بقلم د. وليد القططي
جاءَ مديرُ السجنِ إلى غرفةِ التحقيقِ ليتفقدَ الرعيةَ، فدخلَ بطريقةٍ فيها نوع من العنجهية، وكان بداخلها سجينٌ ومحققان، وطاولة وكرسيان، وكانَ الليلُ في آخرهِ، وكذا التحقيقُ أوشكَ أنْ يصلَ إلى آخرهِ، فأرادَ مديرُ السجنِ أنْ يضعَ بصمتًهُ الأخيرةَ على جولةِ التحقيق قبلَ الأخيرةِ، بما أوحىَ إليه شيطانُهُ من زخرفِ القولِ غروراً، فألقىَ نظرةً من علِ على السجينِ، وقالَ باستعلاء، وبشيءٍ من الخُيلاء موجهاً كلامَهُ إلى السجين "أنتمْ كمنْ يهدمُ قصراً كبيراً ليبنيَ بدلاً منهُ كوخاً حقيراً، أو كمنْ يزيلُ حائطاً عالياً ليضعَ مكانَهُ طوبةً صغيرةً". فسألهُ السجينُ عما يقصدُ بكلامهِ وماذا يريدُ من وراءِ أضداد كلماتهِ. فأجابهُ المديرُ بعنجهيتهِ الأولى وزادَ عليها تيهاً وصلفاً "يعني أنتم في الحركةِ الإسلامية تريدون هدم المشروع الوطني الفلسطيني من أجل بناء مشروعكم الإسلامي"، وعندئذٍ أدركَ السجينُ في الحالِ ما استبهمَ عليه منْ فصلِ المقال، وفهمَ المسكينُ الغلبان ما خِفَى عليهِ منْ حكمةٍ لا يُدركها إلاّ صفوةُ الخاصةِ، وعليّةَ القوم، ونخبةُ أولي الأمر، ففضّلَ السكوتَ على فضلِ الكلام، وآثرَ ما تبقى من السلامة على ما لا يُحمدُ عُقباهُ من جدلِ الخصام.
المشهدُ السابقُ غير مقتبسٍ من مسرحيةٍ أو فيلم، فالسجينُ هو كاتبُ هذهِ السطور، ومديرُ السجين لا زالَ حياً يُرزق في إحدى الدول العربية، ولكن بدون ممارسة هواية التحقيق في وطنٍ أصبحَ فيه بفضل أوسلو السجينُ سجاناً، والمشهدُ حدثَ في منتصفِ التسعينات من القرن العشرين الماضي، ومكانهُ أحدَ سجونِ أجهزة أمن السلطة المُخصص للتحقيق في قطاع غزة. وسبب استدعاء المشهد المحفور في عمقِ الذاكرة أنه تكرر بطريقةٍ مُختلفة، فما قيل حينها بقناعٍ أمني أُعيد مؤخراً إخراجه بقناعٍ أكاديمي بعد ما يُقرب من ربعِ قرنٍ، فأتُهمَ (المشروع الإسلامي) بتخريب (المشروع الوطني)، واتُهمت الحركة الإسلامية الفلسطينية بأنها "تعيثُ خراباً في فلسطين وأهلها"- نعم الحركة الإسلامية وليس الاحتلال الصهيوني- من خلال "دورها التخريبي للمشروع الوطني الفلسطيني"، وأنها – أي الحركة الإسلامية- "أخرجت القضية الفلسطينية من سياقها كقضية تحرر وطني ضد الاحتلال لتدخلها في متاهات الصراع الديني مع اليهود". هذه الاتهامات غير العلمية، والبعيدة عن الموضوعية، تحتاج لمناقشتها بطريقة عقلانية وبعيداً عن الانفعالية، لنعرف ماهية المشروع الوطني، وهل يتناقض مع مشروع الحركة الإسلامية، وصولاً إلى تحديد من المسؤول عن تخريب المشروع الوطني الفلسطيني.
