بقلم: أكرم عطا الله
ارتياح في إسرائيل للطريقة الجديدة التي ستصرف بها الأموال القطرية؛ بعد أن تلقّت حكومتها ما يكفي من الانتقادات من المعارضة وحتى من بين مَن كان حتى الأمس وزيراً للدفاع فيها، وارتياح أكبر لدى أهالي الجنود الأسرى في قطاع غزة؛ لأن حركة «حماس» لم تقابل هذه الأموال بالتهدئة التامة التي تريدها إسرائيل، ما وضع حكومتها في وضع حرج.
حاولت حكومة نتنياهو ابتزاز «حماس»، وأن تنتزع من الحركة ما يغطي الانتقادات في الداخل الإسرائيلي. وبالمقابل كانت «حماس»، خلال الأيام الماضية، تحاول أن تكون حريصة على ألا تقدم أي شيء. كان الأسبوع الماضي أشبه بلعبة عضّ الأصابع. كل يضغط على الآخر بما يملكه من أدوات مستغلاً نقطة ضعفه بثمن. و»حماس» تريد المال بلا ثمن، فمن يصرخ أولاً.
إسرائيل كانت تريد الهدوء، لكنها لم تشعر بأنه تحقق منذ بدء إدخال الأموال لرواتب الموظفين، لهذا كانت تضغط، لكنها كانت تدرك أن مزيداً من الضغط ربما سيأتي بنتائج عكسية لا تريدها على الأقل خلال الأشهر الثلاثة القادمة. وحركة «حماس» تريد المال، لكنها تدرك أنه من الصعب الضغط أكثر على الحكومة الإسرائيلية وهي في الطريق إلى انتخابات؛ فلا يتحمّل رئيس الوزراء - الذي أصبح وزير الدفاع أيضاً وتحيطه ملفات الفساد - أي نوع من التصعيد، واقتراب الانتخابات سيدفعه لشن حرب شرسة، كما قال مهدداً عند حدود غزة.
إذا كانت الحسابات دقيقة وكل طرف يعرف جيداً قوة وضعف الآخر، وكل طرف يدفع بالأمور نحو حافة الهاوية للعب على رغبة الآخر، وكل طرف حريص على ألا تفلت الأمور نحو خسارات لا يريدها أي منهما، لذا كانت كل التقديرات تشير إلى مسار التهدئة وإدخال الأموال وعودة التفاهمات، ولكن ما حدث كان مختلفاً إلى حد ما، إلا أنه لم يخرج عن السيطرة حتى اللحظة.
ارتياح في إسرائيل لتغيير آلية صرف الأموال التي أحيلت للأمم المتحدة وعدم ممانعة لدى «حماس» نحو الآلية، والتي تم اختراعها على عجل من قبل السفير القطري، ما يشير إلى أن الأمر كأنه معداً سلفاً فالقرار كان سريعاً، والمفاجئ أيضاً أن الجهات الأمنية النافذة في إسرائيل كانت تدفع باتجاه إدخال الأموال، وتلك الجهات لمن يعرف كيف يتم اتخاذ القرار في إسرائيل يدرك أن توصياتها هي مقدمة لأيّ قرار، ولكن يبدو أن الأمر حين يتعلق بالانتخابات وبمستقبل رئيس حكومة فإن الأمر ينزاح أكثر لدى السياسيين.
وإذا كان السياسيون يخشون معارضة رأي جهات الأمن ولا يتصرفون بعكس توصياتها؛ خوفاً من المحاسبة إذا كانت معارضة التوصيات تؤدي إلى كوارث أو أزمات قد تطيح بمستقبلهم السياسي، لكن حين يصبح المستقبل السياسي على المحك قبيل الانتخابات يبدو أن قوة الأمن تتراجع، وهذا ما يحدث أو أنه جرى التوفيق بين الموقفين.
