بقلم د. وليد القططي
يومُ الأسيرِ الفلسطيني مناسبةٌ جيدةٌ للكتابةِ عن الأسرى ومعاناتهم ومآثرهم، والكتابة عن الأسرى شيء، ومن الأسرى شيءٌ آخر، والفرقُ بين الحالتين كالفرق بين الشعورِ بالبرد في ليلةِ شتاءٍ باردة، واستشعار البردِ في نهارِ صيفٍ حار، فشتانَ بين الشعورِ بالشيء واستشعارهُ، أو بين الإحساسِ بالشيء وتخيُلّهُ، فالكتابةُ التي يقوم بها الأسرى ومنهم وُلدت من رحمِ المعاناة داخل السجن، ونابعة من عمق إحساسهم بوجع الأسر، وناتجة عن صدق شعورهم بقسوة السجن، ولكاتب هذه السطور نصيبٌ من ذلك، فتجربته في الكتابة من داخل السجن مرَّ عليها ما يقرب من ثلاثة عقود، في مطلع تسعينيات القرن العشرين، بعد عامين من بداية الانتفاضة الأولى أو انتفاضة الحجارة، ومن معتقل النقب الصحراوي (كتسيعوت) المعروف بأنصار ثلاثة، وكنت أدون يومياتي ومشاعري وأفكاري على نمط أدب الرسائل الموّجهة لزوجتي يتخللها المذكرات والذكريات والخواطر... تمتزج فيها حرارة نهار الصحراء بحرارة الإحساس بالوطنية في عنفوان الشباب والثورة، وتختلط فيها برودة ليل الصحراء ببرودة حركة الزمن الثقيلة المُعبّرة عن رتابة الأيام المتشابهة.
ومن وحي السجن كانت هذه القبسات لكاتب هذه السطور، نقلتها كما هي بدون تعديل؛ لاطلاع القُرّاء على نموذج لِما يدور في عقول وقلوب الأسرى من أفكار ومشاعر أثناء مرورهم بتجربة الأسر والاعتقال، وهذه أولى القبسات كتبتها آنذاك عن أثر السجن في النفس "... السجن محطة في حياة الإنسان، خاصة للإنسان الثائر، فالسجن هو المكان الذي ندفع فيه الثمن، وهو المكان الذي يُطّهر النفس أو يُدنّسها، ويُصلّب العقيدة أو يوهِنها، وهو اختبار لمصداقية الثائر، وفي السجن يضطر الإنسان أن يعيش الحياة الجماعية، التي يكون فيها مُضطراً للتنازل عن جزء كبير من ذاتيته وأنانيته، ومن لا يفهم هذه الحقيقة سيتعب كثيراً... والسجن تجربة صعبة في الحياة، تُقسّي القلب وقد ترققه أيضاً، فمثلاً قد يختلف الإنسان مع صاحبه وصديقه الذي يتقاسم معه رغيف الخبز، والذي عاش معه سنوات رائعة بسبب شيء تافه، فتتحوّل المحبة إلى عداوة والود إلى جفاء، وفي نفس الوقت قد يربط بين شخصين برباط قوي مُقدّس، صهره الألم المشترك والأمل المشترك، وكل سجين يعيش على أمل أنه سيتحرر من السجن قبل ميعاده، وإذا لم يكن هناك أمل فإنه سيخلقه من فراغ... قرأتُ رواية (الجريمة والعقاب)، الحقيقة أنَّ مثل هذه الروايات تُطهر النفس وتسمو بالروح وتُهذّب الأخلاق.. لأنها تُعبّر عن المشاعر الإنسانية الحقيقية".