المشروع مفهوم مقتبس من عالم التجارة والأعمال، ويُقصد به من الناحية الاقتصادية وضع استثمارات مادية وبشرية في عملٍ مُعّين بمدى زمني مُحدد لتحقيق عائد أو ربح، هذا المفهوم انتقل إلى السياسة ليُشيرَ إلى نفس المضمون، فالمشروع السياسي هو استثمارات مادية وبشرية توضع في عملٍ مُعيّن بمدى زمني مُحدد لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وغيرها. وقد أُضيف إلى مفهوم المشروع مفاهيم أُخرى ليُعبَّر عن مضامين مختلفة، فالمشروع القومي العربي في عهد الزعيم جمال عبدالناصر جوهرة تحقيق الوحدة العربية، والمشروع الإسلامي، أو المشاريع الإسلامية على وجه الدقة بعد سقوط الخلافة جوهرها تحقيق الوحدة الإسلامية في دولة إسلامية واحدة، وبرز مصطلح المشروع الوطني الفلسطيني بوضوح بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجوهره: تحرير فلسطين، وعودة اللاجئين، وتحقيق الاستقلال الوطني.
وهذا لا يعني أنه لم يكنْ للفلسطينيين قبل إنشاء المنظمة مشروع وطني، فالحقيقة أن المشروع الوطني الفلسطيني بدأ يتبلور بعد وعد بلفور، وقد تمحوّر النشاط السياسي والوطني الفلسطيني ما بين وعد بلفور 1917 والنكبة عام 1948 حول مطالب محددة تشكل مرتكزات المشروع الوطني في تلك الفترة وهي: إلغاء وعد بلفور ، ورفض إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وإيقاف الهجرة اليهودية، ووقف بيع الأراضي لليهود، وإقامة حكومة وطنية منتخبة، وتحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني في الإطار القومي العربي. وتبنت هذه المرتكزات أُطر وطنية مركزية أهمها: المؤتمر العربي الفلسطيني بين عامي 1919 – 1928، واللجنة العربية العليا بين عامي 1936- 1946، والهيئة العربية العليا بين عامي 1946 – 1948، واستخدم الشعب الفلسطيني أدوات عديدة لتحقيق هذه المطالب تراوحت ما بين المقاومة السلمية والمقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة، ولكن لم تتحقق أهداف المشروع الوطني في ذلك الوقت لأسباب ذاتية وموضوعية عديدة.
لم ينجحْ الشعب الفلسطيني في إقامة إطار وطني جامع له بعد النكبة عام 1948، وعاش الشعب الفلسطيني مرحلة الضياع والشتات؛ حتى بادرت جامعة الدول العربية باقتراح من الزعيم جمال عبدالناصر بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وسرعان ما أصبحت المنظمة هي الإطار الوطني الجامع للشعب الفلسطيني، المُعبّر عن هويته الوطنية، والحاضن لمشروعه الوطني، هذا المشروع الذي حُددت ملامحه في الميثاق القومي الفلسطيني، الذي تغير إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، وأهم ملامحه من خلال قراءة الميثاق تحديد الهدف الوطني المركزي بتحرير فلسطين الكاملة، وعودة اللاجئين، والاستقلال الوطني، وتحديد وسيلة التحرير الرئيسية بالكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، وتحديد طبيعة المرحلة بأنها مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين، وتعريف طبيعة العدو الصهيوني العنصرية العدوانية الاستيطانية الاحلالية، وغيرها من مفردات المشروع الوطني المتعلقة بالأرض والشعب والعلاقة مع العمق العربي ودور المنظمة في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني.
