بقلم: محمد أحمد بنّيس
انتهى التصعيد في قطاع غزة بين فصائل المقاومة في قطاع غزة والجيش الإسرائيلي بعد التوصل إلى اتفاق تهدئة بوساطة مصرية، لكن أسئلة كثيرة تظل مفتوحة بشأن العلاقة التي يُحتمل أن تكون بين هذا التصعيد والحراك التي عرفه القطاع أخيرا، وقوبل بقمع قوات الأمن التابعة لحركة حماس.
تحيل هذه العلاقة إلى معضلة بنيوية، عادة ما تواجه تنظيمات الكفاح المسلح التي تجد نفسها، بين عشية وضحاها، تنتقل من العمل المسلح المرتبط بمواجهة استعمارٍ أو خصم سياسي معين إلى ممارسة السلطة وتدبير تناقضاتها. ولا يبتعد الوضع في غزة كثيرا عن هذه المعضلة، فبعد أن نجحت "حماس" في أن تشكّل، على امتداد أعوام، نقطةَ توازنٍ في مواجهة منظومة أوسلو التي راهنت على المفاوضات، للوصول إلى تسوية نهائية مع إسرائيل، جاءت سيطرتُها على القطاع في 2007، لتفرض عليها تحدياتٍ جسيمةً، ناجمةً عن تداخل إكراهات تدبير تبعات الحصار الظالم الذي تفرضه إسرائيل، وأخرى على صلةٍ بخيار المقاومة التي تتبناه الحركة في استراتيجيتها ضد الاحتلال.
ونجحت الحركة، إلى حد ما، في المؤالفة بين هذه الإكراهات المتعارضة، على الرغم من شحّ الموارد واستمرار الحصار، ومعاندة الظرف الإقليمي بسبب تداعيات الربيع العربي. وكان لافتا نجاحها في فرض قواعد مواجهة جديدةٍ مع العدو الإسرائيلي، من خلال جرّه إلى مواجهاتٍ باتت مكلفةً سياسيا بالنسبة للكيان الصهيوني، في ظل عجزه عن إضعاف الحركة وتفكيك بنياتها التنظيمية واللوجستية والعسكرية.
بيد أن المتغيرات التي عرفتها المنطقة منذ 2011، وانتشارَ ثقافة الاحتجاج ورفض الاستبداد والتحكم، والتطلعَ إلى بناء المجتمعات وفق قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتحولَ "حماس" إلى سلطةٍ لها أجنداتها الأمنية والسياسية، وضعفَ العائد السياسي لمسيرات العودة وإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل، واستمرارَ الانقسام الفلسطيني، ذلك كله ألقى بظلاله على جدل المقاومة والسلطة في الأداء السياسي والعسكري للحركة.
والسؤال هنا: هل إطلاق صواريخ الآن في اتجاه إسرائيل محاولةٌ، من "حماس"، لحصر المشهد في غزة
في شعبٍ يرزح تحت وطأة الحصار الظالم الذي يفرضه الكيان الصهيوني، من دون السماح بإحداث ثغرة في هذا المشهد، تبدو فيه الحركة على درب السلطوية العربية التي ترفض أي معارضةٍ أو احتجاجٍ على سوء الأوضاع؟ ربما يشكل هذا السؤال المركزي المأزقَ البنيوي التي تجتازه "حماس" في هذا التوقيت، وعجزَها، بالتالي، عن بلورة أفق سياسي جديد ينبني على قراءة التناقضات التي أفرزتها مرحلة ما بعد الربيع العربي، سيما فيما يتعلق بالانسداد الذي وصلت إليه السلطوية العربية بمختلف تشكيلاتها.
على الحركة أن تعي أن ديناميةً جديدةً تتشكل في المنطقة، ولا مبالغة في القول إن حركة ''بدنا نعيش'' تشكل الامتداد المفترض لهذه الدينامية في قطاع غزة، فلم يعد مقبولا قمعُ متظاهرين لمجرد أنهم خرجوا يطالبون بتحسين أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية.
صحيحٌ أن الحركة جزء من المعادلة السياسية الفلسطينية، كما أنها تحظى بتقدير قطاعات واسعة في الشارع العربي واحترامها، لكن ذلك لا يعني أنها فوق النقد والمساءلة التي تفرضها قيم الديمقراطية والإيمان بالاختلاف في تدبير الصراع السياسي والاجتماعي، فلا يمكن التذرع بخيار المقاومة والممانعة لفرض رؤية سلطوية عمودية، لا تراعي التنويعات الأفقية الطبيعية التي توجد داخل كل مجتمع.
قمعُ "حماس" محتجين يطالبون بالعيش الكريم، والتراجع عن فرض ضرائب جديدة، بدعوى أن ذلك يخدم إسرائيل، يضع الحركة في خانةٍ واحدةٍ مع أنظمة عربية كثيرة، ما فتئت تستثمر سلاح التخوين والمؤامرة الخارجية للبطش بمعارضيها وإسكات أصواتهم.
على "حماس" أن تعي المسافة التي تفصل بين المقاومة خيارا استراتيجيا يروم الحفاظ على الثوابت الفلسطينية المعروفة، والتدبير السياسي للأزمة الاجتماعية والاقتصادية في قطاع غزة، والذي يقتضي الإنصات للأصوات المعارضة واحترامَ الحقوق والحريات الفردية والجماعية.
يتعلق الأمر بضرورة اجتراح آلية تستوعب الشرعية الديمقراطية ضمن خيار المقاومة، وتدرّجها ضمن أفق سياسي جديد، ينقل الحركة إلى طور مغاير في التعاطي مع المستجدات الفلسطينية والإقليمية، وهو طور يقتضي النظر بتوازن إلى انتشار ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية، وما يقوم به تحالف الثورة المضادة وإسرائيل والولايات المتحدة لأجل تصفية القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
عن صحيفة العربي الجديد
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"