بقلم: محمد بدر الدين زايد
ربما ليست هناك حاجة لأن نبدأ من أن الولايات المتحدة لم تكن دوماً إلا وسيطاً منحازاً في الصراع العربي – الإسرائيلي منذ البداية، الفارق كان دوماً في درجة الانحياز وفي مدى المبالغة في إظهار الدعم لإسرائيل، وفي مدى حصافة أو نفاق سياستها كي تحقق مصالحها مع العالم العربي وفي الوقت نفسه مواصلة هذا الانحياز، ولأنني كنت أحد الذين كتبوا مبكراً متشككاً في «صفقة القرن»، متوقعاً أن إدارة ترامب لن تنجح في فرض رؤيتها في تسوية القضية الفلسطينية، أو بمعنى آخر تصفية هذه القضية، وعلى رغم أن المسألة أصبحت تحظى باهتمام إعلامي عربي ودولي محدود نسبياً، ليس فقط هذه الصفقة وإنما أيضاً القضية الفلسطينية ذاتها، فإن إصرار ترامب ومساعديه، أو لنقل أسرته، على مواصلة هذا التحرك يستحق التأمل والفهم.
ترامب نفسه يبدو أقل ضجة في الحديث عن هذه الصفقة، ولكن مبعوثيه يواصلون التحرك الغامض، وعقد اللقاءات، فضلاً عن تحول هذا الدور الأميركي إلى حالة مبالغة شديدة في ممارسة الضغوط على الجانب الفلسطيني كي يرضخ، ولم تكتفِ بالخطوات العدة التصعيدية التي شملت نقل سفارتها إلى القدس، ووقف المساعدات عن الجانب الفلسطيني وقبلها وقف التمثيل الفلسطيني في واشنطن، وإنما قامت أيضاً أخيراً بضجة أخرى من خلال دمج قنصليتها في القدس، التي كانت تستخدمها في التواصل مع الجانب الفلسطيني في سفارتها التي افتتحتها أخيراً لكي تنهي الاتصال الرسمي بالجانب الفلسطيني، بحيث تقتصر على تمثيلها في إسرائيل وتنقل رسالة للفلسطينيين بأنهم إذا أرادوا التواصل معها فمن خلال سفارتها في إسرائيل، في رسالة أخرى مهينة وضاغطة على القيادة والشعب الفلسطيني، ما يدعو للبحث عن تفسير وكذا تقييم لما يمكن أن يحققه هذا.
من ناحية أخرى، عاد صهر ترامب كوشنر للظهور في المنطقة بجولة شملت كلاً من عمان والبحرين والإمارات، مصطحباً معه مبعوث ترامب للمفاوضات جيسون جراينبلات، إذ تضمنت تصريحاتهما أن الخطة الاقتصادية ستكون حاسمة بما يساعد الجانبين على تقديم التنازلات السياسية اللازمة. ما هو مهم أن الإعلام الإسرائيلي بدأ يتحدث عن عناصر مختلفة لهذه الصفقة المزعومة وبدلاً من 40 إلى 60 في المئة من الضفة يجري الآن حديث عن 85 إلى 90 مع ترتيبات معقدة للمستوطنات الإسرائيلية، بحيث لا يتم المساس بالمستوطنات الكبيرة والتضحية فقط بما يسمونها غير الشرعية، وكأن هناك مستوطنات شرعية أو قانونية، وبعض التنازلات بالنسبة لتلك الصغيرة المدعى شرعيتها على أن تبقى القدس خارج التسوية وتعويض فلسطين بمكان ما خارجها، في مواصلة لأوهام أميركية وإسرائيلية.
من ناحية أخرى شهدت المنطقة عدداً من التأكيدات والتطمينات المختلفة للشعب والقيادة الفلسطينية، من بينها تأكيدات واضحة من العاهل السعودي الملك سلمان وقبلها أخرى مصرية واضحة ومنذ أيام عراقية، وكذا إجماع على موقف قوي من رؤساء البرلمانات العربية وبمشاركة الدول العربية الرئيسية مجتمعة بما في ذلك سورية وفي لغة لا تحتمل اللبس، كما أن مؤتمر وزراء الخارجية العرب كان محدداً أيضاً في تأكيداته عدم التخلي عن الثوابت الفلسطينية والعربية. ودولياً حرص وزير الخارجية الروسي لافروف في حديث لوكالة الأنباء الكويتية أخيراً على وصف التحرك الأميركي بأنه خطوة أحادية الجانب وقد يكون لها تأثير سلبي كبير على عملية السلام، مواصلاً عرضه استضافة لقاء بين أطراف الصراع. ولم تبدِ أي منظمة أو محفل دولي أي ترحيب أو تنويه بالجهود الأميركية، ولا أي دولة أوروبية رئيسية ما يفيد بعلمها أو بدعمها لهذه الجهود الأميركية التي ما زالت غامضة ومثيرة للريبة والشكوك.
