بقلم / جورج كرزم
بلورت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا مشاريع ضخمة، أسمتها "بيئية"، بقيمة نحو 400 مليون دولار أميركي، وبخاصة لإقامة وتطوير منشآت لمعالجة النفايات الإسرائيلية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، سواء تلك الناتجة من المستعمرات أو من إسرائيل. ومن أبرز تلك المشاريع بناء منشأة "تدوير" للنفايات شرقي مستعمرة "معالي أدوميم" (المقامة على أراضي بلدة العيزرية)، والتي ستعالج النفايات الإسرائيلية (من إسرائيل والضفة)؛ علما أن تكلفتها تقدر بنحو 216 مليون دولار ستوفرها وزارة البيئة الإسرائيلية وبلدية الاحتلال في القدس ومجلس مستعمرة "معالي أدوميم".
مجلة "آفاق البيئة والتنمية" التي تتابع منذ سنوات طويلة النشاطات والمشاريع الاحتلالية الاستيطانية التوسعية المغلفة بأغلفة بيئية، حصلت (من مصادر حساسة تنتمي إلى ما يسمى اليسار الصهيوني) على معطيات خطيرة تتعلق بمنشأة "معالي أدوميم"، مفادها أن جميع نفايات القدس (الغربية والشرقية) ستشحن إلى هذه المنشأة، بحيث يتم حرق معظمها، وتدوير الكميات المتبقية. كما سيتم دفن كميات كبيرة من النفايات الإسرائيلية ومخلفات حرقها في ذات المنشأة.
المشاريع الإسرائيلية الضخمة في الضفة الغربية حصلت على الموافقات والتصاريح من الجهات الإسرائيلية المعنية، وتحديدا وزارات البيئة والبنى التحتية والمالية والأمن، بالإضافة إلى "الإدارة المدنية" (وتحديدا ما يسمى منسّق أنشطة الحكومة الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينيّة). المصادر الإسرائيلية ذاتها أفادت بأن منسق عمليات الحكومة في الأراضي الفلسطينية عرض على ممثلي السلطة الفلسطينية، في اجتماع جرى بينهما مؤخرا، الملامح الرئيسية للمشاريع الإسرائيلية في الضفة الغربية!
مجلة "آفاق" أحصت، خلال السنتين الأخيرتين، أكثر من أربعين موقعا في الضفة الغربية تشتعل فيها نيران النفايات الإسرائيلية بشكل شبه دائم.
يمكننا، إذن، ملاحظة أن الموازنات الحكومية الإسرائيلية الضخمة تتواصل في التدفق سنويا إلى الضفة الغربية لتثبيت وتوسعة وتطوير البنى التحتية الاستيطانية، بحيث تتمكن من استيعاب المزيد من المستعمِرين الصهاينة؛ وذلك بتغييب إسرائيلي كامل للسلطة الفلسطينية، وكأنها غير قائمة. وكثيرا ما تنفذ المشاريع الاستيطانية المتعاظمة في الضفة تحت ستار "بيئي". وفي المحصلة، تهدف المشاريع الحكومية الإسرائيلية الجارية في الضفة، وبخاصة تلك المتصلة بالبنى التحتية (النفايات، المياه، المياه العادمة، الشوارع الواسعة والطويلة والجسور والأنفاق وما إلى ذلك)- تهدف إلى تثبيت وتعميق السيطرة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، وبالتالي تحضير الأرضية اللازمة لضم الضفة إلى اسرائيل.
