غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

مات الفيلسوف ولم يمت (الطاغيـة)

د. وليد القططي

بقلم/ د. وليد القططي

إمام عبدالفتاح إمام، أستاذ دكتور في الفلسفة، باحث ومُفكر وفيلسوف مصري، رحل عن عالمنا منذ اسبوع فمات بصمت وبدون ضجيج، لم يشعر به أحدٌ إلاّ ثلةٌ من المهتمين بالحياة الثقافية والفكرية وسط زحمة الحياة المادية والاستهلاكية، ولد الفيلسوف إمام عبدالفتاح إمام بمحافظة الشرقية في مصر عام 1934 لوالد من علماء الأزهر الشريف، حصل على الليسانس في الآداب عام 1957، والماجستير في الفلسفة بعنوان (المنهج الجدلي عند هيجل) عام 1968، والدكتوراه في الفلسفة بعنوان (المنهجى الجدلي بعد هيجل) عام 1972، عمل في الكثير من جامعات مصر والوطن العربي محاضراً وباحثاً ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه في الفلسفة، وهو أبرز تلاميذ الفيلسوف الكبير زكي نجيب محمود وأهم المُعرّبين والمتأثرين بفلسفة هيجل المثالية الجدلية القائمة على الوعي والحرية، وأصبح صاحب رؤية فلسفية خاصة في السياسة والحكم لخصها في أهم كتبه، وهو كتاب (الطاغية) المنشور عام 1994م.

إذا كان الفيلسوف إمام عبدالفتاح إمام قد مات، فإن كتابه (الطاغية) لم يمت، وسيظل حياً يُلهم أنصار الحرية الوعي والإيمان والروح لمواصلة محاربة الطغيان والاستبداد والدكتاتورية. كتاب (الطاغية.. دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي) بدأ بإهداء يُعبر عن خُلاصة مضمون الكتاب جاء فيه "إلى الذين يعانون من ظلم الطغيان ووطأة الاستبداد ويتوقون إلى الخلاص.. إلى الذين يشعرون أن الحرية هي ماهية الإنسان، إذا افقدها فقد وجوده معها.. إلى الذين يؤمنون أن أحداً منا ليس معصوماً من الخطأ، ومن ثم يتقبلون الرأي الآخر برحابة صدر وسعة أفق". ويبدأ مقدمة الكتاب في ذم حكم الطاغية ومن يزعم أن له إيجابيات بقوله "... فحتى لو فرضنا أن له إيجابيات هائلة، فما قيمة هذه الايجابيات إذا كان ثمنها تدمير الإنسان، وتحطيم قيمه، وتحويل الشعب إلى جماجم وهياكل عظمية تسير في الشارع منزوعة النخاع. شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز واللا جدوى".

في موضوع متى تتحول السلطة إلى طغيان في الفصل الأول من الكتاب يقول: "إذا كانت السلطة ضرورية لتحقيق أمن الجماعة، فإنه ينبغي أن تحافظ على حريات الأفراد الذي جاءت لحمايتهم، ومن ثم يظهر السؤال عن الحدود التي يجب أن تقف عندها السلطة فلا تتجاوزها، فإن هي تجاوزاها انقلب إلى نوع من الطغيان". ويصف صفات الطاغية في الفصل الثالث بأنه يصل إلى الحكم بطريقة غير مشروعة، ولا يعترف بقانون أو دستور يحكم البلاد وتصبح إراداته هي القانون، ويسخّر كل موارد البلاد لإشباع رغباته، ولا يخضع للمحاسبة والمساءلة والرقابة من أي نوع.

وينتقد الخلط بين وظيفة الأب في الأسرة التي هي مفهوم أخلاقي أو وظيفة الملك والرئيس الذي هو مركز سياسي، وهذا الخلط يؤدي إلى الاستبداد، ولهذا يستخدمه الحكام عندنا في الشرق، لأن الأب لا يجوز أخلاقياً معارضته، فقراره مُطاع واحترامه واجب، فينتقل هذا التصور الأخلاقي إلى مجال السياسة، فيُعامل الحاكم المواطنين كما يعامل الأب أبنائه على أنهم قُصر غير بالغين، فمن حقه توجيههم وعقابهم إذا انحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية.

وانتقد الحكم الشمولي في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بقوله:" الترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي إن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب، أو كما ذهب بعض المنظرين عندنا في العهد الناصري هي (ديمقراطية التحسس)، بمعنى أن القائد الزعيم المُلهم يتحسس مطالب الجماهير، ويصدر بها قرارات وقوانين، ولما كان الشعب دائماً على حق، فإن الزعيم المُعبّر عن إرادة الشعب هو

أيضاً دائماً على حق، ولكي يثبت القادة الشموليون أن إرادتهم هي إرادة الشعب، فإنهم يلجأون إلى أسلوب الاستفتاء العام، والتصويت (التهليلي)، بهذه الطريقة يستخرج الزعيم المُلهم، والقائد الساحر، من قبعة الدكتاتورية أرنباً اسمه الديمقراطية".