وثاني القبسات من وحي السجن عبارة عن خواطر من أفكار ومشاعر مختلفة تبدأ بالأسلاك الشائكة التي تميز معتقل النقب الصحراوي، وتنتهي بلدغات الذباب والبعوض نهاراً وليلاً وكتبت حينها "... إليك اكتب هذه الكلمات، وإليك أرنو ببصري عبر هذه الأسلاك الشائكة عبر هذا الأُفق الممتد إلى ما لا نهاية... في هذه الساعة من ليل الأحد الرابع من يوليو بعد صلاة العشاء، أجلس على (البرش) استحضر ذكريات الماضي البعيد بما فيها من ألم وبهجة، وحزن وفرح، وأرنو ببصري لاستشراف المستقبل القريب والبعيد، فينقلني خيالي إلى عالم آخر، عالم من الأحلام والآمال، ولكن سرعان ما تدهمني اللحظة ويصدمني الواقع، فلا يبقى في نفسي من ذكريات الماضي إلا وخز الألم وطيف الفرحة، ولا يبقى من آمال الغد وأحلام المستقبل إلا أشواق بهجة يأبى الواقع الأليم إلا أن يبددها وينثرها في عالم الواقع... هنا الإنسان عارٍ ومكشوف من كل شيء، فهنا لا يمكن إخفاء العيوب، ولا يمكن التغطية على سلبيات الإنسان، فالسجن كالمرآة يكشف وجه الإنسان... هنا تمر الأيام متشابهة لا فرق بين اليوم والأمس والغد، إلاّ بتقلّبات الطقس وتبادل نوبات الذباب في النهار والبعوض في الليل، وتقلّب المزاج ما بين ضيق وضيق أكثر، يتخلل ذلك لحظات من السعادة المعنوية كلما أنهيت قراءة أحد الكتب، أو قطعت شوطاً في تعلم اللغة العبرية أو اللغة الانجليزية، أو كتبت رسالة لك، أو عشت لحظات رائعة مع صديق، أو عشت في عالم الخيال والأحلام التي تأخذني بعيداً عن هذا الجو الكئيب...".
أما ثالث القبسات التي كنت قد دونتها من وحي السجن تُقدم نموذجاً لتضارب الأفكار وتناقض المشاعر يتخللها شيء من قراءات وكتابات الأسير "... أحاول أن انقل لك الصورة التي أعيش فيها في هذا السجن الذي يختلط فيه الألم بالأمل، والفرح والحزن، والحب بالكره، وتختلط فيه المشاعر والأحاسيس في مزيج غريب ومعقد يدل على مدى تعقيد وغرابة النفس الإنسانية، والسجن فرصة للارتداد نحو الذات، والعودة للماضي، والتأمل في المستقبل، والتمعّن في القضايا والأحداث. السجن فرصة لمراجعة النفس والاستفادة من التجارب... أنا الآن أقرأ في كتاب (الذين ظلموا) تأليف محمد محفوظ كتب فيه عن محنة سجن المعلم الشهيد سيد قطب "العقدة أنك لا تستطيع أن تسجن مُفكّراً، فأنت تحدد إقامته الجسدية فقط، أما عقله فيندفع أشد عُنفاً وانعتاقاً، وأيضاً لا تستطيع أن تقتل مُفكّراً، فدمه يروي ويُخصّب بذور أفكاره فتنمو وتتسع وترتفع". وأثناء قراءتي لرواية (المسيح يُصلب من جديد) وجدت فقرة تتحدث عن العدل الذي يجب أن يتسلّح ليدافع عن نفسه، فالظلم مُسلّح بالقوة، ولكي ينتصر العدل لا بد أن يتسلّح أيضاً، فالعدالة المُسلّحة هي التي ستنتصر على الظلم الغاشم المسلح" ... كتب مقالاً للمجلة عن الثورة والأدب أنقل لك فقرة منه. "... الأدب لكي يكون نافعاً للمجتمع لا بد أن يكون أدباً ثورياً، لا سيما في مرحلة التحرر الوطني والاجتماعي، ولكي يكون ثورياً لا بد أن يكون ملتزماً وهادفاً... يُعالج قضايا المجتمع... وكذلك الآفات الأخلاقية والسلوكية... والأديب الأكثر قدرة على ذلك هو الذي يعيش وسط الجماهير، ويحس بآلامهم، ويُعاني معاناتهم، ويستشعر عذاباتهم، لأنه واحد منهم ويشاركهم نضالهم...".
