بقلم/ د. محمود محارب
ارتكبت قيادات الجبهة والتجمع والإسلامية الخطأ تلو الآخر في معالجتها انسحاب أحمد الطيبي من القائمة المشتركة، ما أضعفها أمام الناس وعزز من مكانته. وتصرف قادة هذه الأحزاب وكأنه لم تبق أمامهم أية وسيلة أو حيلة لإعادته إلى القائمة المشتركة سوى اختطافه وإرغامه عنوة للبقاء في المشتركة.
منذ أكثر من شهر سحب أحمد الطيبي رسميا حركته العربية للتغيير من القائمة المشتركة استعدادا لخوض الانتخابات بشكل منفصل، وطالب برئاسة القائمة المشتركة وبزيادة أعضاء الحركة العربية للتغيير في الأماكن المضمونة للقائمة المشتركة بما يتلاءم مع قراءة العربية للتغيير لقوتها الانتخابية. وبعد عدم تلقيه جوابا يتلاءم مع ما يصبو إليه، أعلن الطيبي مرارا وتكرارا أن حركته ستخوض انتخابات الكنيست القادمة بشكل مستقل. وبرر قراره بجملة من الأسباب كان من ضمنها أن شعبيته الشخصية تفوق شعبية جميع أعضاء الكنيست التابعين للمشتركة بنسبة كبيرة جدا، وأن شعبية حركته تحت قيادته تؤهلها ليس فقط في عبور عتبة الحسم وإنما أيضا في منافسة القائمة المشتركة في الحصول على أصوات الناخبين العرب. وعزز الطيبي موقفه باستطلاعات الرأي العام الإسرائيلية التي أظهرت أغلبيتها تمكن حركته من عبور عتبة الحسم، وحصولها على مقاعد في الكنيست شبيهة بمقاعد الكنيست التي تحصل عليها القائمة المشتركة.
تخبط واستجداء
في مقابل وضوح الهدف عند الطيبي، فشلت قيادات الجبهة والتجمع والإسلامية في قراءة الواقع، ولم تتعامل مع انسحاب الطيبي من القائمة المشتركة بالحد الأدنى من المسؤولية والجدية، علما أن سعي الطيبي وتحضيره للخروج من المشتركة كان واضحا للعيان منذ شهور طويلة بل منذ سنوات. وبدل أن تستنفر القائمة المشتركة فورا قوتها وتتبع إستراتيجية تدفّعه ثمن خروجه على البرنامج المطلبي المشترك وعلى وحدة الصف، اتسمت ردات فعل قادة الأحزاب الثلاثة بالتخبط والتذبذب والتناقض.
وبدر من قادة الأحزاب الثلاثة العديد من غرائب الأمور، لا مجال هنا لذكرها، ولكن نكتفي بالإشارة إلى بعضها. فقد صرح مثلا قادة الأحزاب الثلاثة مرارا وتكرارا أنه إذا خاضت الحركة العربية للتغيير الانتخابات بمفردها فإن كل حزب من مكونات المشتركة سيخوض الانتخابات لوحده. علما أنه إذا خاضت الأحزاب الأربعة انتخابات الكنيست بشكل منفصل فإنه من الصعب جدا أن يتمكن أي منها من عبور عتبة الحسم التي تبلغ ثلاثة وربع بالمئة من أصوات مجموع المقترعين للكنيست، والتي تقدر بنحو 145 إلى 155 ألف ناخب.
ولم ينطل هذا التهديد لا على عاقل ولا على مجنون، وبالتأكيد ليس على الطيبي. وأكثر من ذلك، أضعف هذا التهديد موقف الأحزاب الثلاثة في الدفاع عن وحدة الصف التي تنادي بها. فكيف لها أن تنادي بوحدة الصف وفي الوقت نفسه تصرح بأنها ستخوض الانتخابات منفردة مثل الطيبي.
ورغم استمرار تمترس الطيبي في موقفه يوما بعد آخر، وإصراره الدائم على خوض الانتخابات بشكل منفرد، استمر قادة الأحزاب الثلاثة في تدليله ومناشدته بالعدول عن قراره، إلى تلك الدرجة التي باتت هذه المناشدة تقترب من الاستجداء. وعقد قادة الأحزاب الثلاثة اجتماعا مع لجنة الوفاق، أجمع المشاركون في هذا الاجتماع على ضرورة الحفاظ على المشتركة، وعلى أنها خيار استراتيجي، ودعوا الحركة العربية للتغيير إلى العودة إلى طاولة المفاوضات لتذليل جميع العقبات، وأكدوا أنه "لا خطوط حمراء عند أي مركب من مركبات المشتركة وكل المواضيع مطروحة للحوار والنقاش".
