بقلم: عبد الستار قاسم
صبر اللبنانيين طويلا، وأطول مما يجب. الأوضاع في لبنان لم تكن على ما يرام عبر سنوات طويلة. الأوضاع السياسية هابطة ومتميزة بالمنافسات الإسقاطية والإحباطية، والأوضاع الاقتصادية تتدهور باستمرار، والأحوال الاجتماعية لم تشهد قفزات استرخاء للناس، ولا تتوفر برامج للرقي بالأوضاع الصحية والأحوال الشبابية، الخ. الأحوال في لبنان بائسة إلى درجة أن النفايات قد تم إهمال جمعها لتتراكم في شوارع العاصمة. الفقراء يزدادون فقرا، والأثرياء يزدادون نهبا، والسياسيون لا يشبعون فسادا، والإعلاميون لا يحررون أنفسهم من نير أصحاب النفوذ واستعلائهم. كيفما قلّبت الأمور، لبنان يغرق منذ عهود.
أسس النظام السياسي في لبنان
من الأساس، تم تفصيل النظام السياسي في لبنان على أسس التخلف والجهالة، حتى لا تقوى لبنان على الوقوف. بلاد الشام جميعها تعرضت لأكبر مؤامرات الدول الاستعمارية حتى يبقى السوريون (أهل بلاد الشام) مشغولين بمشاكلهم الداخلية وأزماتهم فلا تقوم لهم قائمة. تم تسليم فلسطين للصهاينة، وشرق الأردن خضعت لقبيلة تدين بالولاء للدول الاستعمارية وللصهاينة، ولبنان تم تقسيمها طائفيا حتى تبقى لبنان مرتعا للقوى الخارجية ولمؤامرات أجهزة المخابرات العالمية. وسوريا الصغرى غرقت دائما بصراعاتها الداخلية ومؤامرات الدول الأجنبية والاستهداف الصهيوني. فعندما فصّل الفرنساويون الطائفية في لبنان كانوا على وعي بأنهم فصّلوا لدولة فاشلة لا يمكن أن تتحرر من صراعاتها الداخلية. وهي دولة محكومة بتوازنات مصالح خاصة للمتنفذين طائفيا وعشائريا وجغرافيا.
وأخيرا تحرك اللبنانيون دفاعا عن أنفسهم ومصالحهم، وهذا يبشر بخير، بمعنى أن الشعوب العربية تتأثر بعضها ببعض فتنتقل عدوى تحدي النظام السياسي من إقطاعية عربية إلى أخرى. إنما من الضروري الانتباه إلى أن حكومات لبنان ليست حكومات مصممة للارتقاء بالدولة وبأحوال الناس وتطوير المصادر وتحسين الأوضاع المعيشية الإنسانية، إنما هي حكومات توازنات طائفية متخلفة وعيونها دائما على التوازنات وليس على مصالح الشعب. الطائفية كما القبلية، نظام اجتماعي سياسي متخلف ومن شأنه أن يعمق التخلف.
عنصرية داخلية
الطائفية بحد ذاتها درب من دروب العنصرية الداخلية المقيتة والتحوصل الفئوي الذي يرى نفسه فوق الآخرين. ودائما يحرص الطائفي كما القبلي على مصالحه هو وليس مصالح المجتمع الأوسع، وهو مستعد دائما للتضحية بالمصلحة العامة من أجل المصلحة الخاصة. إنه غير مؤتمن وبغيض، ولا يرتقي إلى مستوى خدمة الناس وإدارة الشؤون العامة. إنه فاسد بالتركيبة الاجتماعية والأبعاد الثقافية، ولا يصلح لمهام عامة، ولهذا لا يمكن أن تكون حكومات لبنان حكومات تقدم وعطاء ورقي وتطوير وبناء. إنها حكومات تخلف تشد الناس إلى الوراء. وإن حصل تحسن على أحوال الناس فذلك بسبب تطوري وليس تطويريا. حكومات لبنان حكومات توازن بين متخلفين.
ولهذا لا يمكن أن يكون الحل الآن بإسقاط الحكومة لأن بديلها سيكون أسقط منها. ولا يكون الحل أيضا ببرامج حكومية جديدة تُطرح على الناس إنما يجب أن يعالج الحل الأمور التالية:
الحراك اللبناني بحاجة إلى قيادة غير طائفية وغير قبلية، ومن خارج الأسر الحاكمة المتحكمة في لبنان. لبنان لا تعاني فقط من الطائفية وإنما من عائلات متنفذة تتوارث الحكم. ولهذا من المهم أن ينهض غير الطائفيين من المثقفين والمفكرين والأكاديميين اللبنانيين لتشكيل قيادة للمتظاهرين وببرنامج واضح مبنّد ويعبر عن تطلعات الناس وآمالهم. لكن قبل المباشرة، عليهم أن يدخلوا في صفوف المتظاهرين ويبثوا الوعي بضرورة وجود قيادة غير طائفية للحراك. وهذا يتطلب تعاون وسائل الإعلام. وهذه مسألة ليست صعبة بخاصة أن الأجهزة الأمنية اللبنانية ليست مبرمجة على القمع والقتل والاعتقال. كما أنه ليس من العسير تشكيل جماعة لبنانية من غير الطائفيين، وهناك رموز فكرية وأكاديمية معروفة يمكن أن تقوم بالمهمة.
