بقلم د. وليد القططي
كتبَ الشاعرُ الثائرُ فؤاد حداد بعد النكسة قصيدة (الأرض بتتكلم عربي)، اختار الموسيقار سيد مكاوي بعض أبياتها فلحنها وغناها، ليؤكدا سوياً على عروبة فلسطين، والتحريض على تحرير أرضها، وضرورة النهوض من ظُلمة الهزيمة نحو نور النصر. فؤاد حداد واصل دعوته لتحرير الأرض بالمقاومة صادحاً "ازرع كل الأرض مقاومه.. ترمي في كل الأرض جذور.. ان كان ظلمه تمد النور.. وان كان سجن تهد السور.. كون البادئ كون البادئ.. كل فروع الحق بنادق..غير الدم محدش صادق". هذه المعاني أكد عليها الشاعر الوطني محمود درويش في قصيدته (الأرض) مُبشّراً بهزيمة المشروع العابر "أنا الأرض، أيها العابرون على الأرض في صحوها .. لن تمروا .. لن تمروا.. لن تمروا". وهو الذي كتب في وثيقة الاستقلال عن ديمومة التصاق الشعب بالأرض، وعن التوّحد الكلي بين الأرض والإنسان، ونتيجة لهذه الديمومة والتوّحد مُنحت للأرض هويتها، ونُفخت في الشعب روح الوطن، وتطورت ذات الشعب، وتشكلت ملامح الهوية الوطنية، وكتب عن الالتحام بين الانسان والمكان والزمان، فأصبحتْ الأرضُ وطناً تسكنه روحُ الشعب، فتسري في عروق أبنائه لتمدهم بأسباب الوجود والحياة وتلهمهم قيم الصمود والثورة.
الأرضُ التي كتب عنها الشاعران حداد ودرويش ليست بالطبع الأرض بمفهومها العلمي الجغرافي المُجرّد من العاطفة والخالي من الإحساس؛ بل هي الأرض بمفهومها الوجداني الوطني المُترع بالعاطفة والمُفعم بالإحساس، الأرض بعاطفة الوطنيين وإحساس الشعراء هي ما يسكن وجدان الإنسان من عواطف وأحاسيس تربطه بالأرض التي وُلد فيها وترعرع على ترابها حقيقة واقعية؛ فأصبحت وطنه الذي يسكن فيه، أو الأرض التي نشأ بعيداً عنها، وحلمَ بالعودة إليها، وتكوّنت في ذهنه صورة مُتخيلة، فأصبحت وطنه الذي يسكن داخله، وهذه الأرض كما يقول الشاعر أمل دنقل " هي أشياء لا تُشترى.. ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك .. حسُّكما فجأةً بالرجولةِ .." . وكذلك هي ضحكاتكما البريئة بين اختك وبينك.. رائحة خبز أمك وحنينك لأن تحضنك.. صوت أبيك يرن في أذنيك وتوقك للشعور بالأمان إلى جانبه.. حكايات جدتك قبل نومك.. نكهة قهوة جدك في أنفك.. ألعاب الطفولة الساذجة مع أولاد وبنات الجيران.. الأرض كل ذلك وأكثر.
الأرض التي يعشقها الفقراء والشعراء ليست مجرد تراب من طمي ورمل وصخر وماء وهواء، الأرض دم الشهداء، وأنين الجرحى، ووجع الأسرى، وعرق الكادحين، ودمع المعذبين، وحنين اللاجئين، ورائحة الآباء، وروح الأجداد، وشموخ الثوار، الأرض التي رُويت بماء العزة والكرامة، فأنبتتْ شجرَ الشموخ والكبرياء، أكل من ثماره أسلافنا فأورثت في نفوسهم الشرف والإباء، فكانت من ثمارها الطيبة قيمة التمسك والتشبث بالأرض كأعلى فضيلة، وهذا ما استقر في وجدان كل فلسطيني وتوارثه كابراً عن كابر. وبقدر تمسك الفلسطيني بفضيلة التمسك بالأرض كعنوان لوجوده وهويته وكرامته، كان تمسك الحركة الصهيونية برذيلة انتزاع الأرض من أيدي أصحابها، فكانت الأرضُ جوهرَ الصراع وأساس القضية، ليكتمل المشروع الصهيوني بالثالوث المقدس- الاله والشعب والأرض- فيحل إله بني إسرائيل بزعمهم في الأرض لتصبح أرضاً فريدة مقدسة، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختاراً مفضلاً، ولا تكتمل القدسية والأفضلية إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد المقدسة في فلسطين، فتلتقي رؤيتا المشروع الصهيوني والمشروع الغربي في احتلال أرض فلسطين كرأس حربة للمشروع الغربي الاستعماري ضد الأمة.
