قائمة الموقع

الانقسام الفلسطيني بين عصرين

2018-12-29T08:27:00+02:00
انهاء الانقسام

بقلم: حسين حجازي

قال السيد المسيح عليه السلام الذي نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده المجيد: ان البيت الذي ينقسم على نفسه مصيره الزوال او الدمار. لكن ياسر عرفات سوف يقول في ثمانينات القرن الماضي وفي ذروة الانشقاق الكبير في حركة فتح، الذي قاده العقيد ابو موسى وخروج الجبهتين الشعبية والديمقراطية من المنظمة، ما اعتبر انقساماً فلسطينياً غير مسبوق في أهميته، "إن الثورة التي تخشى من الانقسام لا تستحق البقاء أو الوجود".

والواقع أن ما بدا في موقف عرفات تحدياً أو عدم الخشية والخوف من المرور بالتجربة، ربما لثقة واضحة بالنفس، وأكثر من ذلك صمت عن قوله أنه في الحالة الفلسطينية كان هو نفسه وشخصيته ووزن حضوره الشخصي، بمثابة الضمانة لئلا يفتك الانقسام بالثورة الفلسطينية والبيت الفلسطيني. اذا كان هو من هو برمزيته وقيادته الكارزمية والأبوية، وحينما كان في تونس أو دمشق او حتى في الطائرة فانه هو من يمثل القضية الفلسطينية والقضية الفلسطينية، والتي تظل بشخصه على الدرجة 100 من الغليان، حتى انه كان يسخر من الحدود وقيود الجغرافيا ويصف الثورة بانها ثورة بساط الريح الاسطورية، في إشارة إلى قدرة الفلسطينيين على الطفو وتجاوز العقبات.

وقد نُحاجج عرفات اليوم بان الانقسام الذي تشهده الساحة الفلسطينية في عقد الثمانينات حتى وإن بلغ ذروة من الاحتراب المسلح كما حدث في معركة طرابلس، وكان يقف وراء هذا الانقسام قوة اقليمية كبرى وقوية على رأسها زعيم لا يُخفي عناده وطموحاته في السيطرة على القرار الفلسطيني هو حافظ الأسد، إلا أن هذا الانقسام على أهميته كان قد انتهى فعلياً بأي أثر له أو تداعيات، لمجرد مناورة حاذقة وبارعة وجريئة، حين خاطر عرفات بحياته وذهب سراً من قبرص إلى طرابلس، وخاض هناك حربه المفتوحة ضد خصمه حافظ الأسد، ثم حمل جنوده بالسفن الفرنسية وعاد إلى مقر إقامته في تونس. ويبدأ حواراته مع حواتمة وحبش ليعيدهما العام 1987 في قاعة الصنوبر في الجزائر تحت مظلة المنظمة.

أما الآن، فنحن نتحدث عن انقسام آخر، انقسام لم نعهد له مثيلا أو تجربة من قبل، لأنه يتأسس لا على السياسة وحدها وانما على الجغرافيا أي انقسام جيو سياسي، إلى الحد الذي فشلت كل الحوارات والاتفاقات والوساطات بل والضغوط الممكنة في حله. واذ تطاول في الزمن فانه ما يخشى الآن هو التسليم واقعاً به.

كان الانقسام في الثمانينات هو بمثابة نهاية هذا الذيل السيئ من المحاولات التي لم تتوقف قبل ذلك، في محاولة أطراف في النظام العربي إعادة إلحاق الفلسطينيين في سياق طموحات هذه الأطراف، والحديث هنا يدور حول الدور الذي لعبه كلا الرجلين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي صدام حسين في عقدي السبعينات والثمانينات، اللذين ربما نظرا إلى هذه المحاولات التي تهدف الى التحدث باسم الفلسطينيين، كتأكيد على شرعيتهما وادعائهما حول دورهما باعتبارهما ممثلي تيار القومية العربية وحزبهما الحاكم باسم هذه القومية، أي حزب البعث العربي الاشتراكي.

وكانت هذه المحاولات تتغطى بالمزايدات الإعلامية والسياسية على السياسة البراغماتية لعرفات وحركة فتح، كما تتغطى بالشعارات اليسارية والراديكالية في رفض التسويات السياسية والعداء للامبريالية الاميريكية واسرائيل.

لقد كانت الحلقة الرئيسية في هذا الانقسام خارجية وإن كان هذا الانقسام السابق بخلاف الانقسام الحالي يضرب عميقا أو داخليا، يهدد أُسس التحالف او الائتلاف الفلسطيني الداخلي، بل ويحاول ضرب التيار المركزي القائد لمنظمة التحرير الفلسطينية من داخله، والمس بأسس وحدانية وسلامة التمثيل الفلسطيني. وهو تهديد كان ينطوي على الخطورة، ولكن التوازنات العربية نفسها كانت بمثابة الحلقة المضادة لإحباط هذه المحاولات، التي ظلت معزولةً لا تمس بالشرعية الفلسطينية أو قوام التمثيل الفلسطيني. وفي غياب أو انعدام دور حاسم للجغرافيا فإن هذه الانقسامات تبدو بمنظار اليوم كما لو انها مجرد غيمة عابرة لم تصمد طويلاً، كانت حتى عام 1987 قد تبددت تماماً.

