارت أنظمة حكم عربية كنا نحسبها رصينة وقوية واهتزت عروش أخرى بدأت من تونس وشملت مصر وليبيا ولا زالت في المخاض العسير سوريا واليمن وربما تأتي البقية تباعا وحسب الضرورة التي تستشعرها أمريكا ومن معها.
لكي تتمكن الحكومة في أي دولة إذا توفرت القيادة النموذجية المخلصة الواعية لمهماتها والتي تمتلك الخبرة بحدودها الدنيا من صناعة التغير في مجتمعها مع وجود الإرادة الصادقة لابد لها أن تشخص الخلل أولا وتفهم المشكلة ومسبباتها ومن ثم طرق وأساليب معالجتها وإمكانيتها في التأثير في مجتمعها ونحن إذ نتحدث عن حالة العراق الذي عشنا تفاصيلها وعانينا من ويلاتها فان فيه كثير من المشاكل التي نتجت عن حروب استمرت أكثر من نصف قرن استنزفت إمكانيات الدولة وأضافت تحسينات وحصانة على قابلية الفرد العراقي فحروب بدأت من الشمال مع الأخوان الكرد تلتها الحرب الإيرانية العراقية ثم حرب الكويت وتدخل أمريكا إلى أن بدأت الصفحة الأخيرة عام 2003 كان اقتصاد الدولة حربي أي إن أكثير ميزانية الدولة كانت مخصصة في الإنفاق العسكري لان البلد كان إضافة إلى ما ذكرناه يعتبر دولة مواجهة مع إسرائيل كما حصل في كل الحروب العربية معها وعليه كان لابد لحكومة قامت على أنقاض هكذا ظروف أن تفكر بالنهوض بواقع البلد والمواطن المنهك ولكن حكومة السيد أياد علاوي بدأت برفع أسعار الوقود عشرة أضعاف دفعة واحدة فوقعت في أول فخ لان انعكاسات ذلك كانت على ارتفاع كافة السلع فانخفضت القدرة الشرائية للمواطن فعالجته بزيادة رواتب الموظفين وتشريع قانون لإعادة احتساب رواتب موظفيها لكنها تجاهلت إنهم لا يشكلون نسبة مهمة من إفراد الشعب فقد كان من نتائج الحصار إن نسبة كبيرة من الموظفين تركوا العمل في دوائرهم بالتزامن مع عزوف شبه كامل للخريجين من العمل في دوائر الدولة لتدني الأجور.
إن من مخلفات الحصار انه خلق مجتمع مليء بالمشكلات وبطبيعة الحال إن من يتصدى لحلها لابد أن يكون هو من يعاني منها وبما إن تلك الظروف قد خلقت طبقة واسعة من الأميين الذين يحتاجون إلى من يقودهم أي بمعنى آخر إن المجتمع أصبح بحاجة إلى ظهور طبقة سياسية تعي متطلبات المجتمع التي أنتجتها المرحلة وقد أصبح العراق مركز استقطاب للكثير ممن كان يعتبر نفسه في المعارضة ومتضرر من سياسة النظام السابق فدخل العراق آلاف ممن كان خارجه يحملون ثقافات مختلفة وبانتماءات فكرية قد تتقاطع بينها ولكنها في كل الأحوال مدعومة أما داخليا من المواطن الذي تاهت عليه البوصلة مع آلاف الشعارات المرفوعة وأما خارجيا معد مسبقا لمثل هذه المهمة وانتشرت ثقافات لم تكن معروفة في المجتمع العراقي تقوم على أساس طائفي أو عرقي غذتها الرغبة في الانتقام وإبعاد الخصوم انتشرت داخل المجتمع أدت إلى فشل فاضح في تقديم الخدمات التي يحتاجها المواطن استمرت طيلة الفترة الماضية وعلى مدى خمسة عشر عام ظهر إلى الساحة جيل جديد لم يعرف من الماضي إلا ما يرويه الآباء لكنه مع توفر الإعلام الموجه وما أتاحته مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الانترنت بشكل كبير من مساحة واسعة للاطلاع على حركة نمو المجتمعات في الخارج بالمقارنة مع الداخل اصدم هذا الجيل بواقع أكثر تخلفا عما كان يسمع فانتفض معززا بعنفوان الشباب مطالبا بحقوقه التي اقرها الدستور.
لقد عجزت الطبقة السياسية التي قادت البلد خلال الفترة الماضية عن تقديم ما يرضي طموحات الشعب فالصراعات الظاهرية وتبادل الاتهامات التي تحصل بين قياداتها انعكست على قواعدها الهشة فانفضت من حولها إلا مجاميع محدودة لان الشعب يدرك انه واحد وغير معني بما يقوله السياسي أو من يسانده من المنتفعين مع ما ينكشف من سوء استخدام للسلطة والخروج عن مضامين النظريات التي يحملونها والتعسف في التعامل مع المعترضين لذلك بدأت تطفو إلى السطح طبقة سياسية جديدة تطمح إلى قيادة الشعب وتسعى إلى الخلاص من الطبقة السياسية الحاكمة بالوسائل التي أتاحها لهم الدستور إبتداءا من التظاهر السلمي مرورا بالانتخابات وانتهاءا بمنعهم من الوصول إلى كراسيهم بأية طريقة.
إن ما يحصل اليوم هو صراع بين جيلين الأول هو من رافق الاحتلال ودخل من الخارج أثبتت التجربة فشله في إيجاد قاعدة شعبية ناضجة تحمل مبادئه وتكمل مسيرته الفكرية وجيل نمى وترعرع في الداخل انبثق من المعاناة الشعبية ونتيجة لفشل الجيل السابق وعجزه عن تربية من يليه بالشكل الصحيح وبالتأكيد ستكون المحصلة لصالح جيل الشباب كتحصيل حاصل لنمو المجتمع وكهولة الجيل الأول وشيخوخته ولكن الشعب العراقي سيخضع إلى تجربة جديدة ربما تنجح أو ربما تفشل ومن الصعب عليه جدا أن يبقى إلى الأبد حقل لتجارب نظريات الأجيال ولا يمكنه أيضا أن يبقى رهينة للتدخلات الأجنبية.
وبالعودة إلى البداية فان سلطة الاحتلال التي لا تعنيها المشاكل في الداخل قد جاءت لهدف مرسوم تسعى إلى تحقيقه لعدم وجود قيادة شعبية أهملت دراسة أسباب مشاكل العراق وإنها وان كانت تعرف أسبابها فغير معنية بحلها لأنها هي في ذاتها إحدى أسباب المشكلة.