قائمة الموقع

بالصور الستينية هادية قديح.. تحتفظ بسر الكحل البلدي منذ 55 عامًا

2020-02-26T10:20:00+02:00
هادية قديح ‫(29079950)‬ ‫‬.jpg

شمس نيوز/ توفيق المصري

تمسك الستينية هادية قديح بقطة قماش "توبيت" لها في البال ذكرى، وتضعها داخل زبدية فخار ثم تسكب عليها زيت الزيتون وتحرقها، وتضع "صينية" من الألمنيوم أعلاها –للزبدية- ليعلق فيها الدخان.

تسند أم حسين (64 عامًا) ظهرها المنحني قليلاً، وهي تنتظر هفوت النار وتوقف تصاعد الدخان، ثم تقلب الصينية وتنحت قلبها لتجمّع الرماد الأسود الملتصق فيها، فهو أصبح بذلك كحلاً.


 

تصحب معها في مرحلة النحت ملعقة، قبل ذلك نادت على حفيدتيها جنان ونعمة لتجلبان لها "البرقع"، الذي يجب ارتدائه في عادة أهل الريف بمنقطتها عبسان الكبيرة في شرق خانيونس جنوب قطاع غزة، أمام الغرباء، لكنها أصرت أن تظهر لنا نصف وجهها دون خجل.

كانت مآربها من حضور جنان ونعمة ليس "البرقع" بل لتجلسهما غصبًا إلى جانبها، لتحدثهما عن سر هذا التراث، وكي تضمن من مشاهدتهما كيفية صناعة الكحل البلدي لأن يبقى بعد رحيلها.


 

تخبر جنان ونعمة وهي تجمع ببطء الرماد حتى لا يطير في الهواء ويذهب تعبها سدى، أن صناعة الكحل آخر ما سرقه نظرها من والدتها قبل أيام من وفاتها وهي بعمر الـ 10 سنوات، والآن تدخل الـ 55 عامًا في صنع الكحل.

تحكي قصتها وهي تضحك لهم ولنا، أنها أخفت نفسها خلف الباب وأمها "فطوم" تصنع الكحل، من نفس نوع قماش "التوبت" الذي لا يتوافر حاليًا في أسواق غزة.

بلغة مبسطة قالت لحفيدتيها، إنها تحتفظ بقطعة كبيرة من قماش "التوبيت" منذ عام 1991 أحضرها جدهم من الأردن، وهذه الأيام حان موعد خروجه للاستخدام.


 

ضربت كفًا بكفٍ وهي تتحسر على القطعة التي ذهبت للتو سدى بطول وعرض 20*20 سم حين طار الكحل من الصينية إثر الهواء، وقطعت حديثها لحفيدتيها لتشير إلى أن صناعة الكحل يجب أن تتم في غرفة مغلقة أو في الجو الخارجي دون هواء قوي، لكن الجو "غشها" اليوم وفجأة هبت رياح فطارالكحل.

نفضت عن نفسها الكحل، وأكملت لجنان ونعمة، أنها حين شاهدت والدتها وهي تضع القماش في الزبدية وتسكب عليه الزيت وتحرقه، سألتها: ماذا تصنعين؟، فردت: أنه هذا الكحل البلدي. فيما ظل عالقًا صناعته من نظرة واحدة -كما تقول- في ذهنها منذ تلك اللحظة وتصنعه وتقدمه لجاراتها وصديقاتها وبناتها ولزوجتي ابنيها، وتتمنى أن يتزوجا الاثنين الآخرين لتصنع لزوجتيهما قبل وفاتها.

أما صناعته في وقتنا الحالي، فيذكر الستينية هادية بالأجداد، ففرض سؤال نفسه وبقوة أمام أم حسين لماذا تصنعينه الأن: قالت: "أرغب في إحياء التراث الفلسطيني، وأعلم الطينيات جنان ونعمة"، -والطينيات بلغة أهل خانيونس هم الأطفال.

تابعت: "بكرة بموت فبتذكروني ولو ما عملت الكحل حينسوا صناعة الكحل اللي كان في قديم الزمان، وهو بسيط ولا يعرفن قيمته منه للزينة ومنه لشفاء العين من الرمد وأمراض أخرى ويوسع جفون العين، وهذا ما شاهدته في النسوة الكبار حين كنت طفلة وما سمعته حين كانن يتهامسن ذلك في أحاديثهن وجلساتهن".

قطعت حديثها لمراسل "شمس نيوز"، حين شاهدت جنان ونعمة تلعبن بـ"القداحة" وتنحتن صينية الكحل، فنهرت عليهن وحاولتا الهرب، فأمسكت بهن فهي لا ترغب في إبتعادهن، ومدت يدها في جيبها وأخرجت منها مكحلة مليئة بالكحل كانت قد عبأتها في وقت سابق، وأغرتهن بأنها ستكحل أعينهما.


 

المكحلة التي تمسكها بيدها ولونها ذهبي من النحاس، لم تكن موجودة في عصر والدتها وظهرت منذ 30 عامًا، كما تذكر أيضًا، أن والدتها كانت تخزن الكحل في زجاجة صغيرة أعلاها "فلينة"، وكانت تجلب "دِرناحًا مِلِس مثل عود المنكوش" بلغتها الريفية والمقصود هنا نكاشة الأسنان، وتغزه ببصلة ليصبح مبلولاً، ثم تدخله في الزجاجة فيمسك به الكحل.

فيما درجت العادة قديمًا في تكحيل المواليد، لتصبح أعينهم مشدودة، وكما تقول بلغتها البسيطة: "أنا استعملته مع أولادي منذ عام 1979، وسِرِ الطنى ما كان يطيح إلا لما أحط عليه كحل"، وسر الطنى أي صرة المولود التي تسقط بعد أن تجف.

وتستعيد ذكرياها بخجل، عن أول مرة كحلت فيها عيناها، وهي بعمر أصغر أبنائها إبراهيم في العام 1995، حينها وقفت أمام المرآة وجلبت ما صنعت لتشد عينها، واكتفت بذلك المقطع، وهي تقول: "تكحلت وخلص فاكرة اللي فاكراه.. راح الجوز وراحت الحياة بعد وفاة زوجي في العام 2016 بعد إصابته بمرض القلب".

قبل مغادرة مراسل "شمس نيوز"، أصرت على أن تفصح عن شيء مهم بالنسبة لها، أن جدها أخبرها نقلاً عن أجداده، أن عائلة قديح أصولها من شبه الجزيرة العربية، وكانوا ثلاثة أشقاء أحدهم عاش في خانيونس والثاني في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، والثالث في الداخل المحتل، كما أصرت على كتابة هذه المعلومة لتبقى راسخة للأجيال المتعاقبة.

اخبار ذات صلة