ولم توضح قيادات الأحزاب الثلاثة ولجنة الوفاق إذا ما كان واردا أيضا أن يرأس الطيبي القائمة المشتركة. ثم عرضت قيادة الأحزاب الثلاثة على الطيبي ثلاثة مقاعد مضمونة في قائمة المشتركة لإعادته إليها، بيد أن الطيبي رفض الإغراء، وأصر على موقفه في خوض الانتخابات بشكل مستقل.
ولم توضح قيادات الأحزاب الثلاثة حتى الآن سبب عدم قبولها مطلب الطيبي برئاسة القائمة المشتركة إذا كانت متمسكة به لهذه الدرجة التي تعدّت التدليل والاستجداء. والغريب أن أي أحد من أعضاء الكنيست التابعين للقائمة المشتركة لم يرد على ادعاء الطيبي بأن شعبيته تفوق شعبية جميع أعضاء الكنيست التابعين للمشتركة بكثير جدا. جميعهم بقوا صامتين وخانسين.
والغريب أيضا أن قيادات الأحزاب الثلاثة لم تعالج مدى دقة استطلاعات الرأي العام التي تجريها مؤسسات إسرائيلية، التي تكون عينتها عادة قليلة من المستطلعين العرب لا تتجاوز بضع عشرات، ولم تجر الأحزاب الثلاثة أو بشكل أدق لم ينشر أي من الأحزاب الثلاثة استطلاعات التي تظهر مدى قوتها، فظل الانطباع بأن استطلاعات الرأي العام التي تجريها المؤسسات الإسرائيلية هي صحيحة. ولم تعالج مسألة موقف المؤسسة الإسرائيلية ووسائل إعلامها من المشتركة ومن أعضاء الكنيست العرب، وكيف ينبغي أن تكون نوعية العلاقة بين أعضاء الكنيست العرب والمؤسسة الإسرائيلية.
على أي حال هذا الدلال والوصال الذي حظي ويحظى به الطيبي لم يحظ به قادة حقيقيون. بل على النقيض من ذلك، فقد تعرض الدكتور عزمي بشارة، الذي لعب دورا محوريا في تأسيس وفي قيادة حزب التجمع، إلى التحريض الأرعن ودس الأكاذيب ونشر الافتراءات ضده من بعض الفئات التي تشكلت منها القائمة المشتركة ما يربو على عقدين، بهدف تشويه سمعته و"قتل الشخصية". لقد انشغلوا في التحريض ضد الدكتور بشارة سنوات طويلة لكونه قائدا وطنيا حقيقيا ومفكرا فذا يتمتع بالكاريزما والقدرة في إيصال فكر التجمع وبرنامجه ونشره بسرعه في صفوف العرب الفلسطينيين بهدف ضرب حزب التجمع، لاعتقادهم بأن الدكتور بشارة يشكل أهم عوامل قوة التجمع. ولم يعتذروا حتى الآن عن ذلك.
التراخي وعدم إدراك المرحلة
لم تدرك الأحزاب الثلاثة، بنسب متفاوتة، عند تأسيس القائمة المشتركة، أنها دخلت مرحلة جديدة، وأن الحزب الذي يريد الحفاظ على نفسه وزيادة قوته يجب ألا يتعامل مع القائمة المشتركة كبوليصة تأمين للحصول على تمثيل في انتخابات الكنيست القادمة. ولم تحرص على تطوير القائمة المشتركة من خلال تطوير العلاقات بين الأحزاب المشكلة لها، وتأسيس مجلس تنسيقي دائم لهذه الأحزاب لرعاية هذه العلاقات وتطويرها، كما كنت قد اقترحت ذلك.
ولم تحرص الأحزاب على تطوير ذاتها وتعزيز التمسك بمشروعها وبرنامجها الذي هو مبرر وجودها أصلا. وبعضها لم ينشر قرارات مؤتمرها وبرنامجها وبيانها السياسي الصادر عن مؤتمرها الأخير رغم اتخاذ مؤسساتها القيادية قرارا بنشره. أمر غريب! فبدل أن تعتز بمشروعها وببرنامجها تخبئه!
إلى جانب ذلك، لم يهتم أي حزب منها عند تأسيس القائمة المشتركة في إظهار تميزه من خلال الصدقية والإخلاص والنزاهة والتفاني في العمل. ولم تهتم في توسيع صفوفها وزيادة عدد أعضائها. وكذلك تقلص نشاطها في صفوف فئات مختلفة من المجتمع، سيما بين المثقفين وذوي النفوذ في المجتمع والشباب والطلاب الجامعيين. وفشلت الأحزاب في الحفاظ على لجان الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية، تلك اللجان التي كانت لعقود طويلة خلت منبرا مهما للغاية للحركة الوطنية، والتي خرجت الكثير من القيادات بينها قيادات الأحزاب نفسها التي تخلت عن هذه اللجان.
