بقلم د. وليد القططي
كتبت في سبتمبر 2015 مقالاً بعنوان (ثورة الكهرباء محطة على طريق الانفجار الكبير) تعقيباً على المظاهرات المطالبة بالكهرباء جاء في الفقرة الأخيرة منه "والخطورة ليست في مثل هذه المظاهرات التي لا تزال محدودة في حجمها وانتشارها؛ ولكن الخطورة في أن مثل هذه المظاهرات قد تكون محطة على طريق الانفجار الكبير، إذا ما استمرت أزمات القطاع دون حل ابتداءً بالأزمة السياسية، وانتهاءً بالأزمة الاقتصادية، مروراً بأزمة الكهرباء، واستمرار هذه الأزمات دون حل سيراكم السخط والتذمر والغضب لدى الجماهير، وستأتي لحظة ينفجر فيها مخزون السخط والتذمر والغضب لدى الجماهير... ولا يوهمنَّ أحدٌ نفسه بـأن الانفجار القادم سيكون باتجاه (إسرائيل) فقط، فقد تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السفن".
المظاهرات الحالية في قطاع غزة تحت شعار (بدنا نعيش) تأتي في هذا السياق، وهي في حد ذاتها تنادي بمطالب مشروعه تحتج على زيادة الضرائب واستفحال الغلاء واحتكار السلع، وتطالب بخفض الضرائب وتوفير فرص العمل وحماية حقوق العمال والموظفين، من حق الناس المطالبة بها بأي شكل من أشكال النضال الشعبي السلمي والكفاح المدني القانوني، بغض النظر عن المسئول والمتسبب بهذا الوضع المأساوي الناتج عن الحصار والعقوبات، وبعيداً عن الأطراف التي تحاول توظيفها سياسياً واستغلالها إعلامياً لصالح مشروع سياسي ما، أو في إطار مناكفات الانقسام. وبناءً على هذا الحق في التعبير عن الرأي وإيصال الصوت وإظهار الألم والمطالبة بالحقوق؛ فإن المعالجات الأمنية فقط لا تحل المشكلة الحالية، كقمع المتظاهرين، ومنعهم من التعبير عن رأيهم ومعاناتهم، وكتم صوتهم وصراخهم، وكبت أنين ألمهم وجوعهم، وهذا يتناقض مع هذا الحق الإنساني والقانوني المشروع.
هذا هو الوجه الأول للحقيقة، أما وجهها الثاني الأكثر أهمية، فهو أن وصول مأزق غزة إلى هذا الحد الخطير من الفقر المدقع والحاجة والعوز، كان بفعل فاعل وتخطيطٍ شيطاني، يبدأ من أساس الداء وأصل البلاء، وهو الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين بالكامل إضافة إلى حصاره لقطاع غزة، وهو المتسبب في نكبة ومأساة الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، وزاد على الشعب الفلسطيني القاطن في قطاع غزة بعد الاحتلال والتشريد، الحصار والحروب والإرهاب لإجبار المقاومة وحاضنتها الشعبية على الخضوع لمشيئته والإذعان لرغبته والاستسلام لإرادته. وتستمر المأساة بعد النكبتين أو النكستين بتراجع مشروع التحرير، واختزال البرنامج المرحلي، وتآكل مفهوم السلطة الوطنية لتنحدر إلى كيان غير محدد المعالم هجر الثورة قبل أن يصل إلى الدولة، تقوم على الشراكة الأمنية مع الاحتلال والتبعية الاقتصادية للاحتلال.
هذه السلطة جعلت الاحتلال نظيفاً، له مغانم دون مغارم، وقامت بمهام الإدارة المدنية دون امتلاك السلطة الحقيقية والسيادة الفعلية، وتقف حاجزاً بين الاحتلال والمقاومة، ويمر من تحتها وبجانبها كل مشاريع الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس، ومهدّت للانقسام عندما توهم البعض بأننا نتنافس على سلطة فعلية، وأن السلطة بمواصفاتها السابقة يُمكن أن تحمل في جوفها نقيضها، فكان الخصام ثم الانقسام، الذي أعقبه المناكفات الحزبية، وصولاً إلى الإجراءات العقابية التي أضنت الشعب الفلسطيني الصامد والمقاوم في قطاع غزة، بهدف إيجاد بيئة شعبية ساخطة تنفجر في وجه حماس كسلطة فعلية بغزة، وربما الوصول من خلال ذلك إلى إسقاط مشروع المقاومة الذي تُعتبر غزة حصنه الأهم ومعقله الكبير.
بعد سنوات الاحتلال والحروب والحصار والعقوبات، وما تبع كل ذلك من تعميق أزمات قطاع غزة في مختلف الاتجاهات، جاءت السياسة الاقتصادية للسلطة في غزة لتزيد الطين بلة، فاعتمدت على الجباية المحلية المتزايدة من شعبٍ مُنهك لتمويل النفقات الحكومية، والغريب أن الضرائب زادت في الوقت الذي تراجع دخل المواطنين فزادتهم فقراً على فقر، فأدركَ حينها الناسُ أن الفرجَ ليس بقريب، والاستبشارُ بالخير أمرٌ غريب، والكربُ قد يستمر لأمدٍ بعيد، ولا يبدو في الأُفقِ شُعاعَ أملٍ جديد، واليأسُ أقربَ إليهم من حبلِ الوريد، فلم يكن أمامهم إلاّ التعبير عن معاناتهم كمخرجٍ وحيد من حالة البؤس الشديد...
والمخرج من هذا المأزق هو السماح للجماهير بالتعبير عن غضبهم بطريقة سلمية وفي إطار القانون، والاستجابة لمطالبهم الحياتية المشروعة قدر الإمكان، وبنفس القدر التصدي لمشروع الفتنة الداخلية وصراع الضحايا فيما بينهم؛ لعدم السماح لانحدار الوضع نحو ما يريده المشروع الصهيو أمريكي ضد المقاومة والقضية الفلسطينية والحفاظ على الأمن العام.
وبعد ذلك العمل مع الكل الوطني لإيجاد صيغة توافقية لترتيب البيت الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية على أسس تلتزم بالثوابت الوطنية ونهج المقاومة. وحتى يتحقق ذلك لا بد من مراكمة عناصر القوة للشعب، وفي مقدمتها القوة الاقتصادية، لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني الذي يحتضن المقاومة ويحمي ظهرها.
فبقدر ما نلبي احتياجات الشعب الاقتصادية،ونوّفر له مقومات الحياة الأساسية، ونخفف عنه المعاناة في حياته اليومية، ونفتح أمامه آفاق الحياة الحرة الكريمة... بقدر ما يتعزز صموده وقوته، وبالتالي صمود المقاومة وقوتها، وبهذا نحقق المطلبين المترابطين (بدنا نعيش وبدنا نقاوم)، فبالعيش بكرامة تقوى المقاومة وتترسخ كنهج ثابت، وبالمقاومة تتحقق الحياة الحرة الكريمة، وكلاهما معاً يعيدان وضع عجلات قطار المشروع الوطني الفلسطيني على قضبان طريق التحرير والعودة والاستقلال.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"