بقلم/ عبد الغني سلامة
في أي بلد في العالم، عندما تضيق الحياة على إنسان ما، وتشتد عليه الظروف، بإمكانه أن يشمّر عن ساعديه ويتوجه إلى ورش البناء، أو للحقول، أو للعمل الحر، أو حتى للهجرة.. أما في فلسطين؛ فالوضع مختلف؛ حيث لا يعرف المواطن المحاصَر والمكبَّل إلى أين يذهب؟ خاصة مع انحسار الخيارات. فالمزارع سيحتار ماذا يعمل، وكيف سيتصرف بعد أن صودرت أرضه ومياهه؟ وكذلك العامل، كيف سيجد عملا في سوق تعاني من بطالة رهيبة؟ وأين سيذهب أصحاب الكفاءات والطموح بعد أن ضاق العالم بهم؟ وبدأت بعض البلدان العربية تقذف ما عندها وترجعهم إلى بلدانهم؟
في ظل هذا الظرف الصعب والمعقد؛ حيث تعمل إسرائيل كل ما بوسعها لإبقاء الاقتصاد الفلسطيني حبيساً ومقيداً وتابعاً، لم يبقَ أمام الناس إلا العمل الوظيفي في السلطة، حتى صارت علاقتهم بها نوعا من الزواج الكاثوليكي.. ولكن وزارات السلطة ومؤسساتها لن تتمكن من استيعاب كل الخريجين الجدد؛ خاصة بعد أن بدأت تظهر عليها علامات البطالة المقنعة، وأُثقلت ميزانيتها بالرواتب، وفرضت عليها عقوبات سياسية وحصار مالي.. حتى اضطرت لتسليم موظفيها نصف راتب.. ما العمل إذن؟!
ولسنا هنا بصدد الحديث عن مشاريع التحرير واستدعاء الجيوش العربية؛ فهذا كله مؤجل إلى إشعار غير مسمى. ولكنا نتحدث هنا عن معاناة هذا الشعب القابع تحت الاحتلال.
هل المطلوب تجويع الناس؟ أم دفعهم للهجرة؟ لا نريد إجابات جاهزة ولا شعارات ثورية؛ فلدينا مستودعات هائلة تفيض بكل أنواع الشعارات الوطنية والقومجية والإسلاموية، وتكفينا إلى ولد الولد.
القيادة تطالبنا بالتقشف... حسناً، ولكن كيف يكون هذا التقشف لحياة متقشفة أصلا؟! عندما كان الموظفون يعيشون براتب كامل، كانوا يزحفون على بطونهم إلى ما بعد منتصف الشهر بقليل، ومنهم من كان لا يصل هذه المسافة. وللتذكير فقط: قررت إسرائيل (التي يفصلنا عنها جدار إسمنتي بارتفاع 8 متر) أن الحد الأدنى للأجور هو 5300 شيكل (حوالي 1450 دولارا)، وعندنا متوسط الأجور بحدود 2500 شيكل (حوالي 700 دولار)، وهو الحد الذي يمكّن أسرة صغيرة من العيش على الأساسيات فقط، علما بأن غلاء الأسعار داخل الخط الأخضر أعلى بمقدار ضئيل عنه في مدن الضفة الغربية والقطاع، مع فرق هائل في الأجور.
وللتذكير فقط، فإن عملة الشيكل التي يتقاضى بها الموظفون رواتبهم قد تآكلت في السنوات العشر الأخيرة بمقدار الثلث، وفي نفس الوقت زادت الأسعار بمعدلات مشابهة، وهي تفوق بكثير قدرة الموظف على أن يتعايش مع الحياة بسلام؛ أي أنَّ الموظف بات يتقاضى راتبا تعادل قيمته الشرائية ثلثي راتبه السابق، وصارت الحياة تضيق أمامه أكثر فأكثر، وهكذا، ومع موجات الغلاء المتلاحقة صار من الطبيعي أن نشهد ارتفاع معدلات الاكتئاب والإحباط، خاصة في أوساط الشباب.
والسؤال هو: ما هي النتيجة المتوقعة إذا صارت سياسة نصف الراتب نهجا متبعاً وخياراً وحيداً أمام السلطة؟! وما هي الخيارات المتاحة أمام الموظف؟!