وتقديري أن أغلب هؤلاء أصحاب فكر عدالة اجتماعية ورؤية وحدوية عربية. وأذكر بأن غياب قيادات يعد ّسببا قويا في فشل الحراك في بعض الدول العربية. وقد سمعت أحد النشطاء اللبنانيين وهو واصف الحركة يقول على التلفاز إن الشعب يقود نفسه ولا ضرورة لقيادة. هذا يخالف المنطق العلمي تماما. على الأقل هناك حاجة لمن ينسق النشاطات، ولمن يتلقى الاقتراحات من الناس ويصنفها ويرتبها ويصيغها ببرنامج يجتمع عليه المتظاهرون، ولمن يوصل المواقف الشعبية والمطالب بدقة، الخ.
التركيز على تحسين أحوال الناس المعيشية لا يكفي لأنه مؤقت إن حصل. قد تتقدم الحكومة ببرامج آنية للتخفيف عن الناس اقتصاديا وماليا، لكن الطائفي لا يؤتمن، وسرعان ما يتم تجاوز البرنامج لتعود حليمة إلى عادتها القديمة. ولهذا من الأهم التركيز على إلغاء الطائفية ووضع برنامج لمحاربتها. أي أن المطلوب حاليا تعديلات دستورية جذرية تلغي المحاصصة، وتلغي المسؤوليات الموزعة على الطوائف وتعتمد الانتخابات في تسمية رئيس الجمهورية والمجلس النيابي غير الطائفي في تسمية رئيس الوزراء. هذه ليست مهمة صعبة على شعب هزم الكيان الصهيوني.
تعديل النظام الانتخابي
وعليه لابد من تغيير النظام الانتخابي اللبناني. من الضروري وضع نص دستوري يمنع القوائم الانتخابية الطائفية، والأسهل هو تحويل لبنان إلى قائمة انتخابية واحدة فقط. إذا تحولت لبنان إلى دائرة انتخابية واحدة يصبح بإمكان غير الطائفيين المشتتين حاليا في أرجاء لبنان تشكيل قائمة انتخابية يمكن أن تنهض ويزداد عددها مع الزمن. المهم أن تبدأ لبنان بخطوة نحو التفكير بالمجتمع الأوسع. وإذا تطور هذا المنحى فإن المحاصصة الطائفية ستذوي رويدا رويدا، وستنشأ لبنان الجديدة.
من المهم فك لبنان من ارتباطاتها مع المؤسسات المالية الدولية، وتطوير فكرة الاعتماد على الذات. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية لا تورث إلا الفقر والذل والدمار الاقتصادي.
ويبقى السؤال: هل سينتخب المتظاهرون طائفيا إن حصلت انتخابات جديدة؟ بهدوء وجانبيا عن الآلام المعيشية والوطنية التي يعاني منها على مدى سنوات طويلة. هناك صمت شعبي على المستوى الجماهيري يفسح مجالا أمام المزيد من الآلام. أسباب ومبررات الحراك الفلسطيني متوفرة وبقوة وبوضوح الشمس، وأوجزها بما يلي:
أولا ـ شعب فلسطين صاحب قضية وطنية استهتر بها قادة شعب فلسطين، وأدت سياساتهم إلى تراجعها على مختلف المستويات بما فيها الداخل الفلسطيني نفسه. والشعب ممنوع من الدفاع عن نفسه وعن وطنه ليس من قبل الاحتلال الصهيوني فقط، وإنما من قبل القيادات الفلسطينية نفسها التي نادت بالمقاومة الشعبية السلمية وهي تنسق أمنيا مع الاحتلال. الاحتلال يفرض أمرا واقعا، وقيادات فلسطين تبحث عن مخرج فيما يسمى القانون الدولي.
ثانيا ـ الفساد ما زال منتشرا في الأرض الفلسطينية، ولا أفق لمحاربته. الوساطات والمحسوبيات مفسدة كبيرة، وتولد الكراهية والبغضاء بين الناس. والأخلاق العامة متدهورة.
ثالثا ـ القضاء ليس فعالا، ويعرقل مصالح الناس بإجراءاته المقيتة ويستنزف المعنويات. التعليم المدرسي والجامعي متدهور بصورة خطيرة جدا، والالتزام الوطني ضعيف إلى جانب ضعف الثقافة الوطنية.
رابعا ـ لا تتوفر شرعية لأحد لا في غزة ولا في الضفة الغربية.، ولا على مستوى السلطة ومنظمة التحرير. القانون غير محترم، وعباس يقف على رأس من ينتهكون القوانين. والهوية الفلسطينية ممزقة، ولم تعد هناك هوية جامعة للجميع.
خامسا ـ لا تختلف الفصائل الفلسطينية في ممارساتها عن ممارسات طوائف لبنان. إنها تمارس العنصرية، وتساهم في تمزيق الشعب، وتصر دائما على المحاصصة المدمرة.
سادسا ـ الانقسامات الداخلية متعددة، والفصائل السبب الأول فيها. كما أن السلطة الفلسطينية تمارس التمييز بين الناس.
سابعا ـ الناس مثقلون بالضرائب والرسوم الباهظة على المعاملات الرسمية، والحالة الاقتصادية تعاني من الركود، والأجهزة الأمنية تمارس أفعالا لا تختلف عما تمارسه أجهزة الأمن العربية.
طالما تغنينا بأنفسنا وبطولاتنا وأخلاقنا الرفيعة، ونحن الآن أمام مسؤولية تاريخية كبيرة تعيد البوصلة الفلسطينية إلى سابق عهدها. علينا أن نكون أوفياء لوطننا وشهدائنا وآلام أمهاتنا وأنات أطفالنا ومستقبل أجيالنا. فهل نغضب؟
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"