قائمة الموقع

النظام الدولي وفلسطين بعد زمن كورونا

2020-04-02T14:14:00+03:00
وليد القططي

بقلم د. وليد القططي

لعبة تجميع أجزاء الصورة المُبعثرة من الألعاب العقلية الممتعة، وسر متعتها في الجهد الفكري المبذول في تركيب الصورة ووضع كل جزء منها في مكانه الصحيح لتتكون الصورة الكلية للمشهد. وهذه اللعبة نوع من محاكاة الواقع الذي نعيشه ابتداء من حياتنا الخاصة وانتهاء بالواقع العالمي، وما زمن كورونا الذي يعيشه العالم اليوم عن هذا المثال ببعيد، فإذا جمعنا آلاف الصور العالمية ووضعناها في مكانها الصحيح من المشهد الكلي لاتضحت لنا الصورة الكلية التي قد تُشكل ملامح النظام العالمي الجديد الآخذ بالتبلور بعد عصر كورونا، ومن هذه الصور الجزئية صورة الرئيس الصربي وهو يُقبل العلم الصيني، وصورة نائب البرلمان الايطالي وهو يُنزل علم الاتحاد الاوروبي، وصورة وزير خارجية ايطاليا وهو يستقبل جسر الطائرات الروسية قادمة بالمساعدات والخبراء الروس لمواجهة وباء كورونا، وصورة القطار الصيني وهو يُستقبل بحفاوة في إسبانيا التي تخلّى عنها الاتحاد الاوروبي، وصور كبريات المدن الأمريكية خاوية على عروشها... وجميعها تُشير إلى أن شيئاً ما قد حدث في العالم، أو أن العالم مقبل على تغير ما وشيك، وأن العالم على أبواب نظام عالمي جديد يُفرز شرعيته الدولية الخاصة.

النظام العالمي بعد زمن كورونا لن يكون بالتأكيد نفس النظام العالمي قبل زمن كورونا، وهذا النظام بشرعيته الدولية الخاصة سيرسم ملامحه المنتصرون على وباء كورونا طبياً وإنسانياً وأخلاقياً، كما شكل المنتصرون في الحرب العالمية الأولى النظام العالمي متعدد الأقطاب فأنشأوا عصبة الأمم عنواناً للشرعية الدولية، وكما شكل المنتصرون في الحرب العالمية الثانية النظام العالمي ثنائي القطبية فأنشأوا الأمم المتحدة لتكون عصا الشرعية الدولية الخاصة بهم، حتى إذا ما انهار الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية في مطلع التسعينات من القرن العشرين وتربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش نظام عالمي أُحادي القطبية وحاولت أن تصمم شرعية دولية خاصة بها مستفيدة من فائض القوة العسكرية والاقتصادية الهائلة لديها، التي وصلت إلى ذروة العلو والاستكبار العالمي في عهد رئيسها الحالي دونالد ترامب، فكانت (صفقة القرن) أبرز تجليات القوة الأمريكية ولسان حالها يقول للعالم مقولة فرعون لقومه "مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي" و " أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى"، وفي غمرة نشوة وهم امتلاك مفاتيح القوة في الأرض التي أخذت زخرفها وأزيّنت لأمريكا وظنَّ ترامب أنه قادرٌ عليها أتاها فيروس كورونا فجعلها الله تعالى حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس، فكان فيروس كورونا هو السوس الذي نخر عصا القوة الأمريكية ومعها كل أكاذيب الإنسانية والأخلاقية في الحضارة الغربية المادية القائمة على نظام عالمي ظالم وشرعية دولية مأزومة ومنحازة.

الشرعية الدولية المأزومة، يكمن سر أزمتها في أنها ليست تجسيداً لفلسفتها الإنسانية، ومبادئها الأخلاقية، وعدالتها النظرية، القائمة على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة القائمة واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والمساواة بين بني البشر... بل كانت ولا زالت تجسيداً لموازين القوى الدولية المنتصرة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة، ويتجلى ظلم النظام الدولي والشرعية الدولية في القضية الفلسطينية، وقد كانت الشرعية الدولية التي كتبها المنتصرون بأيديهم هي الغطاء القانوني لإنشاء دولة (إسرائيل) فبعد الحرب العالمية الأولى فرض المنتصرون إرادتهم على المهزومين وأنشأوا (عصبة الأمم) كإطار عالمي للشرعية الدولية ، وكانت بريطانيا في مقدمة المنتصرين فأدخلت (وعد بلفور) في بنود (صك الانتداب)، فتحوّل من وعد بريطاني للحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين إلى وعد دولي اكتسب صفة الشرعية الدولية، وبعد الحرب العالمية الثانية فرض المنتصرون شرعيتهم الدولية من خلال إنشاء (الأمم المتحدة) فأصدروا (قرار التقسيم) لتقسيم فلسطين بين سكانها الأصليين والغزاة المغتصبين لأرضها، وبعد إقامة (إسرائيل) جاء قرار الأمم المتحدة بقبولها دولة عضواً في الأمم المتحدة.

