بقلم: عريب الرنتاوي
لا شك أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ العام 2002، يعض أصابعه ندماً على إصرار رئيسه رجب طيب أردوغان إعادة الانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول، ورفض الاعتراف بنتائج جولتها الأولى التي جرت في مختتم شهر آذار الفائت ... يومها كان الفارق بين المرشحين لا يصل إلى 14 ألف صوت، اليوم اتسعت الشقة بينهما لتصل إلى قرابة 800 ألف صوت ... يومها قلنا، إن أردوغان سيمنى بالهزيمة سواء نجح مرشحه، صديقه بن علي يلدريم، أو سقط ... فإن نجح يلدريم ستظل وصمة الإعادة تطارد الحزب الحاكم لسنوات عديدة قادمة، وإن سقط أمام منافسه، تكون الهزيمة مضاعفة، سيما بوجود هذا الفارق الكبير في الأصوات.
منذ ربع قرن (1994)، وكبرى المدن سكاناً والعاصمة الاقتصادية والروحية لتركيا تخضع لحكم الإسلاميين ... ويُنقل عن أردوغان قوله من وحي خبرته الشخصية والحزبية إن «من يسيطر على اسطنبول سيحكم تركيا»... ما يزيد على خمس سكان تركيا (16 مليونا) يسكنون المدينة، وهي تنتج قرابة ثلث (31.2%) ناتجها القومي الإجمالي، وفيها الجزء الرئيس من الطبقة الوسطى التركية وبمعدل دخل فردي يصل إلى 65 ألف ليرة، أعلى بخمسة أضعاف نظيره في الأطراف والأرياف ...وما لا يقل كثيراً عن ثلث انتاج تركيا الصناعي يتمركز في المدينة ذات الميزانية البالغة عشرة مليارات دولار سنوياً، وبما يزيد على ميزانية وزارة الدفاع التركية ذاتها.
إسطنبول كانت الدجاجة التي تبيض ذهباً للحزب الحاكم ورجال الأعمال والمقاولين ومؤسسات المجتمع المدني المقربة منه ومن الحلقة الضيقة المحيطة بزعيمه رجب طيب أردوغان ... معظم المشاريع العملاقة في المدينة (الجسر الثالث والمطار الجديد على سبيل المثال) أحيلت عطاءاتها إلى هذا النوع من الشركات، والمدينة دفعت مبلغ 150 مليون دولار تبرعات لمؤسسات مقربة من الحزب الحاكم حتى العام 2018 كما أوردت واشنطن بوست ... المدينة صوتت للمرة الثالثة ضد رئيس بلديتها الأسبق: أردوغان وحزبه ومرشحه ... المرة الأولى في الاستفتاء على النظام الرئاسي، وفي الانتخابات البلدية في آذار الفائت، وفي انتخابات الإعادة قبل أيام.
زاد الطين بلّة، أن هزيمة الحزب الحاكم في إسطنبول تستكمل مسلسل الخسائر المتلاحقة التي مني بها الحزب في المدن التركية الكبرى، ومن بينها أنقرة وإزمير ومارسين وأنطاليا وغيرها ... الحزب يتحول إلى حزب طرفي – ريفي، قاعدته من الفئات المحافظة والشرائح الأقل دخلاً والأقل تعليماً ... يبدو أن الطبقة الوسطى والمثقفين ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني والفئات المدنية والعلمانية، فضلاً عن الأكراد، قد قرروا مجتمعين وضع نهاية لنجاحات الحزب الحاكم المتلاحقة في مختلف الانتخابات السابقة، وإنهاء عصر الهيمنة والانفراد في الحكم.
الحزب الذي يسيطر على أكثر من 90 % من وسائل الإعلام، ألقى بكل ثقله في المعركة الانتخابية، والتغطيات الصحافية أجمعت على أن الرئيس التركي جعل من الانتخابات البلدية في إسطنبول «انتخابات رئاسية بامتياز» ... كل ذلك لم ينفع، ولم يوقف عجلة التغيير أو يبطئ دورانها.
حتى أن الحزب الحاكم لم يتوان عن اللعب بورقة «سجين إمرالي» المتهم بالإرهاب، والقابع هناك منذ أكثر من عشرين عاماً ... فعشية الانتخابات جرى توزيع رسالة منسوبة إلى عبد الله أوجلان يدعو فيها الأكراد للوقوف على الحياد في انتخابات إسطنبول، لكن الزعيم الكردي الآخر (صلاح الدين ديمرطاش)، المعتقل في سجن آخر، كذّب الرسالة وفضح محاولة استثمار رصيد الزعيم الموصوف بالإرهاب، وحث أنصاره على التصويت لصالح إمام أوغلو، فانقلب المشهد رأساً على عقب، سيما بوجود ما يقرب من مليوني ناخب كردي في إسطنبول.
نتائج انتخابات إسطنبول البلدية في جولتيها، تبعث بأكثر من رسالة: (1) أولاها، أن الديمقراطية التركية الناشئة ما زالت تعمل برغم الضربات الموجعة التي تلقتها في السنوات الأخيرة ... (2) أن تداول السلطة، حتى وإن على مستوى البلدية، يمنح هذه التجربة زخماً جديداً، ويكسر غطرسة الهيمنة والتفرد وعبادة الفرد والشعبوية، فـ «لكل شيء إذا ما تمّ نقصان» ... (3) أن أكراد تركيا، بما فيهم حزب الشعوب الديمقراطية و»سجين إبمرالي» لا بمكن اختزالهم بالإرهاب والإرهابيين، بدلالة أن النظام أدار مفاوضات وأبرم تفاهمات معهم، وهو يتعامل مع هذا المكون وفقاً لحاجته السياسية وأغراضه الانتخابية ... فإن اقتضت مصلحة الحزب الضيقة، شنّ عليهم حرباً شعواء وزج بهم في السجون وانقض على تفاهماته السابقة المبرمة معهم كما حصل في العام 2015، وأن اقتضت المصلحة الضيقة ذاتها، فتح أبواب سجونهم للزوار والزيارات، ويُسهّل عمليات نقل وتوزيع رسائلهم للرأي العام التركي ... أية لعبة هذه؟
عن صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"