قائمة الموقع

7 حزيران 2019: وأخيراً تزور يافا

2019-06-16T10:00:00+03:00
عادل الأسطة

بقلم: عادل الأسطة

منذ فترة طويلة وأنا أفكر في إنجاز كتاب عن المدن الفلسطينية التي لها حضور في ذاكرتي الشخصية والأدبية، المدن التي زرتها قبل العام 1987 ثم انقطعت عن زيارتها ثلاثين عاماً تقل قليلاً أو تزيد قليلاً: القدس وعكا وحيفا ويافا وغزة تحديداً.

تمكنت من زيارة القدس وعكا وحيفا ولم أفلح في زيارة يافا وغزة.

في العام 2000 عقد قسم اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في غزة مؤتمراً علمياً أردت المشاركة فيه ولكن السلطات الإسرائيلية لم توافق على منحي تصريحاً بحجة أنني "محروق". هكذا جاء الرد.

سافر زملائي ولم أسافر ولم أر غزة التي زرتها مرات عديدة بعد هزيمة حزيران 1967.

يافا المدينة التي ولد فيها أبي، وهي مدينته ومدينة آبائه وأجداده، ظلت زيارتها حلما يراودني، وآخر مرة زرتها كانت في العام 1987.

منذ أيلول 1987 لم أر يافا، وكلما فكرت في زيارتها أشكل الأمر وصعب حتى زرتها أخيراً في ثالث أيام عيد الفطر السعيد في السابع من حزيران 2019.

اثنان وثلاثون عاما تنقضي ولا أرى مدينة الآباء والأجداد وهي على مرمى العصا. كما لو أنني ابن عاق لـ "أم الغريب" التي طالما استقبلت قبل 1948 الغرباء واحتضنتهم، حتى أنها كانت تبصر بدايات ولادة المشروع الصهيوني دون أن ترى فيه خطراً يهدد وجودها.

مرة كنت أشاهد لقاء بثته فضائية الجزيرة مع شفيق الحوت روى فيه أن أمه سخرت منه حين أخبرها عن الخطر القادم من اليهود، ولم تصدق ما قاله لها إلا حين رأت جثة أحد أبنائها في 1948 مقتولاً على أيدي العصابات الصهيونية.

وأخيراً زرت يافا!

في ثالث أيام العيد زرت القدس لأعيد على أختي.

بعد أن اجتزنا معبر قلندية أخذت أصغي إلى أصحاب الحافلات ينادون:

- يافا. البحر. يافا. البحر.

سألت السائق عن الأجرة وعن الأيام التي تتوفر فيها الباصات هنا على المعبر، وعن مكان وقوفها في القدس.

لطالما كتبت عن يافا مستعيناً بما أقرأ في النصوص الأدبية أو بما أشاهد من أفلام قصيرة أو لقاءات وحوارات عابرة مع أبنائها الباقين فيها يتحسرون على ماضيها، ونادراً ما أفلحت في استحضارها مما بقي عالقاً في ذاكرتي من زيارتي لها قبل العام 1987.

الصورة التي تشكلت عن المدينة من خلال النصوص الأدبية لم تكن مشرقة دائماً، وقصيدة محمد مهدي الجواهري لم أتمثلها تمثلاً جيداً.

لقد رسخ، في الذاكرة أكثر، نصان كتبهما راشد حسين وسميح القاسم وأظهرا للمدينة صورة قاتمة تطابقت إلى حد ما وما شاهدته بعد 1967، وغالباً ما كتبت عن هذين النصين.

كان زوج أختي يقترح علي أن أزوره ليصطحبني إلى يافا، وغالباً ما كنت أجيب بالإيجاب ولا أبادر.

في القدس في الرابعة عصراً سرنا إلى يافا وكنت أمعن النظر في جانبي الطريق؛ الأحراش والقرى العربية ومكان استشهاد عبد القادر الحسيني/القسطل ومخلفات حرب 1948 من الآليات الحربية الإسرائيلية التي شاركت في المعارك. كانت هذه المخلفات في وسط الشارع الرئيس ثم ركنت، بعد توسيعه، إلى الجانبين.

