بقلم: واسيني الأعرج
للنص العظيم سلطانه القوي. صحيح، وراء كل نص عظيم رجل أعظم وتجربة خارقة، وإلا ما استطاع النص المنتَج أن يتوغل في أعماق البشر ليضفي الصبغة الإنسانية على الحكاية والسرد. نجد هذه العلامات في كثير من النصوص التي تؤثث اليوم ثقافتنا الإنسانية، لكن الذي يتجاوز المنطق المتعارف عليه والداعي إلى الكثير من الأسئلة هو كيف يتسنى لنص كتبه إنسان أن يستقل بذاته ويهرب عن كاتبه، بل يكتفي بذاته للتعريف بنفسه. الكاتب يصبح في موقع ثان، في الظل، قبل أن يذوب ويغيب نهائياً، على الرغم من أنه من حيث الوضع القانوني، يظل النص ملكاً لكاتبه.
لنا في بعض النصوص الإنسانية ما يؤكد هذه الظاهرة الغريبة، حيث يقتل النص مبدعه. دون كيشوت أو دون كيخوتي دي لامانشا (كُتب جزؤه الأول في 1605، والثاني في 1616) أنجزه ميغيل سيرفانتس، كاتب محارب، قضى وقتاً لا يستهان به في سجون الأعداء (المسلمين) والسجون الوطنية (الإسبانية) لأسباب متفاوتة، في الجزء الأول من القرن السابع عشر. استقبل النقاد صدور دون كيشوت بحماسة كبيرة، لدرجة أن كثيراً من الكتاب قلدوه، وأخرجوا الجزء الثاني من الرواية على أساس أنه لسيرفانتس. قبل أن ينكر سيرفانتس المخطوطة وينشر النص الحقيقي في 1616.
يبدو أن منتهى النجاح النصي لا يتم إلا بمحو الكاتب، وتتحول الشخصية الافتراضية إلى الشخصية الحقيقية، وترتقي شيئاً فشيئاً إلى النموذجية الشعبية، ويتم التركيز على الشخصية المبدَعة بدل المبدِع. كل الناس عموماً يعرفون دون كيشوت والقليل القليل من يعرف سيرفانتس باستثناء الطبقة العالمة. يُستحضر دون كيشوت في المواقف الهزلية الساخرة، والحكيمة، والمحاربة، يضرب به المثل وكأنه شخص حي ويعيش معنا، نجده في كل الأمكنة العامة على الرغم من أننا نعرف سلفاً أنه قادم من عهد الفروسية البائدة. نراه في واجهات الشوارع والمقاهي، والمحلات العامة، والمطاعم. أكثر من هذا كله، الناس يعرفون دون كيشوت من خلال الرواية الشعبية والمحكيات المتداولة أكثر من المعرفة القرائية. جيل نشأ في التوريث الحكائي كما الأحجيات، لكنه غير منشغل بوجود كاتب (ميغيل دي سيرفانتس) للنص من عدمه.
منتهى النجاح النصي لا يتم إلا بمحو الكاتب، وتتحول الشخصية الافتراضية إلى الشخصية الحقيقية، وترتقي شيئاً فشيئاً إلى النموذجية الشعبية، ويتم التركيز على الشخصية المبدَعة بدل المبدِع.
طبعاً، للعامل الزمني قيمة في حدوث النص المتعالي عن مؤلفه. اليوم، كل الناس يعرفون دون كيشوت؛ الأطفال أنفسهم يستمتعون بالمسلسلات الكارتونية المأخوذة من كتاب سيرفانتس، أو الأفلام الطويلة، ولكن لو تسأل أي واحد منهم عمن يقف وراء هذه القصص قد تواجه بكلمتي: لا أعرف.
سقف نجاح الكتاب هو قتل مؤلفه. وهذا ما حدث أيضاً مع رواية كارمن لبروسبير ميريمي (كتبها في 1845 ونشرت في 1847) التي محت كلياً شخصية الكاتب ميريمي. فقد تنصلت كارمن، الشخصية النسوية المتمردة، عن كاتبها وأصبحت رمزاً حياً للمرأة المتمردة، بل دخلت في الطقس الاجتماعي الإنساني المقاوم للابتذال وتكرار الحياة، حتى أن كاتبها لا يُذكر إلا نادراً، والقليلون هم المعنيون به. كل عشاق كارمن من القراء يعرف تفاصيل حياة كارمن وقصتها وماذا حدث لها في تحديها الكبير ضد الرجال: غارسيا زوجها، دون خوسي، والبيكادور صراعها مع الذكورة المتخلفة، سجينة القوة والعنف، نزعتها الغجرية، حياتها الصعبة. الفنون التي شكلت قاعدة لشيوعها ودفعت بها إلى تخطي كاتبها وتحقيق وجودها خارجه. السينما والموسيقى والمسرح أعطت ترسخاً كبيراً لشخصية كارمن في قطاع شعبي واسع، بل أنسنتها بعمق، وبعثت بها نحو الثقافة الإنسانية الأكثر شمولية واتساعاً، وأخرجتها من دائرتها الغجرية الضيقة ومن عالمها الأندلسي. مما لا شك فيه هو أن بروسبير ميريمي هو من منحها حق الوجود، هو مبدعها وكاتبها، لكنها انتزعت منه حقها في الخلود والاستمرار الأبدي في الوجدان الإنساني العام. سلطة الشخصية طغت على كاتبها ومحته بشكل شبه نهائي.
