قائمة الموقع

كــورونا بيـن العقــاب الإلهــي وسيكولوجيــة الشماتــة

2020-03-12T12:31:00+02:00
د. وليد القططي

بقلم/ د. وليد القططي

ما إنْ يُبتَلى العالم بكارثة طبيعية أو مرض وبائي؛ حتى تنتشر في البلاد العربية اسطوانة العقاب الإلهي المُكررة والمشروخة، التي يتوّلى كبِر ترويجها بعض خطباء المساجد ووعّاظ المقاعد، ومن سار على دربهم من نشطاء التواصل الإلكتروني، واتبع سنتهم من عامة الناس. ولم يكن وباء (كورونا) بدعاً من الكوارث والأوبئة، فلم يكد ينتشر الوباء الفتّاك، حتى أُعيد طبع ملايين النسخ من اسطوانة العقاب الالهي المُكررة المشروخة، وسرعان ما انتشرت الاسطوانة المُملة انتشار النار في الهشيم، وسرعان ما انطلقت انطلاق الصاروخ في الفضاء. وفي الوقت الذي ينشغل فيه علماء الطب بمحاولات حثيثة تسابق الزمن لاكتشاف دواء يشفي المصابين، وفي الوقت الذي ينهمك فيه علماء الصيدلة بجهود دؤوبة تُباري الوباء لابتكار لُقاح يقي المعافين؛ ننشغل – نحن العرب- أو البعض منّا، بإظهار الشماتة بالدول التي أُصيب مواطنيها بالوباء من (الكٌفّار والفُجّار)، وننهمك بإبداء التشفي بالبلاد التي كابد أهلها معاناة المرض من (الروافض والفواسق)، حتى إذا ما طرق الوباء باب (الفرقة الناجية)، تحوّل البلاء إلى ابتلاء، وانقلبت البلّية هدية، فأصبحت للصالحين منحة، وللطالحين محنة. وما بين العقاب الإلهي وسيكولوجية الشماتة لا بد من كلمة تضع النقاط على الحروف في الزمن العربي غير المعروف.

العقاب الإلهي عذاب أو هلاك ينزله الله تعالى على البشر بسبب عمل سيئ قاموا به استوجب غضب الله تعالى عليهم، وهو موجود في معتقدات الشعوب مُنذ القِدم، وذُكرتْ أمثلة منه في التوراة والانجيل والقرآن، ومن أمثلته في القرآن الكريم: إخراج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة، وإغراق الكفار في عهد نوح عليه السلام بالطوفان، وإهلاك قارون بالخسف، وعقاب بعض عصاة بني إسرائيل بالمسخ، والقضاء على قوم عاد عليه السلام بالريح، وإبادة قوم صالح عليه السلام بالصيحة، وإفناء قوم لوط عليه السلام بالحاصب، وإذاقة أهل سبأ لباس الجوع والخوف، وضرب الذِلة والمسكنة على بني إسرائيل. وكان العقابُ دائماً مرتبطاً بالذنوب " فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ "، والأعمال السيئة " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ "، والخلل الداخلي " قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ "، والمجاهرة بالفاحشة " كما جاء في الحديث الشريف" لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعْلِنوا بها، إلَّا فشا فيهم الطَّاعونُ والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضَتْ في أسلافِهم الَّذين مَضَوا "، فالهلاك والمصائب والهزائم والأوبئة نتيجة للذنوب والأعمال السيئة والخلل الداخلي والمجاهرة بالفواحش... وأكد ذلك رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم – عندما سؤل "أنهلكَ وفينا الصالحون؟" قال: "نعمْ إذا كثُرَ الخبث".

وفي الصورة المقابلة للعقاب الإلهي تظهر صورة الثواب الإلهي في الحياة الدنيا كحقيقة يقينية في دين الله من خلال نصوص القرآن والسنة، فجعل الله تعالى الإيمان والعمل الصالح ثوابه الحياة الطيبة في الدنيا "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً"، وربط الإيمان والتقوى من جهة والفوز بالبركة والرزق والخير من جهة أخرى "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، وجعل جزاء شكر النعمة زيادتها "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالنصر والتمكين والأمن والاستقرار "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا"، وذكر ثواب الدنيا جزاء للمؤمنين إضافة لثواب الآخرة "فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ". ولا يوجد ثواب في الحياة الدنيا أعظم من ثواب إطمئنان القلوب بالإيمان وذكر الله "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" والأمن النفسي بالإيمان والهداية "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ". في عصر القلق والخوف والتوتر والاضطراب الذي يسود العالم بسبب الانحراف عن الفطرة السليمة والبعد عن النهج القويم.