هذه الملامح والمرتكزات تآكلت مع الزمن بفعل عوامل التعرية الثورية والنحت في مفهوم الواقعية السياسية حتى انتجتا ما يُعرف بمشروع الحد الأدنى، أو المشروع الوطني المُعدّل وهذا التآكل والتعرية والنحت بدأ منذ تبني البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر عام 1974، وتسارعت خُطاه بعد الخروج من لبنان عام 1982، لتتحول بالتدريج مرحلية التحرير إلى مرحلية التسوية، وتوّلي كبر هذا التراجع المجلس الوطني مع كل جلسة جديدة حتى حطت رحالها في مشروع أوسلو عام 1993، ليتوّقف قطار التسوية، ومعه قطار المشروع الوطني مع نهاية المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو عام 1999، ليصبحَ مشروع أوسلو مقبرة للمشروع الوطني الفلسطيني الأصلي في حده الأقصى (التحرير الكامل)، والمُعدّل في حده الأدنى (دولة مستقلة في الضفة والقطاع)، وجاء الانقسام كنتيجة للصراع على سلطة أوسلو ليجهز على ما تبقى منه، ومنذ ذلك الوقت خرج المشروع الوطني من التداول ولم يُعد حتى الآن.
المشروع الوطني الفلسطيني قبل عملية البتر الجراحية الفاشلة التي أُجريت في غزة عام 1996 بطريقة (الشلفقة) وأسلوب (الهنبكة)، على طاولة الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني لا يختلف في جوهره والكثير من تفاصيله عن المشروع الوطني لحركتي حماس والجهاد المتهمتان مؤخراً في مقال صحفي بتخريب المشروع الوطني" وتعيثُ فساداً في فلسطين وأهلها" ووثائقهما السياسية تؤكد ذلك، فالميثاق الوطني للمنظمة عام 1968، والوثيقة السياسية لحماس عام 2017، والوثيقة السياسية للجهاد عام 2018 تتفق جميعها على أهم ملامح المشروع الوطني، ومنها: تعريف أرض فلسطين الكاملة كوحدة اقليمية لا تتجزأ، ووحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته الدينية والثقافية والسياسية والنضالية، وهدف التحرير والعودة والاستقلال، ووسيلة الكفاح المسلح كطريق وحيد لتحرير فلسطين، والبعد القومي للقضية الفلسطينية، وطبيعة المشروع والكيان الصهيوني العنصرية والعدوانية والتوّسعية والاستيطانية والإحلالية وارتباطه بالمشروع الاستعماري الغربي، وتحديد طبيعة المرحلة كمرحلة كفاح وطني لتحرير فلسطين، ورفض الاعتراف بشرعية الكيان ونهج التسوية والتنازل عن الحقوق الوطنية، وحتى منظمة التحرير الفلسطينية هناك اتفاق مبدأي على تمثيلها للشعب الفلسطيني لكن بعد التعديل وإعادة بنائها لتكون بيتاً للكل الفلسطيني وقائدة للمشروع الوطني، وبالتالي لا خلاف ولا اختلاف وفق ما سبق بين الرؤيتين الوطنية والإسلامية للمشروع الوطني الفلسطيني الأصلي، وان كان هناك اختلاف في المرجعية الفكرية للمشروعين؟
هذا هو المشروع الوطني الفلسطيني الحقيقي، ومن خرّبه هو من تخلّى عنه جرياً وراء أوهامٍ باطلة، ولهاثاً خلف سرابٍ خادع، ومن وصم المقاومة بالإرهاب وأخرج حركات المقاومة من المشروع الوطني، ومن أخرج القضية الفلسطينية من سياقها كقضية تحرر وطني ضد الاحتلال ليدخلها في متاهات إقامة سلطة تحت الاحتلال، وليس "متاهات الصراع الديني مع اليهود" البعيد عن الحقيقة وأصول البحث العلمي، فقد أكدت الوثيقتان السياسيتان لحركتي الجهاد وحماس على أن الصراع مع المشروع والكيان الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، بل مع الصهاينة المحتلين المعتدين، ولم تقتل الحركتان أي يهودي خارج فلسطين لا علاقة له بالكيان الصهيوني.
المشروع الوطني الفلسطيني خرجَ ولم يُعدْ، خرجَ من قبضة منظمة التحرير الفلسطينية، واحتضنته المقاومة الوطنية الفلسطينية خاصة ذات المرجعية الإسلامية، ولم يُعدْ للمنظمة حتى الآن ولن يعود إلاّ بتغيير نهجها وإعادة بنائها وعودة ميثاقها لتكون بيتاً لكل الشعب الفلسطيني وقائدة لمشروعه الوطني.