بقلم / مهنّد الصبّاح
" إنّ القبيلة إذا قوي سلطانها ضعف سلطان الدولة، وإذا قوي سلطان الدولة ضعف سلطان القبيلة"... ابن خلدون
العربي، جُبل على حبّ القبيلة التي كانت تعتبر مصدرا لأمنه الشخصي وتشبع رغبته في الانتماء للمجموعة بحيث يصبح جزءا من كل، وهي التي تؤمّن له إطارا قانونيّا حياتيّا ينظّم له معاملاته وعلاقاته البينيّة مع أقرانه وأنداده في مجتمعه الصحراوي، أو القروي قبيل الدولة المدنيّة، ويشكّل له درعا حاميا من أيّ اعتداء قد يتعرّض له من قِبل الآخرين. مع ظهور الدولة بكلّ أجهزتها الخدماتيّة والتنظيميّة وصياغة العقد الاجتماعي لم يعد هناك مبرر لبقاء هذا الحبّ المدمّر، إلا أنّ العربي يأبى سوى برهنة حبّه للقبيلة والعشائريّة. نحن في فلسطين لسنا بمعزل عن ذاك الحبّ الذي يتنامى يوما بعد يوم بفعل أيدينا، ربما فلسطين ليست دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إلا أننا غير معفيين من محاربة هذا الحب المقيت، بل كوننا ما زلنا تحت احتلال يتطلب منّا جميعا التكاتف والعمل نحو التمدّن، ونبذ مورثات وشوائب ترسّبت من الماضي؛ كي ندخل الدولة المنشودة بكلّ طاقاتنا الابداعيّة الحرّة. ثمّة ما يؤرّق المرء في الآونة الأخيرة من محاولات تهدف إلى مضاعفة حجم الدور الذي تلعبه العشائر والعائليّة في الأراضي الفلسطينية، سواء في البتّ في القضايا الخلافيّة بين الأفراد والعائلات، أو حتّى بين أجهزة الدولة ( السلطة ) وبين المواطنين. الأمر الذي يهدد استقرار المجتمع وانحرافه عن طريق التطور والارتقاء إلى مصاف المجتمعات المتحضرة، ويؤدي إلى طمس الطاقات والقدرات الفرديّة تحت عُتمة شيخ القبيلة وبالتالي تصعيد معدلات الهجرة لتلك الكفاءات إلى خارج البلاد. لا يمكن فهم تعاظم هذا الدور دون قراءة المشهد السياسي والفصائلي والاجتماعي بشكل عام، غياب القوّة التنفيذيّة للقانون، غياب دور الأحزاب في التوعية الجماهيريّة، تخلخل وتزعزع بنود العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وغيرها الكثير من العوامل التي أدّت بهذا الدور للبروز بشكل كبير، لننظر قليلا إلى موقف العائلات والعشائر في مدينة الخليل تجاه حراك الضمان الاجتماعي، وموقفها أيضا من تصريحات وزير الحكم المحلي المستهجنة مؤخرا ، وهناك نبأ أوردته وكالة وطن للأنباء يفيد بتوسّط رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية لحلّ الخلاف مع عائلات المدينة. ولنعد قليلا بضعة أشهر إلى الوراء، جميعنا يذكر كيف أمّنت أجهزة السلطة في إحدى مدن الخليل إجلاء عائلة بأكملها تنفيذا لحكم عشائري جرّاء جريمة قتل، وقبلها بقليل نذكر تماما كيف تمّ صياغة حلّ عشائري بين جهاز للسلطة وبين عائلة مغدور قتله أحد عناصر هذا الجهاز في بلدة العيزرية. نظرية الفراغ، هي ما يمكن أن يفسّر محاولات مأسسة العشائريّة، وليس حبّ العربي للقبيلة وكُرهه للمدنيّة وسيادة القانون، يقول ابن خلدون في مقدّمته " إنّ القبيلة إذا قوي سلطانها ضعف سلطان الدولة، وإذا قوي سلطان الدولة ضعف سلطان القبيلة". إذن العلاقة بين العشائرية والسلطة هي علاقة عكسيّة، والسلطة هنا بمفهومها الحديث الشمولي( أجهزتها الثلاث، الأحزاب، مؤسسات المجتمع المدني ودورها في رسم السياسات العامة،..،. ). كل ما ذُكر آنفا عزز السعي وراء مأسسة قانون وحكم العشائر، مثال على ذلك ما يحدث مؤخرا من عقد مؤتمرات ترعاها إحدى الملتقيات العائليّة من أجل تنظيم العمل العشائري في المدينة المقدّسة – ربما مدينة القدس تعاني من ظروف خاصة، تختلف عمّا سواها من مدن الوطن وتستدعي التصدّي للقانون الإسرائيلي الهادف للسيطرة عليها -. لكن هذا المثال ليس منفصلا عمّا يجري في باقي المحافظات. تعزيز العشائريّة والقبليّة سيؤدي بالضرورة إلى انتاج نظم عشائريّة متضاربة فيما بينها، ممّا يدفع إلى تكتّلات عائليّة وتحالفات تكون بمثابة قبائل تسكن البيوت الحجريّة، لها منظومتها الدافعيّة والاقتصاديّة وربّما تمثيلية في أيّة انتخابات قادمة- محليّة وبرلمانيّة وحزبيّة -. هذه المنطومة إذا ما تمّ التعامل معها بشرعيّة وبحكم الأمر الواقع ستؤدي إلى تلاشي أيّة ملامح ممكنة من ملامح الدولة الحديثة والمدنيّة، وستصبح الدولة عبارة عن ألعوبة بيدها تأتمر بأمرها، وسيكون رأس كلّ عشيرة ذو نفوذ اخطبوطيّ وحكمه غير قابل للنقد، وسنشهد صراعات للسيادة بين تلك التكتلات في عموم الوطن. وربما وصل بنا الحال إلى إحياء معسكري اليمنيّة والقيسيّة، وإعادة ارتداء العباءة ذات اللون الأبيض وتلك ذات اللون البُنيّ، بدلا من الانصهار في عمليّة التحضّر جميعا. وهذا ما يريده الاحتلال للسيطرة علينا من خلال تطبيق النظريّة الانجليزيّة " فرّق تسد ". وهو بدوره سيعزّز هذه النزعة، وسيعطيها نوعا من الاعتراف؛ كي يتقبّلها الشعب أكثر فأكثر، وربما سنسمع بمصطلح احتلاليّ جديد ( روابط العشائر في يهودا والسامرة ) على غرار روابط القرى سابقا في حال الإعلان عن انتهاء فعاليّة السلطة الفلسطينية وانتفاء مبرر وجودها. لا بدّ من التحرّك من أجل انقاذ البلاد من غياهب الماضي وعدم استجلاب كل شوائبه، كيف يعقل أن يكون العالم المتحضر يتحدّث عن إنتاج " روبوت " مجهري يسري في عروق الإنسان، وينقل الدواء حيث شاء الطيب المُعالج داخله، ونحن لا زلنا نرّقع عباءة أجدادنا في الصحراء؟