بقلم/ د. وليد القططي
أن نشاهد جرائم التفجير الانتحارية في الدول العربية المجاورة شيء، وأن تحدث عندنا في فلسطين شيءٌ آخر، في الحقيقة هي ليست شيئاً آخراً، نحن الذين استبعدنا حدوث ذلك عندنا لأننا لا نريده أن يحدث عندنا ولنا، أو هكذا أوهمنا أنفسنا على الاقل، فلسنا بدعاً من الشعوب والمجتمعات، فالظاهرة التكفيرية طالت الجميع، ولا يمنع وصولها إلينا أننا شعبٌ مقهور مُحتل مقاوم، وها هو يخرج من بيننا من يُفجّر نفسه في نفسه الآخر... على كل حال هذا ما حدث بالفعل، وهذه هي الحقيقة المُرة، التي حدثت في عمليتي التفجير الأخيرة في نقطتي الشرطة الفلسطينية بمدينة غزة.
هذا ما حدث عندما أقدم انتحاريان (فلسطينيان) باقتحام حاجزين للشرطة وفجرا نفسيهما بأفراد الشرطة، بعد أن نظروا في أعينهم ورأو ملامح وجوههم، فعرفوا أنهم يحملون نفس لون العيون، ونفس ملامح الوجوه، ويتحدثون نفس لغتهم ولهجتهم، وينتمون لنفس الدين والوطن، وبعضهم يسكن نفس حارتهم، ولو صبروا قليلاً لأدركوا أنهم شربوا من نفس الماء المخلوط بالبؤس والتعس، وأكلوا من نفس الخبز المغموس بالقهر والفقر، واستنشقوا نفس الهواء الهارب من قيود الاحتلال والحصار والعقوبات. ولو تريثوا بعض الوقت لعرفوا أن القاتل والمقتول هما ضحية لفكر ظلامي أسود متوّحش كانا هما آخر حلقاته الدموية.
تلك الحلقات الدموية في مسلسل الدم الطويل يتم انتاجها في معملين، أحدهما معمل لانتاج الفكر التكفيري الأسود الممتد في خط انتاجه من مقولات تراث عقيم ضار كُتب بماء الفتنة ومداد الدم على صفحات التاريخ الصفراء المليئة بفتاوي التكفير والتقتيل منذ أول التاريخ الإسلامي في عهد الفتنة الكُبرى وحتى تفجيري غزة، والمعمل الثاني معمل أمني يُرّكب التكفير على التقتيل والتفجير بواسطة تكوين المجموعات التكفيرية المجنونة، هذا المعمل موجود في أروقة المخابرات المُعادية التي يتوّلى كبرها أجهزة الأمن الإسرائيلية في تل أبيب ومن دار في فلكهم.
وفي كل الأحوال من المفيد أن نعرف ولا بد من الاجتهاد في البحث عما دار في عقل الانتحاريين قبيل التفجير الأسود.
ربما دار في عقل انتحاريي غزة وهم امتلاك اليقين الكامل واحتكار الحقيقة المطلقة وحيازة حصرية للدين يمنحهم شعوراً مريضاً بالأفضلية والتميز، وإحساساً خادعاً بالتفوّق والاستعلاء... يتطور إلى مركب من العُجب والكبر، فينتهي بهم المطاف إلى الغرور واحتقار ما عداهم من البشر، ويتحوّل الاحتقار إلى حقدٍ وضغينة، رغبةً في الانتقام وهوس في سفك الدماء، تحت غطاء شرعي يُخرج غير المسلمين من دائرة الإنسانية، ويُخرج المسلمين المُخالفين من دائرة الإسلام.. فصدّق عليهم إبليس ظنهُ، وزيّن لهم الشيطانُ سوء أعمالهم، وجمّل لهم شر معتقداتهم، وأغراهم باتخاذ فتاوي جُهّالهم ديناً يُتبّع، وأهواء سفهائهم آلهة تُعبد.