وهو ما حدث أيضاً مع رواية ألكسيس زوربا (تأليف نيكوس كزانتزاكي. صدرت، 1946) على الأقل قراء المئة سنة الأخيرة الذين التهموه وكأنه حقيقة، بل من لم يره مجسداً أمامه في شخصية شبيهة له، مثلما ارتسمت في أذهاننا، ويمكننا أن نتخيل كم من صورة ارتسمت في أذهان الملايين من القراء لزوربا؟ في كل صورة الكثير من ملامح النموذج، وهنا زوربا، لكن فيها أيضاً الكثير منا.
من منا لم يحلم يوماً بأداء رقصة سيرتاكي على سواحل جزيرة كريت، وتمنى أن يكون معلمه فيها زوربا كما حدث لبازيل، الكاتب البريطاني الذي شغف بحرية زوربا في كل شيء؟
من منا لم يحلم يوماً بأداء رقصة سيرتاكي على سواحل جزيرة كريت، وتمنى أن يكون معلمه فيها زوربا كما حدث لبازيل، الكاتب البريطاني الذي شغف بحرية زوربا في كل شيء؟ كيف استطاع ميكيس تيوتوراكسيس أن يجعل من رقصة سيرتاكي اليونانية رقصة الحلم وكأنه كان يعرف ذلك الرجل الستيني الذي تعشقه النساء لنبله ورهافة عمقه، ولا حلم له إلا الموت حراً، كما عاش حراً؟ كيف لبسه كلياً الممثل القدير أنطوني كوين في فيلم زوربا الإغريقي (إخراج ميكايل كاكويانيس 1964)، لدرجة أصبح فيها من الصعب كلياً الفصل بينهما؟ ومع ذلك، ورغم من ذلك كله، يظل كاتب النص نيكوس كزانتزاكي غائباً تحت سطوة زوربا.
لنا في الثقافة العربية نموذج شبيه وقريب من هذين النصين، ألف ليلة وليلة (الذي كُتِب في القرن التاسع الميلادي، حسب الباحثة الأمريكية، نبيه ألبوت. هذه الفرضية تتقاطع مع ما أورده المسعودي وابن النديم في القرن العاشر، اللذان يقربان ألف ليلة وليلة، من ألف حكاية، الفارسية) وشخصيتاه شهرزاد وشهريار. الأنوثة في مواجهة غطرسة وطغيان الذكورة القاتلة. كلنا نعرف شهرزاد وشهريار ولا أحد فينا منشغل بفكرة المؤلف الذي امحى. طبعاً نتفق مع الفكرة التي تقول بأن نص ألف ليلة وليلة هو تركيبة إنسانية من الثقافات الشرقية العربية، الفارسية، الهندية المغولية وحتى العثمانية، وغيرها، لكن لابد من يد أو عقل متعال استطاع لملمة كل هذا الشتات من الليالي ويشكله إبداعياً ليصبح حكاية ذات معنى. ثم إن النص لم يبق في الدائرة الشرقية ولكنه سافر بعيداً نمو العالمية والإنسانية. أينما ولينا أوجهنا فثمة حضور لشهريار يأمر بكل جبروته، وشهرزاد ترد بكل عنفوان أنوثتها وذكائها.
اسم الكاتب أمام سلطان النص لم يعد ضرورة، حتى ولو أن الأدب الشعبي تركيبة جماعية تاريخية. لا يتساءل قارئ ألف ليلة وليلة عن الكاتب المفترض، فالنص مكتف بذاته.
لهذا، فتغييب الكاتب هو أجمل ما يمكن أن يحدث لنص من النصوص، لأن الكتاب وقتها لا يتحرر فقط من الكاتب، ولكن أيضاً من الزمن. يصبح لا زمنياً. الكاتب يموت وينتهي تحت التراب، بينما يواصل النص الإنساني تحليقه عالياً بلا حواجز، ولا ظرفيات خاصة.
- عن صحيفة القدس العربي