ومن ناحية أخرى، مازال الجانب الفلسطيني يعاني تراجعاً شديداً في الاهتمام الدولي والإقليمي بقضيته المشروعة، كما لا يزال يعانى انقساماً داخلياً خطراً يزداد تكرسه وليس تراجعه، كما يواجه تحديات اقتصادية لا يمكن التهوين منها، ولكنه متفق سواء كل الفصائل أم الطرفان الرئيسيان فتح وحماس والشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على رفض أي تسوية لا تحقق مطالبه المشروعة، وليس من الوارد بالنسبة له التنازل عن القدس الشرقية والمسجد الأقصى.
لماذا تصر هذه الإدارة الأميركية على مواصلة جهودها أو نشاطها هذا والطرف الفلسطيني الرئيس قد أوقف التفاوض الرسمي مع واشنطن، ولم يبدِ أي طرف عربي تجاوباً في هذا الصدد؟ ربما يفسر البعض هنا هذا الإصرار الأميركي في ضوء العناد التقليدي لترامب، وقناعاته بأن التصلب والضغوط المتواصلة تقود دوماً إلى تراجع خصومه وخضوعهم لإرادته وإرادة بلاده، كما أن الحديث عن الإغراءات الاقتصادية كحافز للطرفين للتجاوب مع هذه الخطوة يتسق مع عقلية الرئيس الأميركي. من ناحية أخرى، المعلومات المتسربة عن بعض التحسن في معالم رؤية هذه الإدارة ممثلة في زيادة مساحة الأراضي التي سيقام عليها الترتيبات الفلسطينية التي تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أنها حكم ذاتي تبدو بدورها أمراً مضحكاً، في ضوء أن السلطة الفلسطينية تمارس هذا الحكم الذاتي بشكل أو آخر.
نعود إلى تفسيرات الإصرار الأميركي، ومن بينها أنه قد طرحت بعض الآراء التي تعتبر هذه الصفقة ليست إلا قبول المجتمع الدولي والعالم العربي وبالتالي الجانب الفلسطيني بالوضع القائم، بمعنى آخر إنزال الهزيمة المعنوية الكاملة لإرادة الشعب الفلسطيني ومؤيديه لقبول هذا الأمر الواقع.
كما أنه لا يمكن تجاهل ما يروجه البعض من أن حدوث زيارات لنتنياهو أو مسؤولين إسرائيليين لعواصم عربية أو لقاءات سرية إسرائيلية –عربية يعني بالضرورة أن هناك إمكاناً لتقارب هذه الأطراف تجاه إسرائيل بشكل جدي من دون حدوث اختراق ما في القضية الفلسطينية، للرد على كل ما سبق فإن هذه الاتصالات وإن كان صحيحاً أنها لا تخدم الموقف الفلسطيني والعربي في هذا الصدد، إلا أن الأمر حتى الآن لم يزد عن هذا التواصل المتقطع، كما أن هناك طرفين عربيين رئيسيين لا يمكن لتسوية أن تتم دون قبولهما لهذه التسوية، وهما مصر والمملكة العربية السعودية، وكلاهما لأسباب داخلية أكبر وأكثر تعقيداً من اعتبارات السياسة الخارجية لهما، لا يمكنهما قبول تسوية لا تتضمن القدس الشرقية أو أغلبها على الأقل، وأعتقد شخصياً أن هذا البعد السياسي الديني من التعقيد بحيث يغيب على البعض وعلى السياسة الأميركية الراهنة أن تستوعبه بشكل كافٍ، وتظن أنها تستطيع بضغوط متواصلة إجبار كل الأطراف على الخضوع لإرادتها، من ناحية أخرى، يبدو أن البعض يتناسى أن الشعب الفلسطيني تعرض لضغوط وفقدان للأمل في مراحل عدة، وما زال مستمراً في صموده ومحاولاته، نعم هناك إشكالات عميقة في النهج والأوضاع الفلسطينية الراهنة، وهناك حاجة لمراجعة فلسطينية جادة لهذا النهج وهذه المسيرة، ولكن الاستسلام شيء آخر.
ومن هنا حتى الآن ومن دون تغييرات جادة في التصور الأميركي – غير واردة الحدوث - فإن فرص التجاوب مع هذه الصفقة تبدو معدومة، ولكن ترامب وإدارته سيواصلون التحرك كما نرى، ليس فقط بسبب العناد أو غطرسة القوة ومحاولة فرض الأمر الواقع، وإنما أيضاً لأن ترامب حريص على مواصلة التمتع بدعم مكونات المجتمع الأميركي الأيفانجيلية، وخاصة مع تعقد أوضاعه الداخلية وتزايد التحديات داخل مجلسي النواب والشيوخ، بما في ذلك بعض مواقف لنواب جمهوريين. يبقى أخيراً أنه لن يكفي مجرد الصمود الفلسطيني لتخفيف الخسائر من تواصل الإجراءات العدائية الأميركية، فلابد من تحرك فلسطيني وعربي مبني على رؤية محددة للتعامل مع هذه الإجراءات، فضلاً عن مزيد من الدعم العربي للشعب الفلسطيني.
عن صحيفة الحياة
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"