ولم تحافظ بعض هذه الأحزاب على القيم التي نشأت عليها وابتعدت عن قيم التحرر الوطني وعن الروح الرفاقية، واستبدت في جوانب منها الانتهازية، وبات الشغل الشاغل لبعض قياداتها في كيفية التمسك في الكرسي، وفي جمع المناصب، إلى أن اهتزت الأرضية التي تحت الكرسي وكادت أن تضيع.
ولم تتمكن هذه الأحزاب والحال كهذه من متابعة هموم الناس بالأهمية المناسبة والشكل الملائم. ولم تعمل بشكل جدي على تطوير وسائل اتصالها مع الناس، وتخلفت كثيرا في استعمال وسائل الاتصال الاجتماعي كرديف لوسائل الاتصال التقليدية التي أهملتها هي أيضا.
رغم كل ذلك تمتلك هذه الأحزاب رصيدا تاريخيا وتجرية نضالية التي يمكن البناء عليها سواء في انتخابات الكنيست أو في النضال الوطني العام. وما عليها إلا أن تقف مع ذاتها وقفة حقيقية صادقة وتحاسب نفسها وتمعن التفكير في العوامل التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه، وتعزز من عوامل قوتها ومن ثقتها بنفسها والتمتع بحد أدنى من الكرامة والتوقف عن استجداء الطيبي.
وإذا كانت الجبهة تثق بقدرتها على اجتياز عتبة الحسم، ولا تعترف بأن قوتها قريبة من قوة كل من التجمع والحركة الإسلامية، وتصر على قيادة المشتركة وتختلف مع التجمع والإسلامية على حصتها في المشتركة، فمن الأفضل أن تخوض الجبهة الانتخابات منفردة، تماما كما سيفعل الطيبي، وأن يخوض التجمع والإسلامية بقائمة مشتركة. أي أن تكون ثلاث قوائم. فتكون منافسة جدية فترتفع نسبة مشاركة العرب في الانتخابات.
إياك إياك يا الطيبي
أما أنت يا أحمد الطيبي فإياك إياك أن تتراجع عن قرارك بخوض انتخابات الكنيست بصورة منفردة. سواء كانت هناك قائمتان عربيتان أو ثلاث قوائم. صحيح أن المهمة أمامك صعبة، ولكن هذا قرارك الذي لا بد أنك اتخذته بعد حسابات دقيقة، فتمسك به. فثمة ادعاء قوي للغاية ضدك وسيبقى يطاردك ويلاحقك، وهو أنك لم تخض ولا مرة واحدة انتخابات الكنيست بشكل منفرد أو مستقل، وأنك وصلت إلى عضوية الكنيست بواسطة الأحزاب الأخرى، وأنه لم يبق حزب من الأحزاب التي تشكل القائمة المشتركة إلا وأوصلك للكنيست؛ وأن الشعبية التي تؤكد أنك تتمتع بها، لا تعني بالضرورة، إن صحّـت، أن بمقدورك تحويلها إلى قوة انتخابية لتوصلك إلى الكنيست. لذلك لا مناص أمامك إلا أن تثبت أنك تستطيع الوصول للكنيست بقوتك الذاتية وبقوة حزبك. هذا الطريق لا بد لك أن تسلكه ولو مرة واحدة، كما سلكته الأحزاب الأخرى بمفردها، حتى تصبح مكانتك مثل مكانتها أو تصبح ندا لها.
أما إذا تراجعت عن كل ما قلته في الأسابيع الأخيرة، عن ضرورة خوضك الانتخابات بشكل مستقل، وعن ثقتك بقدرتك اجتياز عتبة الحسم بشكل واضح، وتبين أن انسحابك من القائمة المشتركة ما هو إلا مناورة من أجل الحصول على تمثيل أكثر لحزبك فيها، فإن الناس ستتيقن أنك لم تكن صادقا في ما قلته وأنك ضعيف، أنت وحزبك، ولا تستطيع إطلاقا الاقتراب من عتبة الحسم، وأن كل ما قمت به كان ابتزازا رخيصا ضد القائمة المشتركة، وسيعاملونك كمحتال كبير الذي شن حربا نفسية على المشتركة من أجل البقاء في الكنيست على حساب الآخرين. فاحترم كلمتك والتزامك، واحترم عقول الناس وخض انتخابات الكنيست بشكل مستقل.