الكاتب: ليث شحادة
كما هي العادة. مسؤولو فتح والسلطة يصرحون قبل أيام من خطاب الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة. ويبيحون عن النقاط السياسية التي يسطرها الرئيس على الدوام في ورقته المخصصة للدورة الأممية والتي يشرح فيها صورة الوضع بكافة أبعاده. وبالفعل ونحن على علم مسبق، تتساقط تلك النقاط أمامنا لحظة إلقاء الخطاب، مع تعليق ارتجالي من الرئيس عن النقطة التي يرى فيها أنه يجب أن يعرج عليها مع لهجة حادة. ثم يسمع من القاعة التي كانت شبه فارغة عند كلمته، أصوات تصفيقات حارة من الحاضرين مع الرئيس. لعل القشعريرة قد أصابت أجسادهم من شدة نبرته ظنًا منهم أنه يتحدى إسرائيل المستهترة بتهديداته والسائرة في مخططها الاحتلالي لمنع ولادة أي دولة فلسطينية من المنظور البعيد، وأمريكا في عهد ترمب، تلدغ من بعيد ولا تلقي أدنى اهتمامٍ للطرف الفلسطيني.
سأتوقف عند هذا الحد. عنوة عن إرادتي من باب إنني انتقدت سابقاً جل خطابات الرئيس في الأمم المتحدة وكذلك في جامعة الدول العربية وكلماته في المؤتمرات الخارجية واللقاءات الداخلية، حيث وصفتُ فحوى خطابه الأخير الذي ألقاه على منصة المنظمة العالمية التي تحولت إلى منصة الهجوم الدولي، بـ المستهلك والروتيني.
لكن جزئية هامة لشأننا الداخلي طلت بغير مناسبتها، أثارت استغرابي. لأتوقف عندها مثل الكثير من الفلسطينيين، مواطنين وسياسيين، ألا وهي عزم أبي مازن على إصدار مرسوم رئاسي بعد عودته إلى أرض الوطن، لإجراء انتخابات عامة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، كما أنه سيعلن عن الطرف المُعطل لها أمام الجميع، خاصةً أنه طبق قرار المحكمة الدستورية الخاص بحل المجلس التشريعي الذي تشكل حماس فيه الأغلبية، والذي لاقى معارضة واسعة من باقي الكتل البرلمانية والأوساط الفلسطينية الأخرى. وأبدى وقتها استعداده لإجراء انتخابات تشريعية فقط وهذا ما رفضته حماس، معترسةً رأيها في هذا الشأن.
إن الاندفاع نحو "الانتخابات العامة" يلقي الفلسطيني في بحر من التساؤلات والشكوك من قبل مُشهرها. حيث ارتمى أمامي سؤال يوم إشهار الانتخابات البرلمانية وهو: لماذا كل هذا الإصرار على إجرائها دون غيرها، في ظل الانقسام وعدم وجود حكومة تدير غزة والضفة معاً، وفي ظل معارضة "حماس" لها وإصرارها على إجراء انتخابات عامة (رئاسية وتشريعية ومجلس وطني). فما بالنا بمؤسسات المنظمة التي اعترفت بإسرائيل وبشروط الرباعية الدولية، فيما ترفض حماس الراغبة بدخول المنظمة، الاعتراف بدولة الاحتلال وبالتغليفات الدولية، وتدعو ليلاً ونهاراً إلى إلغاء اتفاق أوسلو. غريبة هي حماس حين تلعن أوسلو وتخون السلطة وهي فائزة بانتخابات "سلطة أوسلو" عام 2006 وتبدي رغبتها الآن في الدخول في كافة مؤسسات السلطة والمنظمة بهذه العقلية.
وها هو الفصل الجديد في كتاب الفلسطينيين المفتوح ذي الخاتمة المفقودة، يدفن سؤالي ويُحيى أسئلة كثيرة، أولها: هل الحالة الداخلية مُهيئة للانغمار في الانتخابات الشاملة، في ظل الانقسام؟، هل تقبل حماس بها، وأن تتخلى عن اشتراطاتها المعهودة مثل: تشكيل حكومة وحدة وطنية والدخول بمنظمة التحرير أولاً، والاعتراف بها كشريك بكل شيء. أي تقاسم الدور بينها وبين فتح، ووقف الإجراءات التي تصفها بالعقابية تجاه غزة، أو تقبل بحكومة اشتية الحالية وتساعدها على التحضير للانتخابات؟
وهنا أشير إلى موقف "حماس" الرسمي الذي عبر عنه رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية خلال لقائه بفصائل في غزة، حول استعدادها لخوض الانتخابات العامة وإعادة ما أسمته "الروح للمؤسسات" سواء مؤسسات السلطة أو منظمة التحرير. وأتساءل: هل حماس متمسكة بعنادها الذي أوضحتُه سلفاً؟، أم أنها فعلاً تحمل بداخلها نوايا حقيقية عنوانها الثقة بالنفس، وتتحدى فتح مرة أخرى كما فعلتها عام 2006، ودعمت قبل أيام بدون شروط أو ملاحظات، رؤية ثمانية فصائل أطلقتها لإنهاء الانقسام. وأهم جزئية فيها وجرى التأكيد عليها، هي: الانتخابات العامة: رئاسية وتشريعية ومجلس وطني.
إلى ذلك، تصر "فتح" على تحقيق المصالحة وتمكين حكومة اشتية الحالية، الذي ينظر إليها المعارضون أنها غير شرعية وغير معترف بها، أولاً ثم الذهاب إلى انتخابات شاملة، مع الالتزام ببرنامج المنظمة. أما ردها على رؤية الفصائل الثمانية، كان متبايناً، إذ جزء من قادتها رحب بها وجزء آخر سخر منها وقال إن الحركة ليست بحاجة إلى مبادرات جديدة وإنما بحاجة إلى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وكان آخرها اتفاق أكتوبر 2017، مع رفعها شعار: الانتخابات هي كلمة السر.
فالرئيس اختار الوقت المناسب ليشعر العالم بأن الفلسطينيين يؤمنون بالديمقراطية والتعددية السياسية ومن حقهم أن يكون لديهم دولة مستقلة. وكذلك شعرتُ أنه يريد أن ينهي مشواره السياسي وأنه اقترب من النهاية فعلاً. وليس من السهل أن يترك ومن معه في مطبخ رام الله منصب الرئاسة لشخصية من خارج فتح أو لا يستلطفها أو من أبناء فتح في غزة. قد يسأل البعض لماذا ذكرت أبناء فتح في غزة تحديدًا، وهل لمست حقاً سياسة تمييز بين الضفة وغزة؟. لأجيب خجلاً:" آجل عايشت نماذجها حين بلغ الانقسام ضراوة عاتية، ولا داعي لإطلاعكم عليها، لأنها شائبة وطنية".
أمام ما سبق، آمل أن توافق حماس وفتح على الانتخابات العامة دون اشتراطات مسبقة، وأن تقبل الأولى بحكومة اشتية لتحضر بنفسها للانتخابات برقابة دولية وعربية وألا تضع العصا في الدواليب، وكذلك على الأخيرة أن تتقدم بل تقفز إلى الأمام إذا كانت جادة في الانتخابات العامة. ليتنافس كل فصيل ويعرض برنامجه السياسي والشعب يختار من يمثله. لنرى من سيكسب ثقة الشعب ويعتلي الرئاسة ويشكل الحكومة. على الأقل لكي يضع الفلسطيني حدًا لهذه الحقبة السوداء (الانقسام) المستقرة في تاريخه.