بقلم: صادق الطائي
أصبح الاعتقاد السائد أن ما نشهده من موجة فيروس كورونا كوفيد 19، ستكون جائحة ستغير الكثير في التاريخ الإنساني، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الرؤية، فإن معطيات الأخبار العالمية تشير إلى ذلك بشكل مطرد، لكن هذا لا ينفي بقاء المئات من علامات الاستفهام مفتوحة على أسئلة ليست لها إجابات، وأتوقع أننا لن نجد لها إجابات في المدى المنظور.
عندما نتنقل بين القنوات الإخبارية، نغرق في فيض من الأرقام، أرقام مجردة، كأن غايتها التسويق لموجة الهلع، التي ستمنعنا من أن نضع أقدامنا خارج عتبة المنزل. ملخص الأرقام العالمية لغاية كتابة هذه الكلمات، التي ستزداد بالتأكيد حين يحين موعد قرائتكم لها، هي كما يأتي؛ مليون إصابة بفيروس كوفيد 19 في أرجاء العالم، أكثر من 50 ألف حالة وفاة، 500 ألف إصابة في أوروبا، نحو 40 ألف اصابة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحو 6 آلاف حالة وفاة في الولايات المتحدة، تقديرات البيت الأبيض للوفيات المتوقعة في الولايات المتحدة، بسبب جائحة كورونا حتى شهر يونيو/حزيران تتراوح بين 100 ألف إلى 240 ألف شخص. كل ذلك مع بقاء أكثر من 3 مليارات شخص، أي حوالي نصف سكان العالم قيد إجراءات العزل المتمثل بنوع من السجن أو الإقامة الجبرية في المنزل. هل مرّت البشرية بمثل هذه التجربة السلوكية؟ علامة استفهام إجابتها المؤكدة؛ كلا، إذن لماذا يحصل كل هذا الآن؟ علامة استفهام ستبقى مفتوحة على العديد من الاحتمالات لزمن قد يطول.
أريد أن ألعب بدوري لعبة الأرقام معكم، وأحب أن أبدأ بالولايات المتحدة، لامتلاكنا توثيقا شفافا لحالة المؤسسات الصحية في بلد متقدم مثل الولايات المتحدة، التي تتوجه إليها الأنظار اليوم، باعتبارها البؤرة المقبلة للوباء، وذلك طبعا على أساس الأرقام المرعبة التي يطلقها الإعلام، عن احتمالات عدد الوفيات المتصاعد بسبب الوباء، لكن الرئيس ترامب صرح في التاسع من شهر مارس/آذار، أي قبل تصاعد حدة الإصابات في الولايات المتحدة قائلا، «توفي العام الماضي 37 ألف أمريكي من الأنفلونزا العادية. ولم يُغلق أي شيء، بل استمرت الحياة والاقتصاد… فكروا بذلك». وتعالوا ننظر بدقة إلى ما أورده مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة (CDC) من أرقام عن موسم الأنفلونزا الموسمية في الولايات المتحدة الأمريكية، لموسم الشتاء الأخير، قبيل جائحة كوفيد 19، إذ سجّل المركز بين شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019 وشهر فبراير/شباط 2020، حالات الإصابة، التي تراوحت بين 30 مليونا و40 مليونا، وأدت إلى وفيات تراوحت بين 26339 إلى 52664، وهو رقم هائل، لكن لم يتم إيقاف الحياة والاقتصاد والجامعات والمصانع. ولمن يتحجج بالضغط الواقع على المؤسسات الصحية في زمن الوباء نقول، إن المركز بيّن أن ما بين 13 مليونا و19 مليونا من المصابين بالأنفلونزا الموسمية زاروا الطبيب، بينما بلغ عدد من نقلوا إلى المستشفيات بسبب الإصابة الوخيمة بالأنفلونزا الموسمية يتراوح ما بين 280 ألف مصاب، ونصف مليون مصاب.