ثُلثا النفايات الإسرائيلية الخطرة تدفن في أراضي الضفة
أشار تقرير أخير لوزارة البيئة الإسرائيلية، في أواخر عام 2018، إلى أن إسرائيل تنتج سنويا نحو 300 ألف طن نفايات خطرة، بما في ذلك مذيبات وأحماض خطرة وسامة جدا. مصدر الجزء الأكبر من هذه النفايات هو المصانع الإسرائيلية الكبيرة، بالإضافة إلى منشآت مختلفة مثل ورشات الدهان والكراجات والمطابع. وكشف تحليل أنواع النفايات الإسرائيلية الخطرة بأن النفايات المعدنية احتلت حصة الأسد من إجمالي النفايات الخطرة سنويا؛ إذ بلغت نحو 45 ألف طن. وتعد البطاريات التي تحوي معدن الرصاص السام من أهم مصادر النفايات المعدنية الخطرة. وأكد التقرير على عدم وجود توجه إسرائيلي لتقليل استعمال المواد الكيميائية الخطرة خلال السنوات القادمة، والتي تقدر بأكثر من مليون طن سنويا. وأفاد تقرير سابق لمجلة "آفاق"، بأن نحو ثلثي النفايات الإسرائيلية الخطرة، بما فيها مخلفات الصناعات العسكرية، أي نحو 200 ألف طن، يتم التخلص منها ودفنها خارج مكب النفايات الخطرة في "رمات حوفيف" الواقع في صحراء النقب، وتحديدا في أراضي الضفة الغربية.
الجدير بالذكر، أن الإسرائيليين يعارضون بشدة إقامة منشآت لمعالجة النفايات بمحاذاة مناطق سكنهم في إسرائيل، لأنهم يخشون من المخاطر البيئية والصحية. كما أن رؤساء السلطات المحلية الإسرائيلية يرفضون إنشاء مرافق لتدوير النفايات في المناطق الصناعية الواقعة تحت نفوذهم؛ بصرف النظر عن مدى حداثة تلك المرافق، لأنهم يخشون من أن يضعف ذلك قدرتهم على جذب مصانع أخرى إلى تلك المناطق. بينما الواقع في الضفة الغربية يختلف تماما، حيث تتكاثر مدافن النفايات الإسرائيلية ومواقع معالجتها وتدويرها؛ دون أي اعتبار للقانون الدولي.
وبالرغم من أن معالجة النفايات أفضل من التخلص منها أو دفنها بصورتها الخام، إلا أنها لا تزال صناعة ملوِّثة. فالعديد من عمليات معالجة النفايات، لا سيما النفايات الخطرة، يمكن أن تؤدي إلى مخاطر صحية وتلوث، بما في ذلك الأضرار التي تلحق بالمساحات المفتوحة؛ وتلوث المياه والهواء والأرض؛ والتلوث بالضجيج والغبار؛ والتلوث البصري والآفات.
أراضي الضفة كملاذ آمن
ورغم أن إسرائيل تملك نظاماً فنيا لمعالجة النفايات؛ إلا أن الرفض الداخلي لإقامة منشآت المعالجة داخل إسرائيل ذاتها، إلى جانب التكاليف المرتفعة الناتجة عن الأنظمة البيئية الصارمة، والقيود الدولية الخاصة بتصدير النفايات، شجع إسرائيل على استغلال الأراضي الفلسطينية في الضفة لإقامة مرافق معالجة النفايات عليها.
واللافت أن القوانين البيئية الإسرائيلية التي تطبق بصرامة داخل إسرائيل لا تسري على الضفة الغربية والمناطق الصناعية الاستعمارية فيها، بما في ذلك قانون الهواء النقي والقانون الذي يفرض تقديم تقرير حول انبعاث الملوثات إلى البيئة المحيطة. بمعنى أن المنشآت الإسرائيلية في الضفة التي تستوعب النفايات الإسرائيلية لا تخضع لأي رقابة أو تفتيش، كما هو الحال في إسرائيل، وبالتالي فهي غير مجبرة على الالتزام بالشروط والمطالب المشددة التي يشترطها قانون الهواء النقي المتعلق بالانبعاثات الملوثة إلى البيئة المحيطة. بل إن المنشآت والمناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة، تتمتع بمحفزات مالية وخصومات ضريبية ودعم حكومي كبير؛ ما جعل إنشاء وتشغيل مرافق إسرائيلية لمعالجة النفايات في الضفة أكثر ربحية بكثير من إنشاء تلك المرافق داخل إسرائيل.