في ظل التغييرات الكبيرة التي تحدث في المنطقة واحتمالات تفكك دول وتراجع مكانة القوى المركزية، تجد إسرائيل نفسها في واقع يستدعي تغيير نظرية أمنها القومي لتتجاوب مع المستجدات. وقد حاول العميد شمعون شيفتس، الذي خدم كسكرتير عسكري لثلاثة رؤساء إسرائيليين على مدى 15 عاما، تصور التغييرات الممكنة أو المطلوبة عبر مقالة نشرها في مجلة "إسرائيل ديفنس".
واعتبر شيفتس أن قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يقفون مستعدين على طول الحدود أمام قوس مخاطر، يتغير في كل يوم في الشرق الأوسط، خصوصا مع مطلع العام الرابع على نشوب "الربيع العربي". وهو يرى أن الأحداث الجارية هي "هزّة أرضية" تقع في الشرق الأوسط من دون أن تتوقعها أية أجهزة استخبارية في الغرب ما أحدث "صدمة" وأوجد كرة هائلة تتدحرج من دون توقف.
فسقوط بعض الأنظمة العربية أوجد حالة فراغ سلطوي أحال دولا بكاملها إلى دول "فاشلة" بسبب انهيار بنيانها السلطوي والسياسي أو بسبب عجزها عن فرض النظام والقانون. وقاد هذا إلى شيوع الفوضى وهو ما يعرّض للخطر النظام العالمي لأنّ الدول القومية تشكّل الجدار الأساس للأمن القومي. ويعرض مثلا ما جرى في مصر والإطاحة بالرئيس محمد مرسي.
وأمام قوس المخاطر الحالية تضع المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية قدرات الرد العملياتي المتوفرة لها والمرتكزة إلى نظرية الأمن القومي التي ترسمها الحكومة عبر وزير الدفاع، موشي يعلون حالياً. ويوضح شيفتس أنه ليس في إسرائيل إجماع لا في المستوى السياسي ولا العسكري تجاه نظرية الأمن إلا بالمعنى التنفيذي. وفي نظره فإن الإجماع على نظرية الأمن هو محصلة توافق المستوى السياسي المركزي ومكوّنات الحكومة القائمة. ونظرية الأمن تستند منذ سنوات على الحرب الوقائية التقليدية أو على قدرة وجود سلاح غير تقليدي وهو ما لا يمنح المستوى السياسي حرية أو هامش مناورة. ولا ينبغي تجاهل الرغبة الإيرانية في تطوير الخيار النووي وأنه برغم التغييرات في السياسة، لا توفر العقوبات سوى رد جزئي. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواصل تطوير نظريته في وجوب إيقاف إيران بكل ثمن.
وفي المقابل، فإن تجريد الجيش السوري من أسلحته الكيميائية يتم برقابة دولية، لكن ليس بالجدول الزمني المقرر وهناك خشية من انزلاق هذا السلاح لـ"حزب الله". كما أن استمرار تدفق السلاح إلى "حزب الله" يستدعي نظرة فاحصة حتى لا يصل إليه سلاح كاسر للتوازن. وإزاء التوصيفات الآنفة يبرز مطلب جعل نظرية الأمن شديدة المرونة لتحقيق الأهداف في ظل التغييرات. وهذا بالطبع لا ينفي "الضربة المسبقة" في إطار حرب وليس فقط فتح النار.
ويرى شيفتس أنه في الشأن السياسي ضمن نظرية الأمن، يفضل لإسرائيل التعامل مع الدول العربية بوصفها ائتلاف عربي، وكذا الحال في العلاقات مع كل من أميركا وروسيا. والمقومات الاقتصادية جزء من الاعتبارات العامة فيما هناك أهمية قصوى للعلاقات مع الإدارة الأميركية سواء لجهة الالتزام بالدعم المالي حتى العام 2017 أو باعتبار التعاون الإستراتيجي معها أساسا بعيد المدى لأمن إسرائيل. فهذه العلاقة تعزز الجيش الإسرائيلي وتوفر عاملا سيكولوجيا رادعا.
الإستراتيجيا ليست كلمة فظّة
يؤكد شيفتس أن الهدف الإستراتيجي يجب أن يكون تحقيق السلام الحقيقي، ولكن في ظل غيابه ينبغي تحقيق أطول فترات ممكنة من الهدوء بين الحروب. وكل ذلك من أجل تحقيق الغاية الأساسية لبناء الدولة في ظل أقصى درجة من الأمن. والمستوى السياسي يستند إلى الجيش لمواجهة الكثير من السيناريوهات وتوفير الردود لأوضاع متوقعة وغير متوقعة. وعلى الجيش توفير الأمن للدولة وحدودها ومواطنيها ومصالحها الحيوية بما في ذلك في مياهها الاقتصادية. وبعد ذلك يأتي الردع ثم الحسم والانتصار في حالة الحرب إذا لم يمكن منعها. وقدرة الردع تشكل أساسا وجوديا تنبثق عنه قدرات الهجوم التي تظل توفر للمستوى السياسي فرصة التفاوض من أجل إيران واتفاقيات سلام مع جيراننا كما حدث مع مصر والأردن.
ويشير شيفتس إلى أن العرب يعلمون أنه إذا تعرضت الجبهة الداخلية الإسرائيلية للهجوم فإن الرد يكون مدمرا وساحقا. ويقول على العرب أن يعلموا أن استمرار حياتهم مرهون بتمكيننا من البقاء أحياء. فإسرائيل لا تملك ترف التردد. فقط الرد الحاسم هو ما يدفع العدو لطلب "وقف النار" في المكان والزمان المريحين لإسرائيل.
وشرط وقف النار ـ وفق شيفتس ـ هو الضربة العسكرية الساحقة التي تثلم رغبة القتال عند العدو. واليوم تتوفر لإسرائيل قدرات تدمير أهداف بهجوم ودقة لم يسبق لها مثيل ومن دون الاضطرار لاحتلال أراض. ومع ذلك يعترف بنقص الموارد البشرية في إسرائيل التي مع تغير المعطيات الحالية ازداد العبء الأمني على الجيش ما يستدعي إعادة تنظيم وتغيير نظرية الأمن العملياتي.
وهذه الأيام يمر الجيش الإسرائيلي بعملية إعادة تقييم استخباري أساسها زيادة خطر الإرهاب وتراجع خطر الحرب التقليدية. ولهذا يمر الجيش حاليا بمرحلتي بناء القوة: الأولى، في مواجهة تنامي الإرهاب من سوريا ولبنان ومصر واحتمال نشوب انتفاضة ثالثة. والثانية في مواجهة الخطر النووي الإيراني. وهذا يستدعي تطوير الجيش الإسرائيلي ليغدو هجوميا منظما بشكل مختلف، وأن يغدو جيشا تكنولوجيا قادرا على مواجهة كل أنواع الأسلحة بما فيها الحرب السيبيرية.
ومغزى الكلام أن شيفتس يطالب بالتركيز على منظومات استخبارية متطورة وتوفير قدرات حسم في كل معركة للقوات البرية والجوية. ويطالب بتحسين القدرات النارية ودقتها والتوسع في استخدام الآليات والمركبات البرية والبحرية والجوية غير المأهولة. ولا ينسى خلافا لآخرين التركيز أيضا على القوات المدرعة التي تؤثر على نتائج كل حرب برية فضلا عن التركيز على القوات الجوية. وعموما يطالب بإعادة رسم نظرية أمن للقوات البرية تقوم على أساس بناء جيش نوعي ومحترف يأخذ بالحسبان تقليصات الميزانية.