لنعود لإصابات كوفيد 19 حول العالم، والاختلافات البينة بين الدول، فإذا نظرنا إلى بلدان العالم المختلفة سنجد أن هنالك دولا ذات نفوس كبيرة، لكن عدد الإصابات المعلنة فيها قليل جدا، كما أن عدد الوفيات فيها قليل جدا أيضا، بينما نجد في دول أخرى عدد الإصابات والوفيات مرتفعا بدرجة مرعبة، لماذا؟ ومن أين يأتي هذا الاختلاف؟ إجابة المختصين واضحة بهذا الشأن وتتمثل بقولهم؛ إن الأعداد القليلة في بعض الدول تعني أن هذه البلدان لم تجر ما يكفي من الاختبارات لمعرفة العدد الصحيح للإصابات، وبالتالي فالأرقام الواطئة المعلنة غير حقيقية، ومثال ذلك أغلب الدول الفقيرة والمتخلفة، كما أن بعض البلدان تتعمد التكتم على النتائج الحقيقية لأسباب سياسية أو استراتيجية، وبالتالي تكون النتائج المعلنة في هذه الدول أيضا غير حقيقية، وهذا ما حصل بحسب المراقبين في دول مثل الصين وروسيا وإيران. لكن هل أرقام الإصابات في بلدان متقدمة وتحظى بشفافية عالية مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والمانيا حقيقية؟
الإجابة القاطعة عن عدد الإصابات في دول متقدمة مثل أوروبا الغربية والولايات المتحدة، أنها غير حقيقية، ولا يمكن الوثوق بها، إلا إذا تم إجراء فحص شامل لكل السكان في أي بلد، لنعرف عدد الإصابات الحقيقي، ولنعرف عدد الوفيات الحقيقي بسبب الفيروس، إذ أن هنالك نسبة كبيرة جدا ممن أصيبوا بالفيروس، ولم تظهر عليهم سوى أعراض طفيفة، وبالتالي لم تسجل إصاباتهم، ومع ذلك لنستمر بلعبة الأرقام لنفهم أكثر.
الدول التي اتخذت إجراءات عزل صارمة، وأعلنت منع التجول، وأوقفت أغلب نشاطات مجتمعاتها، قامت بذلك لسبب واحد فقط، وهو ما بات يعرف بـ»تسطيح منحنى الإصابات»، بمعنى منع حدوث طفرة كبيرة جدا بعدد الإصابات، ما يولد ضغطا على المؤسسات الصحية ويؤدي لانهيارها. هذا الإجراء اتخذ في إيطاليا، لكنها شهدت كارثة وبائية، وتحولت إلى المكان الاكثر تعرضا للإصابة والبلد الذي سجل أعلى معدل وفيات نسبة إلى حجم السكان. وكذلك الحال في إسبانيا، وبدرجة أقل فرنسا، وبدرجة أقل من الجميع ألمانيا، وربما عزا المراقبون هذه الفروقات إلى طبيعة النظام الصحي وكفاءته في هذه البلدان، وبالتأكيد بإمكان من يحب أن يستمر بلعبة الأرقام الاطلاع على أعداد الإصابات والوفيات في هذه البلدان ومقارنتها ببعض. لكن دعونا نلقى نظرة على تجربة أوروبية مختلفة، وهي تجربة السويد، البلد البارد جدا، الواقع في أقصى شمال أوروبا، حيث الظروف الأكثر مساعدة على انتشار فيروسات الجهاز التنفسي، وحيث النسبة العالية لكبار السن في المجتمع، نتيجة الرعاية الصحية والاجتماعية الجيدة في هذا البلد. الحكومة السويدية ارتأت مبكرا انها لن تمارس حجرا صحيا تعسفيا على المجتمع، ولن توقف حياتها الاقتصادية ومصانعها وجامعاتها، وسيبقى كل شيء على ما هو عليه قبل جائحة كوفيد 19، لكنها ركزت على التوعية، وراهنت على وعي والتزام المواطن السويدي، وطلبت من كبار السن ومن المرضى عدم الخروج إلا في الحالات الضرورية، النتيجة كانت مفارقة حقيقية حوالي 7 آلاف إصابة وحوالي 400 وفاة، يعني أقل من المعدل الطبيعي للوفيات بالانفلونزا الموسمية.