على أساس الفكرتين الدينية والاستعمارية قام المشروع الصهيوني وهدفه المركزي هو (الأرض)، فاخترع كذبته التاريخية الكُبرى بأن " فلسطين أرض بلا شعب يجب أن تُعطى لشعب بلا أرض وهم اليهود"، وبناء على هذه الكذبة سعت الحركة الصهيونية إلى تفريغ أرض فلسطين من سكانها الأصليين، وتمليكها للمستوطنين اليهود المجتلبين من شتى بقاع الأرض إلى فلسطين لفيفا حيث وعد الآخرة، وكان الاستيلاء على الأرض قبل النكبة بالخداع والشراء ومساعدة المحتلين الانجليز، وبالقوة والارهاب والمذابح أثناء النكبة باستراتيجية الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض وأقل عدد من الفلسطينيين، وبقوة الدولة والقوانين بعد قيام (إسرائيل) فأصدرت قانون أملاك الغائبين، وقانون الأراضي البور، والقوانين العسكرية، وطبقت قانون الأراضي الأميرية... وصولاً إلى إصدار قانون (تطوير الجليل والنقب) الذي تم بموجبه مصادرة (21) ألف دونم من أراضي قُرى عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعدة.. فاندلعت بسببه انتفاضة يوم الأرض في الثلاثين من مارس آذار عام 1976، وسقط عشرات الشهداء والجرحى.
الاستيلاء على الأرض الفلسطينية ليست حدثاً عابراً في يوم الأرض قبل أكثر من أربعة عقود من زمن الصراع على الأرض، بل هي استراتيجية ثابتة، ونهجاً مستمراً، ومنظومة متواصلة، منذ زراعة أول بذرة خبيثة للمشروع الصهيوني في فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وطوال عقود القرن العشرين، وحتى القرن الحادي والعشرين، ولا زالت الأرض هي جوهر الصراع وأساس القضية، ولا زالت الأرض محور وموضوع وهدف الكيان الصهيوني بالمصادرة والتهويد والاستيطان والضم، ولا غرابة في ذلك، ولكن الغرابة في عدم وجود مشروع وطني فلسطيني مناقض للمشروع الصهيوني يسعى إلى المحافظة على الأرض وتحريرها والعودة إليها، وهذا يعني أن نجعل كل يوم هو يوم الأرض، وهذا يقتضي أن يكون وجودنا على الأرض الفلسطينية وعدم الهجرة منها محور استراتيجيتنا الوطنية، فبمجرد المحافظة على الوجود الإنساني الفلسطيني في كل فلسطين المحتلة من البحر إلى النهر هو هدف أساسي يُبطل الأساس الذي قام عليه المشروع الصهيوني الذي يزعم أن فلسطين أرض بلا شعب، وتعزيز الوجود يتطلب بدوره دعم صمود الناس وخاصة الشباب ليبقوا في وطنهم وبالمقابل جعل فلسطين مكاناً غير آمن وغير قابل للحياة للمستوطنين اليهود، فيتم ضرب وإضعاف ركيزتي الهجرة والاستيطان أهم محاور المشروع الصهيوني. فيكون ذلك أول الطريق لتحرير الأرض والعودة إلى الوطن، واستعادة الالتحام بين الانسان والزمان والمكان، واسترجاع الامتزاج بين الشعب والتاريخ والأرض، فتعود للوطن روحه وللشعب قلبه.