أما قرارات الأمم المتحدة التي جاءت نصوصها لصالح القضية الفلسطينية فكانت لاحقة للقرارات التي حوّلت المشروع الصهيوني من حلم يقظة في أذهان قادة الصهاينة إلى دولة من جيش وشعب على أرض فلسطين، وجاءت معظمها في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وظلت جميعها حبراً على ورق ومنزوعة الإرادة الدولية لتطبيقها على أرض الواقع، وأهم هذه القرارات، قرار الجمعية العمومية رقم (194) القاضي بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وقرار مجلس الأمن رقم (242) القاضي بانسحاب (إسرائيل) من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وسلسلة القرارات الأخرى أهمها حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعدم شرعية الاحتلال والاستيطان، ورفض ضم القدس المحتلة... وهذه القرارات التي لم تُطبق استدرجت الثورة الفلسطينية إلى كمين القبول بما يُسمى (الشرعية الدولية) القائمة على قرارات الأمم المتحدة ومحورها تقسيم فلسطين إلى دولتين لشعبين، وهذه الفكرة التي تقبل بتقاسم فلسطين بين صاحب الأرض وسارقها في الفكر السياسي الفلسطيني تسللت إلى منظمة التحرير الفلسطينية تحت غطاء ضباب كثيف من فلسفة الواقعية الثورية والبراجماتية السياسية، وانتجت أولى ثماره في البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر عام 1974م.

بعد القبول الفلسطيني بفكرة تقسيم فلسطين على أساس الشرعية الدولية التي أفرزها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة طويلة من ترويض العرب وتدجين الثوار انتهت باتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. وبعد أن تبين للجميع ظلم النظام الدولي وزيف الشرعية الدولية، وبعد ما استنفذت أهدافها بترويض وتدجين الأنظمة العربية والثوار الفلسطينيين، جاء وقت الانقلاب على الشرعية الدولية الخادعة فأخرجت أمريكا من جعبتها (صفقة القرن) لتصفية القضية الفلسطينية على أساس شرعيتها الخاصة القائمة على قوة الأمر الواقع الإسرائيلي، وفي خضم العلو والاستكبار الصهيوأمريكي الذي تجلّى في صفقة القرن فوجئ العالم بوباء كورونا ليتوقف التاريخ عند هذه اللحظة بانتظار ولادة نظام عالمي جديد يرسم صورته الكلية الأمم التي ستنتصر على وباء كورونا إنسانياً وأخلاقياً، ومن سيقدم حلولاً تُخرج البشرية من أزمتها الصحية والإنسانية والأخلاقية.

كما كان المنتصرون على الدوام هم بناة النظام العالمي، وهم محتكرو الشرعية الدولية، سيكون المنتصرون على وباء كورونا طبياً وإنسانياً وأخلاقياً، هم بناة النظام العالمي الجديد بعد أفول زمن الاستكبار الأمريكي بنهاية زمن كورونا، وهم من سيرسم ملامح الشرعية الدولية الجديدة، وإذا كان المنتصرون على الوباء غير معروفين يقيناً حتى الآن، فإن المهزومين قد عُرفوا يقيناً، وهم قادة الحضارة الغربية بزعامة الشيطان الأكبر الأمريكي، التي قامت على دم (الهنود الحمر)، وعرق (العبيد الزنوج)، وثروات (العالم الثالث) وعلى نظام اقتصادي رأسمالي جشع غير إنساني، وعلى عولمة استخدمت كحصان طروادة للهيمنة على العالم. وكذلك عُرف المنتظرون العالة الذين لم يمتلكوا مقومات النصر والنهضة بعد، وبالتأكيد لن يملأوا الفراغ الحضاري حتى يتوقفوا عن لعبة الرقص على أنغام المشروع الغربي. وحتى ذلك الحين فقد نكون على أبواب "نظام مشاركة عالمية قوامه حل المشاكل الإنسانية العالمية والقضايا الدولية كالبيئة والأمراض الفتاكة العابرة للقوميات والايكولوجي واللجوء عن طريق واحد هو التكامل والمشاركة في الحل نظراً لتعذر الحل العسكري في هذه الأمور" كما تنبأ بذلك قبل أكثر من ربع قرن المفكر السياسي اللبناني ناصيف حتي.

اخبار ذات صلة