الحقيقية هي أن الجانبين سعيا مبكراً لعقد تهدئة أرادها كل منهما، وهي توفر لهما ما يريد كل طرف من الآخر وإن وفرت الحد الأدنى. لكن ما جرى أن تلك الصفقة رغم فقرها وهشاشتها بدلاً من أن تصبح مصدر ارتياح لكل منهما تحولت إلى مصدر للإزعاج والانتقادات والقلق لدى الحكومة الإسرائيلية و»حماس»، وبدا أنها ضعيفة بفعل عدم وجود اتفاق واضح، وكذلك وهو الأهم أنها تحولت إلى مادة للانتقاد ضد كل منهما، وسلّحت معارضيهما بدعاية قوية تم استغلالها.
فالحكومة الإسرائيلية ونتنياهو لم يتحملا تعاظم النقد والاعتراض على إدخال أموال لـ»حماس» وهي تستمر بالتظاهر على الحدود واستمرار أسر الجنود، وبدا تصوير نتنياهو كخانع لـ»حماس» وساهمت الحركة في إظهاره كذلك. و»حماس» من ناحيتها بدت كأن كل ما يعنيها هو المال لموظفيها، فتصاعدت الانتقادات ضدها، وتم تداول مصطلحات على نمط مقايضة الدم بالسولار والدولار والمال. وليس أدل على ذلك الأغنية التي تم إنتاجها في غزة عن المال وقطر والتي تسببت باعتقال الفنان علي نسمان.
إذاً تحوّلت الصفقة إلى عبء على الجانبين والذي أصبح ثقيلاً في الأسابيع الأخيرة، ما دعا للبحث عن صيغ جديدة تحفظ ماء وجه كل منهما. فإسرائيل أرادت وضع الشروط والابتزاز لتحقيق هدوء، و»حماس» أرادت المال والاستمرار، وكانت النتيجة الطبيعية ألا يتمكن الجانبان من الاستمرار والتحرر من هذه الصفقة التي تحولت إلى مادة للنقد والنيل منهما.
بعد أن تم تحويل الأموال للأمم المتحدة تنفست الحكومة الإسرائيلية وخرجت رابحة وتوقفت الانتقادات الداخلية، وكذلك حركة «حماس» حين أعلنت عن رفض المنحة توقفت الانتقادات وقلبت الموقف في صالحها، حتى أن أبرز خصوم الحركة التاريخيين في قطاع غزة وجدوا أنفسهم في مربع الإشادة بالحركة وموقفها. إذاً التراجع عن الصفقة كان أيضاً في صالح الجانبين، لذا لم تنزلق الأمور باتجاه تصعيد كان يتوقعه الكثيرون إذا ما تم التراجع عن الصفقة، سواء من ناحية تهديدات «حماس» أو إسرائيل. فالذي أحدثه تغيير مسار المنحة المالية كان أخف وطأة من استمرارها، لذا بدا للحظة كأن الجانبين خرجا رابحين وتلك ليست مفارقة. فـ»حماس» من ناحيتها لن تدفع الأمور نحو تصعيد كبير؛ لإدراكها أن الوضع الانتخابي يطلق يد الحكومة الإسرائيلية للحروب، وتلك لا تريدها. وإسرائيل من ناحيتها لن تدفع الأمور نحو مزيد من الاختناق حتى لا تندفع الأمور باتجاه تصعيد لا تريده، وبالتالي يمكن أن يستمر الجانبان بتوفير الحد الأدنى، كل طرف للآخر وفقاً لمستجدات اللحظة، فالمال يدخل غزة بشكل مختلف و»حماس» طليقة من الالتزام، لكن كلاً يعرف حدود الآخر.
هذا قد يستمر للأسابيع القادمة حتى الانتخابات الإسرائيلية، وستسعى إسرائيل لعدم دفع الأمور نحو الهاوية؛ حتى لا تحدث ردة فعل تقلب الطاولة. وستسعى كذلك «حماس» إلى الفعل بالمثل حتى لا تخرج إسرائيل للحرب. المسألة ستظل تحت السيطرة بحسابات دقيقة.. هذا ما أراده من صمّم مبكراً منحة المال والوقود لستة أشهر.. هذا قبل تحديد موعد الانتخابات، لكنه كان يعرف أن إسرائيل تريد هدوءاً لنصف عام فقط.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"