بالنسبة لخيارات السلطة وتوجهاتها، فقد ذكر بعضها وزير المالية في المؤتمر الصحافي.. أما ما يتعلق بخيارات الموظف، فإليكم بعضها:
على الموظف أن يدفع نصف أجرة البيت الذي يسكنه، وعلى صاحب المُلك أن يتحمّل كنوع من إظهار التكافل.. وعلى الموظف أن يعطي أولاده نصف مصروفهم عند توجههم للمدرسة، وعليهم أن يتعودوا على ذلك، لأن المال بيد الأطفال مفسدة.. وعليه أن يحذف إحدى الوجبات الثلاث، وأقترح عليه أن يلغي وجبة العشاء، ويفضَّل أن يختصر كل وجبة إلى النصف، وأن يعتبر ذلك فرصة لتخسيس الوزن.. ويمكن أن يكتفي بنصف دجاجة، أو نصف كيلو من اللحم شهريا، طبعا لتفادي الإصابة بداء النقرس.. ويمكن أن يتناول نصف تفاحة، أو نصف برتقالة، ويعطي نصفها الآخر لزوجته، كذلك يتقاسم الأخوة كل شيء، وهذا يقوي أواصر المحبة داخل الأسرة.. وعلى الموظف إذا اضطر لزيارة الطبيب أن يطلب منه إجراء نصف كشفية، أي الكشف على المؤشرات الحيوية فقط، وأن يدفع له نصف أجر، وأن يختار من الأدوية التي يمكن شراء نصف عبوة منها.. وعندما يتوجه لعمله، أو لأي مكان آخر أن يستخدم المواصلات العامة لنصف الطريق، وأن يكمل النصف الآخر مشيا على الأقدام، وهي للعلم عادة صحية.. وإذا كان لديه سيارة أن يملأ نصف خزانها بالوقود فقط، وأن يتناسى نصف المشاوير التي كان ينوي القيام بها.. وإذا استجاب لدعوة حفل زواج عليه أن يدفع للعريس نصف "نقوط"، أو لا يذهب من الأساس.. وإذا أراد أن يُجري مكالمة من هاتفه النقال عليه أن يشرح موضوعه بنصف الوقت المحدد، أي بنصف عدد الكلمات، يعني لا داعي للثرثرة.. والمدخنون يمكنهم أن يستغلوا الفرصة ليستهلكوا نصف "باكيت" في اليوم، بدلا من الإسراف في التدخين، كما كان أيام العز، وهذا أيضا صحي ومفيد.. كنت سأقترح عليه شراء قميص نصف كم، لكن المشكلة أنه بنفس سعر القميص الكامل، لذا، لا داعي لشراء الملابس.
وعندما يبدأ الموظف بسياسة النصف لكل شيء، سيُدهش عندما يكتشف عدد الأشياء التي يمكن اختصارها للنصف، بل وسيدهش أكثر عندما يكتشف عدد الأشياء التي يمكن إلغاؤها كلياً؛ مثلا: الأكل في المطاعم، مشاوير المساء مع العائلة، وجبة المقلوبة كل يوم جمعة، المياه المعدنية، الشوكولاته، التسالي والمكسرات، السهر حتى ساعات متأخرة على ضوء المصابيح الكهربائية (لتقليل هدر الطاقة وانطلاق غازات الدفيئة التي تسبب الانحباس الحراري)، وأيضا لا داعي للاستحمام كل يوم (خاصة مع أزمة المياه العالمية)، ولا داعي لشراء الكتب والعطور والورود والهدايا.. فهذه ممارسات برجوازية بغيضة تعود لزمن الإقطاع.
ويمكن للموظف ببساطة أن يحيا نصف حياة، بنصف راتب.. وأن ينتظر نصف الموت الثاني، إلى أن يأتيه، وعندما يأتيه فعليا، يمكن له أن يطلب من ورثته أن يبنوا له نصف قبر فقط.. وأن يطلب من الله أن يغفر له كل ذنوبه، لا نصفها.
من عنده حل آخر فليتفضل، فكلنا آذان صاغية.
عن صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"