هل نعرف الآن على ضوء هذه المقارنة او المراجعة مع الانقسام الماضي لماذا يبدو الانقسام الحالي أي الراهن اكثر استعصاءً؟، اذا كان هذا انقساماً لا يضرب ائتلافاً أو مبنى قائماً أو حتى مدفوعاً ويتحرك من الخارج، وانما هو انقسام يحدث على خلفية إعادة تأسيس مبنى أو ائتلاف لم يكن مرة قائماً، انقسام يجري على خلفية الاتفاق على شراكة جديدة او شراكة بكل المقاييس، لم تكن بنفس التوازنات او المعايير في أي مرة قائمة او يعرف الفلسطينيون لها سابقة او نموذجاً يعيشون او يبنون عليه أُسس هذه الشراكة المختلف عليها، وبالتالي هذا انقسام يطرح إعادة تكوين او تشكيل النظام الفلسطيني على نحو جذري، كما لو أننا عشية تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أو الإطار السياسي الفلسطيني من جديد.

هل استمعتم إلى المواقف التي عبرت عنها الحكومة الشرعية اليمنية وممثلو الحوثيين خلال المفاوضات التي جرت بينهما مؤخراً في السويد؟ حيث يكاد الطرفان اليمنيان يتحدثان بنفس اللغة والمواقف التي يتحدث بها الطرفان الفلسطينيان أي فتح وحماس. السلطة الشرعية اليمنية التي تطرح أولاً إزالة آثار الانقلاب الحوثي وتسليم أسلحته على أن يعود الحوثيون كجزء من النظام السياسي مثل باقي الأحزاب، وليس كند أو طرف مقابل للنظام.

وهو نفس الموقف الذي تتمسك به السلطة الفلسطينية الشرعية في رام الله، التي تطالب بتمكينها اولاً وتسليمها غزة قبل أي حديث آخر. بينما يتمسك الحوثيون و"حماس" معاً بالاتفاق أولاً على الإطار او النظام السياسي أي بالمشاركة في الإطار القيادي للمنظمة وحكومة الوحدة الوطنية. ولكن الاختلاف الوحيد هنا هو أن المفاوضات اليمنية تدور تحت تأثير التدخل الدولي الضاغط لإنهاء الأزمة بينهما وعدم توقف الحرب بكل ما يعني ذلك من تداخل وتشابك خطوط التماس والمواجهة، أي مناطق السيطرة الجغرافية لكلا الطرفين.

بينما في الحالة الفلسطينية فإن المواجهة العسكرية كانت قد حسمت قبل اثني عشر عاماً، وأن الفصل الجغرافي هو الحلقة الرئيسية التي لا يمكن تجاوزها الا عبر تنازلات جوهرية يقدمها الطرفان معا في السير الى منتصف الطريق، لكي يمكن الاتفاق على إنتاج التسوية الخلاقة والجديدة التي يمكن أن ترضي الى حد ما مطالب الطرفين.

والذي حدث مؤخراً مع إعلان الرئيس أبو مازن حل المجلس التشريعي، والذي تمتلك "حماس" أغلبيته وكان لا يزال يعقد جلساته في غزة، ورفض حماس الانصياع لهذا القرار، فان السلطة الشرعية قررت عدم التنازل. وان الآمال السابقة على إمكانية حدوث التسوية الخلاقة عند منتصف الطريق أصبحت الآن بعيدة.

واذا صحت التوقعات ان ما بعد حل المجلس التشريعي هو الذهاب الى اعادة تعريب النظام الفلسطيني باسترداد ولاية المنظمة من السلطة، أي باعتبار الحكومة الفلسطينية القادمة حكومة المنظمة والدولة وليست حكومة المرحلة الانتقالية والسلطة، وبموازاة ذلك الذهاب الى الامم المتحدة مجدداً لفتح معركة الحصول على الاعتراف الاممي بالعضوية الكاملة للدولة الفلسطينية. فان هذا التطور قد يجعل الخيارات السابقة امام "حماس" أكثر صعوبةً. لكنه في الوقت نفسه قد يجعل خيار الفصل حقيقة اذا كانت الكلمة الحاسمة او الفاصلة ستكون عندئذ للجغرافيا، أي لواقع الانقسام الحقيقي وللعامل الرئيسي في تغذيته الاحتلال الإسرائيلي. اذا كان هذا الفصل سوف يقوض ما يسمى حل الدولتين الى قطعتين اولا أي بين غزة والضفة، ثم الى قطع متناثرة في الضفة.

وقد لا تكون هذه التقرحات في نهاية هذا الذيل السيئ الطويل من الانقسام بعيدا عن وعي وحتى حسابات الطرفين وكذا التحليل السياسي الفلسطيني بشكل عام. ولكن غير بعيد عن ذلك في رأيي ان الواقع نفسه او شجرة الحياة بتعبير الشاعر الألماني الشهير غوتا، هي دوما أكثر خصوبة واتساعاً من النظرية او الأفكار. أما الأمر الثاني فهو حصانة الإجماع العالمي على حل الدولتين والدولة الفلسطينية هي في الضفة وغزة معاً. والأمر الثالث فإنه على أعتاب العام الجديد أعاده الله علينا وعليكم جميعاً بالخير فإنه لا يمكن من الآن أن نراهن على حجم التغيرات المحتملة في منطقةٍ وعالمٍ يموج بهذه المتغيرات، وربما أهمها نتائج الانتخابات في إسرائيل وما يحدث في أميركا، وحيث إن أياً من هذه المتغيرات المتوقعة سوف يكون له تأثير على مصير الانقسام عندنا. الذي لا يبدو مع كل ما جرى ان الكلمة الأخيرة قد قيلت في مصيره. وحيث مع هذه المنخفضات شديدة البرودة والأمطار فان الله يبقى أعلى وأعلم.

عن صحيفة الأيام

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

اخبار ذات صلة