ورفض خُرافة المستبد العادل التي يُرّوج لها البعض بقوله :" كيف يُمكن أن يوصف المستبد بأنه عادل، أو الطاغية بأنه صالح، أو الدكتاتور بأنه مستنير...؟!. الواقع أن هذه تعبيرات أقرب إلى تعبير (الدائرة المربعة). لأنه إذا كان من صفات المستبد أن يكون ظالماً جباراً كما يقول الكواكبي بحقه، فكيف يُمكن أن يكون المُستبد عادلاً؟!، وكيف يُمكن مستنيراً من يرضى أن تكون رعيته كالأغنام؟!،... لا شك أن الاستبداد يهدم إنسانية الإنسان، والطغيان يحيل البشر إلى عبيد، وإذا تحوّل الناس إلى عبيد أو حيوانات فقدوا قيمتهم، فلا إخلاص ولا أمانة ولا صدق ولا شجاعة... الخ بل كذب ونفاق وتملّق ورياء وتذلل ومداهنة.

وتحت عنوان (الطاغية يرتدي عباءة الدين) ذكر "إننا نظلم الدين كثيراً عندما ننسب إليه ذلك الحكم المطلق، الذي يقيم حاكماً مستبداً أو طاغية جائراً، ليكون هو الإله أو إبن الإله أو خليفة الله في الأرض. يأمر وينهي بلا حسيب ولا رقيب"، ويرى أن اليهود هم أول من ارتدى عباءة الدين في الحكم، باعتقادهم أن الله ميزهم عن الأمم الأخرى، وأنهم شعب الله المختار، وأن الله تعالى قد اصطفاهم ليكونوا شعب الرب، وأن إسرائيل يحكمها الله بصورة مباشرة!!

وانتقد بني أمية ونظريتهم في تبرير حكمهم الاستبدادي"... ثم استقروا على النظرية التي حكموا على أساسها، ودعموا بها ملكهم الاستبدادي، وهي أن الله اختارهم للخلافة، وأتاهم الملك، وأنهم يحكمون بإراداته، ويتصرفون بمشيئته، وأحاطوا خلافتهم بهالة من القداسة، وأطلقوا على أنفسهم كثيراً من الألقاب الدينية... ولكي يؤكدوا هذه النظرية أشاعوا مذهب الجبر، فالسلطة يتم تحديدها من الله، وليس للناس فيها رأي ولا مشورة، والخليفة هو خليفة الله، وأن على الناس الاستسلام والطاعة... وبذلك يصبح الحاكم مستبداً يستمد سلطته من التفويض الإلهي لا من الناس، ويرسي قواعدها بقوة السيف وحده".

وتحدث عن مساوئ الحكم الاستبدادي بأنه يؤدي إلى انفصام الشخصية كنتيجة لحكم الطاغية الذي يعتمد على الخوف، فلا يستطيع أحد أن ينتقد أو يناقش، ولا أن يفكر بصوت مسموع فيلجأ إلى الرياء والنفاق والتملق... وهذا الانقسام سيمتد إلى جميع سلوك الفرد بحيث يكون نمطاً للشخصية: فتراه يهتم بالشكل دون الجوهر، فيكون تدينه زائفاً ظاهرياً، ويترك الجوهر الذي يتجلّى في الصدق والإخلاص والأمانة والتعاون والعدل... وتراه يفصل نفسه عن وطنه: فالحكومة والشرطة والصحافة شيئ، ومصلحته الخاصة شيئ آخر، هذه القسمة راجعة إلى أنه لم يشترك في حكم بلاده وتشريع قوانينها وإعداد خططها، فذلك كلهُ يُترك للقائد الملهم؟!

وخُلاصة كتاب (الطاغية) في المنهج الذي رسمه للتخلّص من الطغيان والاستبداد، والذي يكون بالحكم الديمقراطي فقط، فيوضح أن الديمقراطية ممارسة وتجربة إنسانية تصحح نفسها بنفسها، وأن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية، المزيد من الديمقراطية، ويرفض مقولة أن (الشعوب المتخلفة لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها حكماً ديمقراطياً صحيحاً) لأن البديل هو حكم الطاغية، والديمقراطية الناقصة خير ألف مرة من حكم الطغيان، ويرى أن ليس في الدين الإسلامي ما يمنع من تطبيق الديمقراطية التي تعتمد على الحرية والعدالة والمساواة، ويحدد وسائل الوصول إلى الديمقراطية بالتربية الديمقراطية، واحترام القانون، والإعلام الحر. ويرى أن الديمقراطية لا يمكن حصرها في نموذجٍ واحد طالما كانت تقوم على أسس أهمها: أن الشعب مصدر جميع السلطات، والحرية بكافة أنواعها مكفولة للجميع، والمساواة بين أفراد الشعب، واحترام قيمة الإنسان وكرامته.

 

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".