شمس نيوز/ توفيق المصري
انقشعت الغيمة السوداء عن مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بعد الحريق الذي اندلع في سوقه ظهر يوم الخميس 5 مارس، وأدى إلى استشهاد 19 مواطنًا، ومن يومها يحاول سكانه إعادة البريق لحياتهم ولململة جراحاتهم بما تبقى من ذكريات تركوها من رحلوا في نفوسهم.
كان الشاب محمد الشاعر (20 عامًا) شغوفًا للعمل بعد سنوات من التعطل، و أُتيحت له فرصةً شاء القدر أن تكون في مخبز البنا بسوق النصيرات رغم بُعد المسافة عن منزله في حي الشجاعية، ليتزامن الانفجار مع يومه الأول للعمل حيث لقي مصرعه.
رحل من كان يملاً البيت مرحًا وفتوةً، وحيد العائلة من الذكور، ومنذ رحيله تحاول والدته (أم محمد) أن تغالب حزنها وغيابه بترتيب دولابه بشكل يومي وتُعطير ثيابه.
داخل المخبز، إلى جانب محمد حيث وقع الانفجار، الذي تبين لاحقًا أنه ناجم عن تسريب للغاز، كان طيب "القلب أبو الشهامة" كما لقب، عبد الله محمد الزريعي (25 عامًا)، يمارس عمله، وإلى جانبه عدي حسن الزريعي (21 عامًا) الذي حضر رغم أنه ليس موعد عمله، وكانت الابتسامة لا تفارق شفاه رغم كل الضغوط، ويجهز لفرحٍ "لم يحصل" مثله في القطاع.
وارتقى عبد الله قبله بأيام، وتمنى عدي وهو على سرير المستشفى أن يُسمي ابنه حسين، ونادوه خلال أيام صراعه مع الإصابة بأبو حسين، وتلك كانت تفرحه كثيرًا.
قبل وقوع الانفجار بلحظات، كان حنفي محمود محمد أبو الليل (41 عامًا) يشارك عبدالله وعدي العمل، يقذف في مسامعهم كلمات تسعدهم، فهو كان لهم الشقيق والصديق والأب.
وقع الانفجار ومالك المخبز أسامة وصفى حسن البنا (50 عامًا) يهُم بالخروج، أوصلته قدماه إلى الباب، وحينما سمع استغاثة عماله، أصر على الدخول ليحاول انقاذهم واحترقوا معًا، وكان بإمكانه أن ينجو بنفسه.
ليان.. آخر يوم في الروضة**
في ثوانٍ امتدت نيران الانفجار إلى محلات ألبسة مجاورة للمخبز، التي حضر إليها الشاب زياد زكريا إبراهيم حسين (22 عامًا) كعادته من مخيم البريج حيث يسكن إلى العمل فيها، تلك الطريق التي اعتاد عليها يوميًا منذ سنوات، ليعيل عائلته التي تعاني ظروفًا صعبة.. (كان جميلاً بوجه منير في تقاطيعه، رغم ظروفه وكأنه يقول إن الأمل في نفسي موجود.. وكان دائم المشاركة في مسيرات العودة، وتمنى كثيرًا الشهادة خلالها، وقال ذات مرة في فيديو صحيح هاجرنا الوطن، بس حاشى لله يهجر منا).
على نفس الطريق من البريج إلى النصيرات، سارت إيمان حسن محمد حسين -أبو محروق- (23 عامًا) مع ابنتيها ليان 5 سنوات ومنال التي تصغرها بعام، لتشتري لهم ملابس جديدة بمناسبة إشهار أحد أقاربها.
وقبل 24 ساعة من الحدث سُجلت ليان في المدرسة، وطلبت من والدها "حسين" أن يشتري لها حلوى "الشتوي" لتوزعها على فصلها بالروضة، ولتقول لهم إنها كبرت عامًا.
كان حسين ينتظر عودتهم بعد أن أحضر ابنته "جنة" التي تركتها زوجته عند والدته حتى يتسنى لها التسوق دون قلق.. كان ينتظر بلهفة عودتهم حتى يفي بوعده بالخروج إلى مطعم، ويفاجئ زوجته الماهرة بإعداد قوالب "الجاتوه" وتتبادل الصور مع شقيقاتها، لكنهم لم يعودوا حينما وقع الانفجار وهم داخل إحدى المحلات إلى جانب المخبز، ورحلوا ليصبح لـ"جنة" أبًا وأمًا معًا، تبكيه بسؤالها المتردد أين ماما وليان ومنال؟ لينتهي حلم شقيقاتها بغرفة أطفال جمع والدهم نصف ثمنها.
الحضن الأخير في قلب النيران**
صبيحة ذات يوم الحدث، قررت لينا إياد حمدان (16 عامًا)، التغيب عن المدرسة -برغم أنها مشاركة في رحلة ترفيهية- لترافق والدتها المُتعلّقة بها سلوى حمدان (47 عامًا) التي لا تستطيع الذهاب بمفردها لعيادة "الأونروا" القريبة من سوق النصيرات، لمراجعة حالتها الصحية، كونها تعاني من مرض السرطان منذ 16 عامًا.