ربما دار في عقل انتحاريي غزة أنهما يُمثلان الفرقة الناجية الوحيدة في الأمة، في استنساخ مشوّه لعقيدة شعب الله المختار عند اليهود، لينتجا معاً أصل الحقد ومنبع الكراهية وأم الجرائم، ممثلة في تقديس الذات واحتقار الآخر، فيتم نزع الصفة الانسانية عن الآخرين باعتبارهم كفاراً أو (غوييم) ووضعهم في مرتبة أدنى من البشر وأعلى من الحجر، ليسهل قتلهم وإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، ولم لا؟ أليست عقيدة الفرقة الناجية هي المسؤولة عن إزهاق أرواح ملايين البشر على مدار التاريخ البشري، ثم أليست هذه العقيدة هي المسؤولة عن سفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل وانتشار الفساد في البر والبحر على مدار التاريخ ومنذ بدايته.
ربما دار في عقل انتحاريي غزة بأنهما امتداد لـ (جماعة المسلمين) ممثلة بالخوارج ومن سار على دربهم وسلك نهجهم، الذين ابتدعوا جريمة تكفير المسلم، فقادهم ذلك إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح، واستباحة الأعراض، وسرقة الأموال، فحملوا متلازمة التكفير والتقتيل، فذهبت سنة شريرة وبدعة آثمة إلى يومنا هذا، فتوّلى كبرها الفُجّار، وحملها الأشرار، ونفذها الأغرار، فسوّلت لهم أنفسهم قتل الخليفة الراشد الرابع باعتباره من الكفار والأشرار، وتبعهم دعاة على أبواب جهنم اعتبروا فتاويهم هي الإسلام نفسه، واجتهادهم هو الدين ذاته، بدلاً من آيات القرآن وأحاديث النبي العدنان.
ربما دار في عقل انتحاريي غزة أنهما ينفذان عقيدة ترى أولوية قتال المرتدين على الكفار الأصليين من الأعداء المحتلين لفلسطين وبيت المقدس، تطبيقاً لفتوى خليفتهم البغدادي القائل "... فوالله لقتل المرتدين أحبَّ إلىّ من قتل مائة رأس صليبية" والذي استند في فتواه على فتوى ابن تيمية بأن قتال المرتدين مُقدم على قتال الكفار الأصليين، وفي حالتنا الفلسطينية فإن المرتدين هم كل المجتمع بما فيهم أفراد الشرطة الفلسطينية ويدخل في معيتهم فصائل المقاومة الفلسطينية، وكل من سار على طريقهم واتبع نهجهم في النضال والجهاد أو اتبع دربهم الصمود والجهاد والمقاومة.
وربما لم يكن في عقل انتحاريي غزة أي شيء من ذلك سوى أنها عقول غُيّبت عن الوجود والشهود، وفُرّغت من المعنى والمبنى، فأصبحت أوعية فارغة وأجهزة صماء يوُضع فيها ما يريده مُرسلهم ومشغلهم وموجههم بهدف انتاج فتنة مُخطط لها لايقاع قطاع غزة بشعبه ومقاومته في أتون حرب دموية وفتنة داخلية تكون نُسخة أخرى لما يحدث في بلدان عربية مجاورة، بعد أن فشلت كل محاولات الاحتلال والحصار والإفقار في تركيع الشعب الفلسطيني في غزة وإخضاعه لإرادة الاحتلال ودفعه للتسليم بما يُريده المحتل، فأرادوا من خلال ذلك تحقيق ما عجزت الحروب المتتاليية والحصار المتواصل عن تحقيقه.
وفي الختام ومهما كان المضمون الذي حمله هؤلاء المجرمون الانتحاريون داخل عقولهم المريضة، ومهما كانت الدوافع التي تقف خلف من يُحركهم من كبار المُجرمين التكفيريين، ومهما كانت الأهداف التي يسعى إليها مشغليهم من أجهزة أمن العدو؛ فلا خيار أمامنا سوى بذل جهد كبير في مختلف المجالات الأمنية والسياسية والثقافية والدعوية وغيرها لاجتثاث هذا الفكر وأصحابه من المجتمع، وإخراج الفكر الداعشي التكفيري الإقصائي من تراثنا الثقافي والديني والسياسي، ومن مناهجنا التعليمية والدعوية والحزبية، وتطهير المجتمع من رواسب الثقافة الأُحادية الإقصائية، وتنقية عقولنا وقلوبنا من منهج التفكير الداعشي واذا لم نفعل ذلك فلا شك أن علينا انتظار المزيد من هذه الجرائم الوحشية.