قائمة الموقع

الانتخابات التركية وإعادة تشكيل الخريطة السياسية

2019-04-04T09:00:00+03:00
تنزيل (1).jpg

بقلم: عمر كوش

تلقى حزب العدالة والتنمية الحاكم ضربة قوية في الانتخابات البلدية التي جرت الأحد الماضي، إثر خسارته رئاسة البلديات في أغلب المدن الكبرى، خاصة العاصمة أنقرة، التي خسر رئاسة بلديتها لأول مرة منذ وصوله إلى السلطة قبل نحو 17 عاماً، ومدينة إسطنبول التي ما تزال موضع خلاف وجدل ومطالبات بإعادة فرز الأصوات، وذلك بعد أن تضاءل فارق الأصوات بين مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو (48،7 في المئة) ومرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم، رئيس الوزراء السابق (48،5 في المئة)، إلى جانب فوز حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، برئاسة بلديات إزمير وأنطاليا وأضنة ومرسين، فضلاً عن فوز حزب الشعوب الديموقراطي برئاسة بلديات ثماني ولايات، من بينها ديار بكر.

وحصل تقدم تحالف أحزاب المعارضة، على رغم حصول حزب العدالة على النسبة الأكبر من أصوات الناخبين على مستوى الجمهورية التركية (44،4%)، إذ حافظ وحليفه حزب "الحركة القومية" (7،2 في المئة) على الصدارة بحصولهما على 51،6 في المئة من أصوات الناخبين، بحسب النتائج الأولية، مقابل حصول تحالف المعارضة على 37،2 في المئة من الأصوات، توزعت بين 30 في المئة لحزب الشعب الجمهوري و7،2 في المئة للحزب الجيد، بينما حصل حزب الشعوب الديموقراطي الكردي على 4،3 في المئة و5 ولايات، إلا أن حزب العدالة حقق الفوز في 56 في المئة من البلديات، إلى جانب تمكنه من رفع نسبة الأصوات التي حصل عليها في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وفوزه التاريخي في رئاسة بلديتي ولايتي شرناق وأغري، اللتين تسكنهما أغلبية كردية كبيرة، وكانتا تصوتان تاريخياً للأحزاب الكردية القومية، لكن خسارته ولاية إسطنبول-إن تأكدت- تعني الكثير للرئيس رجب طيب أردوغان ولحزبه، لأنها تمثل المدينة التي استهل فيها أردوغان مسيرته السياسية، وترأس بلديتها في تسعينات القرن الماضي، وهو من قال ذات يوم: "إن من يفوز بإسطنبول يحكم تركيا".

وأعادت نتائج هذه الانتخابات تشكيل المشهد السياسي التركي من جديد، على رغم كونها انتخابات محلية، لأن فقدان حزب العدالة والتنمية العاصمة أنقرة، بوصفها العاصمة السياسية، وإسطنبول، بوصفها العاصمة الاقتصادية والسياحية، أعطى نتائج هذه الانتخابات معنى سياسياً، يرتقي إلى مصاف استفتاء شعبي على مرحلة سياسية، تزعم فيها حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي التركي، وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وولادة مرحلة جديدة، تعيد رسم الخريطة السياسية لتركيا ما بعد 31 آذار (مارس) 2019.

وتكمن أسباب التغير في الخريطة السياسية التركية في جوانب عدة، يكمن بعضها في المجال السياسي، وبعضها الآخر في الاقتصاد والوضع المعاشي، إذ إن قيادة حزب العدالة والتنمية تغيرت كثيراً خلال السنوات السابقة، بحيث أبعدت قيادات تاريخية أسهمت في تأسيس الحزب، وبرزت قيادات سياسية جديدة أصابها بعض الترهل والاطمئنان إلى الانجازات التي حققها الحزب في المراحل الأولى من وصوله إلى سدة الحكم في تركيا، إضافة إلى أن بعض أنصار حزب العدالة والتنمية كانوا يمنّون النفس بحصول تغييرات إيجابية على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة في أوضاعهم المعيشية التي تدهورت كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية بعد التراجع الاقتصادي، وتدهور قيمة الليرة التركية وارتفاع نسبة التضخم وزيادة نسبة البطالة، خاصة بين أوساط الشباب، لذلك ركز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أول ظهور له بعد ظهور نتائج الانتخابات، على العمل من أجل تحديد أوجه التقصير وبذل الجهود من أجل تلافيها، وإصلاح مواضع الخلل، من خلال إعطاء الأولوية للاقتصاد وزيادة فرص العمل في المراحل المقبلة.