في طريق العودة من عيادة الوكالة وبعد استلام العلاج، سمعتا صوت انفجار، فراود تفكيرهن أنه قصف إسرائيلي، وطلبن من صاحب إحدى المحلات الاحتماء لديه، دون أن تعلما أن هنا آخر اللحظات.
وصلت النيران المحلات في ثوان حينما دوى انفجار آخر، ووصلت فرق الإنقاذ إلى المكان.. نادوا على الابنة أن تخرج وتترك والدتها، لكنها أصرت من شدة تعلقها بوالدتها على أن تبقى بحضنها، وانتشلتا وهن يحتضن بعضهن.
كانت تحلم الأم سلوى بأن تتعافى من مرض السرطان، وأن تستريح من جولات العلاج إلى الأردن، فيما كانت تحلم الابنة لينا التي تخصصت في الفرع الأدبي، أن تخدم المجتمع بعلمها. لكن أحلامهما ذابت مع الحريق الذي التهم أرواحهما، وظلت ذكرياتهم وضحكاتهم عالقة في ذهن الأب وولديه والابنة الكبيرة.
خلف تلك المحلات ، كان الحاج ماجد أبو يوسف (66 عامًا) يتواجد برفقة نجله عدي (19 عامًا) في معمل البلوك مصدر رزق العائلة الوحيد، يمارسون عملهم كالمعتاد.
في لحظة انفجار صهريج الغاز واندلاع النيران في عشرات المحلات القريبة من المكان، كان يتسامر الحاج الذي عاش مكافحًا باحثًا عن لقمة العيش، مع نجله عدي، وذلك قبل أن تأكل جسده النيران.
كانت سالي أحمد عيد (16 عامًا)، تسير مصطحبة شقيقتها ريتال (3 أعوام)، في لحظة وصول النيران للمحلات التجارية في سوق النصيرات، لشراء هدية لشقيقتهما الكبرى.
سالي التي امتازت بطيبتها، كانت آخر كلماتها لأمها: "أختي أحضرت لي هدية، وسأذهب لشراء هدية لها".. وريتال التي تعدها أسرتها “عصفورة البيت" التي كانت تصر على المبيت بجوار والدها "محمد عيد" في الفراش وقد حدثته صبيحة الحريق بأحلام غريبة أثارت انتباهه دون تفسير، شاء القدر أن تتحقق برحيلها مع شقيقتها سالي التي أخرجت بعض الأغطية، وأخبرت أمها بضرورة أن تلفها بها عند موتها.
ابتسموا للصورة رجاءً**
كان يتجول الطفل فراس عوض الله (12 عامًا) لشراء بعض الحاجيات لعائلته، منتعلاً حذاء التزلج على العجلات الرياضية التي أحب ممارستها مؤخرًا، وفي يده هاتفًا محمولاً يلتقط صورًا، الذي كان شغوفًا بالتصوير؛ ليوثق كل شيء يقوم به وينشر على اليوتيوب، لكنه لم يعلم أنها ستكون آخر الصور، والتقطت آخر الصور لقبره بعد تشييع جثمانه ودفنه، نشرتها شقيقته نرمين.
أمام الطفل عوض الله، كان الشاب أحمد أبو رحمة داخل محل بوظة يعمل به، وهو يوزع الابتسامة التي رفعها شعارًا، من حبه للعمل، لكن الحريق خطف زهرة عمره بلحظات، وحول مصدر رزقه إلى رماد.
وحينها وصلت النيران، إلى صالون الحاج عبد الرحمن الخواص (65 عامًا) الذي يوصف بـ"الأثري" في مخيم النصيرات ويأتي لصالونه من منزله بمخيم البريج مشيًا على الأقدام، لعشقه لمخيم النصيرات، وتكوينه شبكة علاقات طيبة بجيرانه.
عُرف الخواص بابتسامته التي لم تكن تفارق وجهه، وببساطته الكبيرة وبقربه من القلب، وكان محبوبًا وعلى علاقة طيبة بالجميع. مارس مهنة الحلاقة منذ أكثر من 40 عامًا بحب، وكان يعمل جاهدًا ليطعم عائلته التي تعيش ظروفًا صعبة، جراء إصابة أحد أبنائه خلال مسيرات العودة، وآخر بحروق في الجسم قبل سنوات، وثالث بمرض كلوي، بالإضافة إلى هجرة اثنين آخرين خارج القطاع.
كان يتحدث بطيبة عن همومه لزبائنه، ويُحملُ كل مسؤول يرتاد محله أرقام وأسماء أُناس بأمس الحاجة إلى المساعدة، آخرهم تلقاها بعد يومين من رحيله جراء الحريق.
وبوفاة المواطنة حياة صبح ( شقليه) (49 عامًا) صباح أمس الأحد، متأثرة بحروق أصيبت بها خلال حريق النصيرات وسط قطاع غزة، يرتفع عدد ضحايا الحريق إلى 19 شهيدًا..
أم عوض من سكان حي الشجاعية وتوفيت خلال علاجها بمستشفى الميزان في مدينة الخليل بالضفة المحتلة، رحلت عن عائلتها التي ظلت ذكراها باقية في ذهنها.