عندما زرت يافا في 1967 أو 1968 لفتت عمارة شالوم النظر، فقد كان عدد طوابقها يربو على السبعين، والآن وأنت في تل أبيب ترى عشرات العمارات ذات الطوابق المرتفعة.

وأنت في يافا الآن ترى الساعة مازالت قائمة وترى فرن "أبو العافية "في مكانه.

وأنا قرب الشاطئ على الرصيف تفقدت الميناء. هل خانتني الذاكرة أم خانني النظر. لم أر الميناء ولم أر الحرش وكأنني افتقدت التلة المقابلة.

أخيراً عثرت على التلة ولكنني لم أعثر على الميناء والحرش. كاد الأمر يلتبس علي بخصوص التلة ثم أدركت أن المباني الجديدة التي أقيمت هي ما جعل الصورة مشوشة.

حين كنت أزور يافا قبل 1987 لم يكن يدفعني إلى زيارتها الوعي بالمكان؛ ما كان عليه وما صار إليه، على الرغم من أن هذه الفكرة محورية في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا".

ما كان يلح علي في حينه هو رؤية مدينة الآباء والأجداد التي طردوا منها وبسبب فقدانها صاروا لاجئين وولدت في مخيم لاجئاً يعاني صحياً ونفسياً واجتماعياً وإنسانياً.

في هذه السنوات أصبحت أزور مدننا محملاً بأبعاد معرفية وبتجربة مرة وبنظرة شمولية ترى في فلسطين شقيها؛ المنفى والاحتلال، وتدرك ما معنى هذا القدر من الشقاء والمعاناة لسبعة ملايين لاجئ وستة ملايين محاصر، وتنظر إلى الماضي بعين الحاضر والحاضر بعين الماضي، وتردد عبارة "ما متع غني إلا بما جاع به فقير" على النحو الآتي: "ما متع يهودي إلا بما تعذب به فلسطيني".

في أثناء تجوالي في المباني المحيطة بالساعة وشاطئ البحر رأيت مباني لم أقترب منها من قبل، مع أنها كانت موجودة وقائمة من العهد العثماني. في هذه المباني كان يقيم القناصل الأوروبيون ويتحكمون في المدينة ويخططون لمستقبلها وما ستصير إليه.

الآن هذه المباني غدت محلات لبيع بعض تحف أو أشبه بمطاعم، وغدت ساحتها خضراء يأتي إليها العرسان لتبادل الخواتم أو غدت مكاناً لعرض مسرحية أو لعزف قطعة موسيقية. المقاعد متوفرة بكثرة ليجلس عليها السائحون أو أبناء المدينة لينظروا إلى البحر.

في ساحة هذه المباني العلوية نافورة ماء تسمى بركة الحظ. ما عليك إلا أن ترمي قطع النقود وتتمنى.

هكذا تقول الأسطورة، ولما كنت أملك شيكلاً واحداً فائضاً فقد آمنت بالأسطورة وألقيت به فيها وتمنيت ما تمناه الفلسطينيون منذ 1948، وتحديداً في فترات ارتكاب المجازر بحقهم، ولم يتحقق.

ضحيت بالشيكل وتمنيت مؤمناً بما تقوله الأسطورة التي عادة ما لا أومن بها.

وسألني ابن أختي عما تمنيت.

لن أكتب الأمنية بالحروف نفسها ولكني أقول: تمنيت أن يعيد الله إلى فلسطين سبعة ملايين لاجئ فلسطيني وأن يعيد معهم أبي وأعمامي وجدي وجدتي الأموات.

شاطئ يافا في حزيران، حيث الحر والرطوبة، مكتظ بالعرب واليهود، والملابس غالباً ما تفصح عن هوية كل طرف.