غير أن مرحلة النهوض الاقتصادي الكبير، التي بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم قد انتهت، إذ إن البحبوحة الاقتصادية التي تمتعت بها فئات من الفقراء والطبقة الوسطى، خاصة في المدن، قد ولتّ مع ارتفاع تكاليف الحياة والهزات التي ضربت الاقتصاد التركي، إلى جانب حملات الاعتقال والملاحقة الواسعة التي حصلت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منصف تموز (يوليو) 2016، والتضييق على المعارضة، الأمر الذي جعل أحزاب المعارضة تصور الانتخابات البلدية التي جرت، وكأنها معركة من أجل استرجاع الحريات، واستكمال الممارسة الديموقراطية، لذلك فشل الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية في إقناع الناخب التركي بأنها معركة وجودية أو مصيرية. مرتبطة بالدولة التي نفسها، كما فشل الخطاب الذي راح يصور أحزاب المعارضة بأنها داعمة للإرهابيين، الممثلين بحزب الشعوب الديموقراطي، المتهم بالتنسيق والتعاون مع حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، وتخوض ضده حرباً في مناطق جنوب وشرقي تركيا منذ سنوات.

وقد خاض حزب العدالة والتنمية الحاكم هذه الانتخابات البلدية، بوصفها معركة، ستحدد نتائجها مصير تركيا ووجهتها المستقبلية، ومن منطلق أن نجاح مرشحي تحالف المعارضة، يعني تغيير الوجهة التركية، والدخول في مرحلة مختلفة تماماً، على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكترث قادة الحزب الحاكم بالإرهاصات التي جلبها دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي في استفتاء السادس عشر من نيسان (أبريل) 2017، وأفضت إلى إثارة غبار كثيف في المجتمع التركي، المفعم بإرهاصات نزعات من الصراع والتجاذب التاريخي، بالنظر إلى طبيعة الهويات المركبة فيها، ما بين الشرق والغرب، والتي لم تتمكن العلمانية التركية من حسمها أو تجفيف منابعها الثقافية والاجتماعية والسياسية.

وعلى رغم أن هذه الانتخابات تضاف إلى سجل الديموقراطية التركية، إلا أنها أكدت رساخة الاستقطاب السياسي التركي الداخلي، وكانت نتائجها بمثابة استفتاء على توجهات وبرامج قطبي هذا الاستقطاب الداخلي، لذلك عملت المعارضة على حشد داخلي أوسع لصالحها، وراهنت على تأثر المواطن التركي بالصعوبات المعاشية.

وإن كانت الانتخابات البلدية قد أثرت على الخريطة السياسية التركية، إلا أن نتائجها لم تكن حاسمة لجهة تراجع الحزب الحاكم، أو لجهة تقدم أحزاب المعارضة، لذلك من غير المرجح أن ترتفع الأصوات المطالبة بانتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، أو أن تلقى آذاناً صاغية، لذلك سيعمل كل طرف من أجل الاستعداد للمرحلة المقبلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن خطاب حزب العدالة والتنمية لا يزال يلقى أنصاراً كثر، خاصة في مناطق الأناضول وجنوبي تركيا وشرقها، لكن ذلك لن يمنع المعارضة من استغلال الضغوطات الداخلية، إلى جانب الضغوطات الخارجية، المتمثلة بتوتر العلاقات التركية - الأميركية، بسبب صفقة صواريخ 400S، التي تعتزم تركيا شراءها من روسيا، وكذلك الوضع السوري في ظل ملفات دولية وإرهاصاته الداخلية، وبالتالي فإن التوجهات السياسية التركية مرشحة لاحتمالات حدوث تغييرات كثيرة، سواء على مستوى الداخل التركي أم على مستوى السياسة الخارجية.

عن صحيفة الحياة 

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز" 

اخبار ذات صلة