بقلم/ د. محمد الهندي
شكّلت الضربة التي استهدفت الحاج قاسم سليماني _ رحمه الله، انقلابا فجّاً على سياسة ترامب اتجاه إيران و التي تمثّلت في اعتماد أشد الضغوط الإقتصادية والدبلوماسية لإجبار إيران على العودة للتفاوض – تحت الضغط – على برنامجها النووي ودورها وسياستها في المنطقة، وصلت حد احتواء التصعيد الإيراني في أكثر من مناسبة.
مغامرة غير محسوبة انفرد بها رجلٌ مغرور يفتقد الحكمة تحت ضغوط بدء حملته الرئاسية محاطاً بمحاكمة برلمانية صعبة ومدعوما برجلٍ فاسدٍ منخرطٍ في صراع سياسي شخصيٍ مرير جلّ أولوياته الفوز في انتخابات الكنيست في مارس القادم.
وكما هو معلوم فإن إيران تمتلك رؤية ومشروع للمنطقة وتتحرك وفق مرتكزات سياسية – إيدلوجية ثابتة – ولا تعتمد على شخص واحد مهما كان تأثيره (مثل الدكتاتوريات القائمة)، وتحركاتها محكومة بمصالحها ومتطلبات أمنها القومي.
في تصوري فإن الإيراني (صانع السجاد) طويل النفس يتحرك لمواجهة هذا العدوان الأمريكي في اتجاه تحقيق مصالح إستراتيجية مع تجنب المخاطر الآنية أو الذهاب لحافة الهاوية كما تتمنى إسرائيل وبعض العرب؛ وفي هذا السياق -ورغم تعدد الخيارات أمام إيران وحلفائها- فإنها ستحافظ في ردها على سقفٍ محدد وسياقٍ محسوب يحقق المكاسب الإستراتيجية ويبتعد عن المواجهة الشاملة وردة الفعل القوية.
الرد بهذه الطريقة يحقق على هامشه إنجازات دبلوماسية تظهره وكأنه استجابة لمطالبات الوسطاء الأوروبيين والأتراك والقطريين وأصدقاء آخرين، كما يمكن لمثل هذا السياق في الرد أن يحقق الإضرار بحملة ترامب للإنتخابات الرئاسية وحتى هزيمته.
الرد بالمعنى الاستراتيجي يتمثل اليوم بالضغط بكل الوسائل وبطول نفس لإخراج أمريكا من العراق لأن ساحة العراق هي الأكثر أهمية بالنسبة لإيران.
وبالتعامل مع ساحة العراق من المهم أن تكون النظرة شاملة لكل المصاعب الموجودة هناك والتي ليس أهمها التواجد العسكري الأمريكي؛ بل النظرة العدائية المتشككة التي تتحكم بعلاقات السنة والشيعة في العراق والتي تفتح مجالات للأمريكان وغيرهم من الأعداء للعبث.
إن إعطاء أولوية لمصالح العراق الوطنية ولقضايا الإجماع الوطني -سنة وشيعة- بعيداً عن التدافع المذهبي عامل بالغ الأهمية لتحقيق طرد أمريكا من العراق.
أهداف استراتيجية أخرى لكنها اقل أهمية وأكثر صعوبة في مقدمتها إخراج أمريكا من سوريا حيث اليد العليا هي للحليف الروسي الذي له مصالح وحسابات مغايرة تماما، تسمح له بالتنسيق الأمني مع إسرائيل في سوريا، وفي هذا الجانب نلحظ ردة فعل الروس الباهتة على اغتيال الفريق سليماني التي تعتبر أقرب إلى الموقف الأوروبي العام الذي يدعو إلى التهدئة.
نحن إذاً أمام حرب استنزاف متصاعدة مع إيقاع منضبط ضد تواجد القوات الأمريكية في العراق والهدف اقتلاع الوجود الأمريكي هناك والبداية بالضغوط السياسية حيث موافقة مجلس النواب العراقي بالأمس على اقتراح رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بإلغاء اتفاق التعاون الأمريكي العراقي وإخراج القوات الأمريكية من العراق.
إضافةً إلى ذلك هناك خطوات أخرى في سياق تحقيق أهداف استراتيجية تتخذها ايران أهمها :
1- الانسحاب من الإتفاق النووي وما يولّده هذا القرار من ضغوطات أوروبية على أمريكا لرفع العقوبات أو تخفيفها وهذا إنجاز مهم لكنه لا يتحقق مع ترامب ومؤجل لبعد الانتخابات الأمريكية.
2- تعزيز محور المقاومة وحتى في الحالات التي لا تنخرط فيها أطراف المقاومة في الرد على هذه الجريمة نتيجة لحساباتٍ خاصة بكل طرف وموقع؛ فإن تعزيز فصائل وأحزاب المقاومة بالنسبة لأمريكا وحلفاءها وإسرائيل بالطبع، يكتسي بطابع استراتيجي مهم في الصراع على مستقبل المنطقة.
يبقى الإشارة الى بعض القضايا المتعلقة بهذا الصراع:
- إسرائيل يدها مقيدة بهذا الصراع، وحتى في حال انسحاب إيران من الاتفاق النووي _ والتي كانت إسرائيل أكبر محرض عليه – لأن إسرائيل ليس لديها القدرة على احتمال رد الفعل، وهذا الموقف ينسحب أيضا على الحلفاء الآخرين لأمريكا في المنطقة الذين تجنبوا رد الفعل الإيراني مالم تُستخدم القواعد الأمريكية على أراضيهم في الهجوم على إيران.
- في فلسطين حماس ستمضي في التهدئة مع إسرائيل عبر وساطة القاهرة، وتحرص على أولوية علاج قضايا القطاع.
في النهاية يبدو الأمر وكأن وجود رجل مغرور يفتقد الحكمة في البيت الأبيض متحالف مع رجل فاسد ومغرور وشيزوفريني في تل أبيب حكمة إلٰٓهية لبدء انحسار حقيقي لأمريكا وبالتالي للدكتاتوريات القمعية الرابضة على قلب شعوب الشرق الإسلامي.
لله الأمر من قبل ومن بعد
د. محمد الهندي
رئيس الدائرة السياسية في حركة الجهاد الإسلامي