العقاب والثواب الإلهي في الحياة الدنيا ليس هو الأصل في جزاء الله تعالى للبشر؛ فالأصل هو الجزاء عقاباً بالنار وثواباً بالجنة في الحياة الآخرة، ولو جعل الله تعالى ذلك هو الأصل لهلك الناس جميعاً لقوله تعالى "وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى". أما العقاب الحقيقي للبشر في الحياة الدنيا فهو من صنع أنفسهم وبما كسبت أيديهم، فكثير من الكوارث والأوبئة هي غضب من صنع الإنسان، نتيجة لسوء استخدام الطبيعة، والإفراط في استنزاف البيئة، والاسراف في استهلاك الموارد، والشطط في إنهاك التربة، والزراعة المُفرطة، والرعي الجائر، والصيد المتعسف، والاحتطاب الزائد، والتلوث البيئي، والحروب المُدّمرة، وأسلحة الدمار الشامل، والتوزيع الظالم للثروات، وارتكاب الفواحش والموبقات، وممارسة الشذوذ الجنسي، ومُخالفة الفطرة... فدفع الانسان ثمن ذلك الظلم للطبيعة ولبني جنسه ولنفسه من رزقه وحياته، وصحته الجسدية والنفسية، وأمنه النفسي والاجتماعي، واستقراره الفردي والمجتمعي. وفي ذلك عقابه في الحياة الدنيا، أما الثواب فمن صنع الإنسان يهديه الله تعالى له في الحياة الدنيا حياةً طيبة، واطمئنان للقلوب وإحساساً بالأمن جزاء الإيمان والاستقامة.

واذا كان الأصل في الجزاء الحياة الآخرة، أما في الحياة الدنيا فالجزاء الأعظم هو الحياة الطيبة للمحسنين، والحياة السيئة للمسيئين، والكوارث والأوبئة قد تكون في هذا الإطار، وقد لا تكون في هذا السياق، وعلمها عند الله، وانقطع علمها بعد عصر النبوة، فأي بشر يزعم أن لديه علمها هو تأله على الله سبحانه وتعالى، وأي إنسان يدعي معرفة مُراد الله تعالى من حدوثها هو انحراف عن مهمته المُكلّف بها من الله تعالى كإنسان وظيفته معرفة أسبابها المادية العلمية ومواجهتها وعلاجها، وفي إطار واجبه بعمارة وتسخير الأرض، فادعاء معرفة مُراد الله من كل كارثة ووباء خطأ في فهم مقاصد الدين، وتفسير آيات القرآن الكريم، وإدراك الظواهر والحوادث الكونية، وانشغال عن مهمة الإنسان الحقيقية، فلا يُعقل تفسير كل كارثة ووباء بالعقاب الإلهي، وما طاعون عمواس وعام الرمادة عند ذلك الفهم ببعيد، فقد أصاب الطاعون بلاد الشام، وضربت المجاعة بلاد العرب، في عهد الخلافة الراشدة زمن سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ومات في الطاعون آلاف المسلمين منهم كبار الصحابة، وزلزلت المجاعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلم ينشغل المسلمون آنذاك بلوم الضحايا وتوزيع الاتهامات وإصدار الأحكام، ولكن فرض أميرهم الحجر الصحي لمواجهة الطاعون، والعدالة الاجتماعية لمواجهة المجاعة.

والحقيقة المُرة الغائبة في اسطوانة العقاب الالهي التي تُبرر كل (الزيطة والزنبليطة) على مواقع التواصل الالكتروني، أنها نوعٌ من التشفّي بالآخرين، وجزءٌ من سيكولوجية الشماتة كأحد المكوّنات النفسية للشعوب المأزومة، وأحد ممارسات الأُمم المقهورة، التي تُعاني الظلم والاضطهاد، وطال عهدها بالفساد والاستبداد، وضُربت عليها حالة العجز والاحباط، وأُصيبت بقلة الحيلة وانعدام الفاعلية، ونُزعت منها رسالتها، وانحرفت بوصلتها، فلا زالت تمارس رياضة المشي في نفس المكان، وما انفكت تعشق هواية الهرولة في ذات الزمان؛ فانشغلت بالشماتة والتشفي في بعضها البعض: جماعات دينية، وفرق مذهبية، وأحزاب سياسية، وطوائف عرقية... وحتى نوادي رياضية. وانهمكت بالشماتة والتشفي بغيرها من الآخرين والمنافسين والخصوم والأعداء، بدلاً من إصلاح حالها، والتهت بتفسير مصائب الآخرين عوضاً عن تفسير مصائبها، فما أغنى ذلك عنها شيئاً، وهل تُغني الشماتة من تقدم؟!، أم يُسمن التشفي من تطور؟!، أم يُساعد (عته الفيسبوك) على حل أي مشكلة أو معضلة؟!.

الشماتة والتشّفي شعورٌ وجداني بالسعادة بمصائب الآخرين، يصحبهُ تبرير عقلي لا شعوري، ظاهره فيه العدل بأن الجزاء من جنس العمل، وباطنه فيه الظلم للآخرين، بنزع الصفة الإنسانية عنهم، أو على الأقل في مرتبة أدنى من البشر، فهم يستحقون العقاب، وبمجرد أن نقنع أنفسنا بذلك، نظلم أنفسنا لأننا نزعنا الصفة الانسانية عنها، بعدم تعاطفنا مع الضحايا من جنس الانسان وهذه الرسالة التي أراد الاديب الانسان مصطفى المنفلوطي في النظرات والعبرات مُخاطباً الانسان "ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود (مُصاب)، فنبتسم سرورًا ببكائك، واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تُسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان".

اخبار ذات صلة