هنا يجتمع الشرق المحافظ والغرب المتحرر، وكل يتصرف بما يؤمن به.

في السادسة مساء تقريباً كان ثمة سائق ينادي:

- بيت لحم. الخليل. بيت لحم. الخليل.

تركت الشاطئ وسرت باتجاه فرن "أبو العافية" وسألت عن أبناء ابنة عم أمي نجاح؛ سألت عن أحمد وخميس، فاسماهما عالقان في الذاكرة، أما أمهما التي أعرفها جيداً فقد توفيت منذ ست سنوات كما أخبرني حفيدها المحاسب. قال لي إن أحمد وخميس مسافران، وأصر على أن يضيفني بعد أن عرفته بنفسي.

واصلت السير في الشارع الذي كان يضم بنايات قديمة أقيمت فوقها مبانٍ جديدة، واستبد بي الفضول لمعرفة اسم الشارع، وحين لم يجبنا بعض العرب، لأنهم كانوا زواراً لا يعرفون، فقد سألت شاباً يهودياً بدا متديناً يقف على مدخل بناية أشبه بقاعة احتفالات.

- اسلخاه، ما شم هرحوب هزي؟

- رحوب يافو.

أجابني وواصلت سيري.

كان الشارع هادئاً فحركة المواصلات، مشاة وسيارات، كانت خفيفة ضعيفة ويبدو أنها أسبتت واحتاجت إلى "كافر سبت".

عندما كان أبي على قيد الحياة كنت أعرف منه عن حياته وبيتهم في المدينة.

عرفت أنهم كانوا يقيمون في البلدة القديمة، ثم بنوا بيتاً جديداً في حي النزهة، والغريب أنني لم أطلب منه قبل 1987 أن يصطحبني إليه. كان يزوره بحكم عمله سائقاً في شركة باصات (ايغد) ويتحدث العبرية مع الذين أقاموا في البيت بعد 1948، وفي آخر زيارة له، كما أخبرني، لم يجد البيت. لقد رأى كازية بنزين، والآن حين اسأل عن بيت جدي هناك أقول:

- في حي النزهة حيث توجد "طرمبة" بنزين. ولا أعرف ما ألم بكوشان البيت الذي ظل أصغر أعمامي يحتفظ به، ولا أعرف ما ألم بمفتاح الدار.

من سنوات قرأت مقطعاً شعرياً يقول صاحبه:

-" عبثاً نحتفظ بمفاتيح الدار،

فقد غيروا الأبواب".

وفيما يخص بيتنا فلم يغيروا الأبواب وحسب. لقد هدموا البيت كله؛ البيت الذي بناه جداي من وراء فرش الكعك.

كانت جدتي تصحو فجراً وتعجن العجين وتصنع الكعك ليبيعه جدي على طلبة المدارس. ولا أدري إن كان جدي في يافا مسحراً، ومؤخراً عرفت أنه أول مسحر في مخيم عسكر القديم.

كان المساء يحل وعبثاً نجحت في الاهتداء إلى حي النزهة، وكان زوج أختي على عجل لمغادرة المدينة حتى يتلافى أزمة مرور إن كانت هناك أزمة.

في يافا سألني ابن أختي:

- ماذا ستكتب؟

فأجبته:

- لم أر المدينة بعد. الكتابة تتطلب أن أعود إلى يافا وأتحسسها بيتاً بيتاً وشارعاً شارعاً، وأن أجلس في مقاهيها وأصغي إلى أهلها.

هل زرت يافا أم أنني كنت عابراً في الوجوه العابرة ؟

منذ تلك الزيارة وعنوان قصيدة محمود درويش في رثاء "أبو علي إياد" يلح علي "عائد إلى يافا" ويلح علي أكثر سطر شعري له "ويافا حقائب منسية في قطار".

عبثاً احتفظ عمي بالكوشان، فلقد هدموا البيت كله.

لا بد من زيارات أخرى.

عن صحيفة الأيام

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

اخبار ذات صلة