ورابع هذه القبسات من وحي السجن كانت في الأيام الأخيرة للأسر كخاطرة عن مفهوم السجن"... هذه الأيام الأخيرة من هذا السجن، فقد وصلت المحنة إلى نهايتها، وأوشكت على الوصول إلى منتهاها... أيام قليلة واتحرر من هذا السجن، الذي يسجن الجسد ولم يسجن الروح... سأخرج بإذن الله من السجن الصغير إلى السجن الكبير، ألا وهو الدنيا، فالدنيا التي يحكمها الطغاة بالترهيب والترغيب لن تكون إلا سجناً كبيراً للإنسان، تُقتل فيه الرغبة في التحرر والشوق إلى الملأ الأعلى، والسمو في آفاق الروح، ولا ينجو منها إلاّ من نجح في أن يتزود منها لآخرته... والسجن الأكبر بعد هذا السجن الصغير هو سجن الذات، نعم الذات التي تحكمها شهواتها وغرائزها ومصالحها، هو سجن الإنسان ولا يتحرر من هذا السجن إلاّ إذا تفرُغ نفسهُ من حظِ نفسهِ، ويدوس شهواته وغرائزه ومصالحه التي تتعارض مع واجبه، هذا هو السجن الذي يستحق أن يعمل الإنسان على التخلّص منه... في مقال كتبته للمجلة عن الثورة والنقد اقتبس منه فقرة "... فالنقد فقط يصنع الإنسان الساخط، ومجرد السخط لا يكفي للثورة، فكثير من الناس غير راضين عن الأوضاع السيئة التي يحيونها، ولكن لا يُحركون ساكناً لتغيير هذه الأوضاع، فلا يمكن وصفهم إلا أنهم ساخطون، وهذا لا يكفي لخوض الثورة... والثورة بحاجة بعد ذلك لعملية نقد ذاتي مستمر لتقييم مسيرتها الثورية وتقويم وتصحيح منهجها في التفكير والممارسة وعلاج أخطائها وانحرافاتها...".
وخامس وآخر هذه القبسات من وحي السجن فيها شيء من الأمل بمستقبل أفضل إن لم يكن لجيلنا فلأبنائنا من بعدنا "... المناضل كالطاحونة التي تعصر الزيت ليضيء للناس، ونحن نعصر زيت وجودنا ليضيء مصباح الحياة في بيوت المحرومين... كان يجب علينا أن ندفع الثمن ونؤدي ضريبة إيماننا ووعينا عن رضى وطيب نفس ونحمد الله على ذلك، ولنتذكر قول الشاعر الثائر الشابي (ومن لا يحب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر تحت الحفر *** ومن لم يعانقه شوق الحياة *** تبخّر في جوها وأندثر )، فلا يجب أن نعيش تافهين بين الحفر والمستنقعات، بل يجب أن ننظر إلى العُلا دائماً ونسمو بأرواحنا نحو السماء، ونصارع هذه الحياة، ونقوم بواجبنا ونحقق فيها ذواتنا... يجب أن نعيش الحياة بحلوها ومرها، ونرمي أنفسنا في خضمها الهائل، ونمشي بين الأشواك، ونصعد الجبال، ونستنشق الغبار، فلا طريق بلا غبار، نستنشق الغبار في بداية الطريق، لكي نستنشق الهواء النقي في نهايتها، وإن لم نستنشق نحن الهواء النقي، فيستنشق أبناؤنا هذا الهواء، فإن لم نرَ لحظة الانتصار بعيوننا، فسنراها بعيون أبنائنا، المهم أن نؤدي واجبنا ونسير على الدرب...".