وإذا قفزنا، مثلما فعلها الفيروس العجيب، وقفز من الصين إلى إيران إلى إيطاليا ثم أمريكا، فإذا قفزنا بدورنا من السويد إلى الهند، البلد الذي يضاهي عدد سكانه الصين، بلد المنشأ لفيروس الكارثة. فالهند بتعدادها البالغ حوالي مليار و350 مليون نسمة، الذي لم تتخذ حكومته إجراءات صارمة للحد من انتشار الفيروس على مدى شهرين ونصف الشهر، على الرغم من أن الهند ملاصقة للصين، لكن الأرقام الرسمية المعلنة الخاصة بالهند مضحكة، عدد الاصابات 2500 والوفيات 57، يعني إذا انقلب أي باص في الهند، فإن عدد الوفيات سيكون أكبر من جائحة كوفيد 19، التي أرعبت العالم، لكن الحكومة الهندية، وعلى الرغم من كل ذلك، ومن دون أن يعلم أحد السبب وبشكل مفاجئ قررت إغلاق الحدود، وفرض الحجر الصحي، واستخدام القوة لمنع الناس من الخروج إلى الشارع، وضربهم بالعصي لإجبارهم على البقاء في الحجر الصحي في منازلهم، الكارثي في الامر، أن هناك شريحة واسعة في المجتمع الهندي يمكن أن تقارب عدد سكان الاتحاد الاوروبي البالغ 500 مليون نسمة، تعتاش على العمل اليومي، والعمل في المهن البسيطة في القطاع الخاص، فاذا توقفوا عن العمل سيموتون جوعا، فهل تستطيع الدولة الهندية أن تقدم لهم حلولا ودعما ماليا واجتماعيا، مثلما جرى في الدول الغنية؟ بالتأكيد لا.
أما دول جوار الصين، التي التقطت الفيروس مبكرا، وعبرت مرحلة الجائحة، فلا أحد يمكن أن يخبرك بدقة كيف تجاوزت هذه الدول الأزمة. اليابان البلد الثاني الذي ظهرت فيه الإصابات بعد الصين، لم يفرض حجرا صحيا، ولم يوقف العمل في مصانعه وجامعاته ومراكز أبحاثه أو أسواقه ومنتجعاته، اليابان بلد يبلغ تعداد سكانه 126 مليون نسمة، وهو بلد متقدم علميا، ولا شبهة على شفافية أجهزته الحكومية مثل الصين أو روسيا، وتشير الإحصاءات العالمية للوباء إلى أن عدد الإصابات في اليابان حوالي 2600 والوفيات 63 فقط. أما كوريا الجنوبية التي اعتبرت البؤرة الثانية للفيروس بعد الصين، في مرحلة مبكرة من الوباء، وهي بلد يفوق تعداد سكانه الـ50 مليون نسمة، وهو كذلك بلد متطور علميا، وذو نظام ديمقراطي ليبرالي، أعلنت مؤسساته العلمية عن إصابة حوالي ألف شخص حتى الان، وتوفي منهم حوالي 175 فقط.
ولا أريد أن أنتقل إلى دول افريقيا وأمريكا اللاتينية وأوضح عدم وجود مظاهر الرعب لجائحة كوفيد 19. إذا كيف يمكن أن نقرأ الأرقام اعلاه؟ أنا أراهنكم أنكم لن تجدوا مختصا أو خبيرا يقدم لكم تحليلا علميا لكل ذلك، لان لعبة الجائحة ما زالت تتدحرج ولم تصل إلى مبتغاها بعد.
عن صحيفة القدس العربي
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"