بقلم: د. ســائـد الـكـونــي
عام 2020 عام غريب عجيب، بدايات أحداثه فاجأت الجميع، وخالفت كل التوقعات، لتصدق فيه مقولة "كذب المنجمون ولو صدقوا"، ومن أبرز تلك الأحداث، بالاضافة إلى جائحة كورونا، حرب أسعار النفط العالمية، التي نشبت خلال الربع الأول لهذا العام، بين المملكة العربية السعودية وروسيا، في محاولة كل منهما الاستحواذ على المركز الأول عالمياً في صناعة وتصدير الذهب الأسود.
وبحلول نيسان الحالي زاد لهيب هذه الحرب، وتدنت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة منذ زمن طويل، ما أدى إلى إغراق السوق العالمي بالنفط المعروض، في ظل تراجع كبير في الطلب عليه (من 100 مليون برميل يومياً إلى 12 مليون برميل)، سببه الإنحسار في النشاط الاقتصادي العالمي، الذي خلفته اجراءات الحجر والوقاية الصحية التي اتخذتها غالبية دول العالم لحماية مواطنيها من خطر الاصابة بفيروس كورونا التاجي، فحددت من حركتهم، وألقت بظلالها السلبية على عجلة الانتاج والحاجة إلى البترول.
وبرغم تخمة السوق العالمي بالمعروض، استمر قطبا الصراع في الانتاج والضخ اليومي للسوق العالمي حتى أوشكت الخزانات النفطية لدى المنتجين وناقلات النفط والوسطاء والمشترين بلوغ طاقتها الاستيعابية، ما أدى مؤخراً، في حدث تاريخي غير مسبوق، إلى انهيار سعر برميل النفط الخام الأمريكي (نفط غرب تكساس)، مساء الاثنين 20/4/2020، إلى سالب 37 دولار لعقود أيار الآجلة، ما يُفهم منه أن البائعين سيضطرون، اذا استمر الحال على ما هو عليه، إلى أن يدفعوا للمشترين ليستلموا النفط الخام منهم، لأن تكلفة انتاج وتخزين وتأمين ونقل النفط ستصبح أعلى من سعر بيعه، ما يعني تهديداً حقيقياً وخطيراً لمستقبل صناعة النفط الأمريكي، وإفلاس قطاع كبير من منتجيه.
الادارة الأمريكية التي أبدت سرورها بالتدني الملحوظ لأسعار النفط العالمية، في أول ردة فعل لها حيال نتائج هذه الحرب، حسبما أعلن عنه رئيسها دونالد ترامب، في تغريدة له على تويتر في 9 آذار، معتبراً ذلك بالشئ الجيد للمستهلكين، عادت وتراجعت عن موقفها هذا، بضغط من منتجي النفط الأمريكيين، الذين باتوا لا يجدون متسعاً لتخزين انتاجهم النفطي، بعدما ملأوا خزاناتهم بالنفط الرخيص، ما يعني أضطرارهم لدفع تكاليف اضافية باهظة للتخزين، أو لمن يخلصهم من انتاجهم. وطُلبت وزارة الطاقة الأمريكية بالتدخل في كبح نيران هذه الحرب المستعرة، التي كتبت عنها صحيفة النيويورك تايمز بأن الهدف الرئيسي منها "هو استهداف حصة المنتجين الامريكيين من سوق النفط العالمي، الذين زادوا من انتاجهم وصادراتهم عبر السنوات الاخيرة"، بحيث اصبحت أمريكا في العام 2019 أكبر مصدر للنفط العالمي.
الصراع النفطي وأثاره الاقتصادية السلبية على الدول، أعاد إلى الأذهان السؤال الجدلي،:من في خدمة من؟ أو من يصنع من؟، هل السياسة في خدمة الاقتصاد؟ أم الاقتصاد في خدمة السياسة؟، وبما أن لكل وجهة نظر مؤيديها من الباحثين والمفكرين، وتجنباً للانحياز لوجهة نظر دون الآخرى، يُكتفى في هذا المقام، بالقول بأن كليهما ذو أثر بالغ على الأخر. ويحذونا في ذات السياق، التساؤل: ما أثر تدهور الحالة الاقتصادية الراهنة في دول العالم قاطبة، وفي فلسطين على وجه التحديد، في الدفع باتجاه العودة التدريجية للحياة العامة إلى سابق عهدها قبل جائحة كورونا، وما صاحبها من إغلاقات وحظر تنقلات؟.
منذ البدايات، تباينت دول العالم في مدى حدية الاجراءات والتدابير التي اتخذتها لحماية مواطنيها من عدوها المشترك، فيروس كورونا، فهنالك دول تعاملت بصرامة متناهية مع الموضوع، باعتباره يشكل لها تهديداً بالغ الخطورة ليس فقط على مستوى الصحة العامة، ولكن على ما يبدو، بقدر أكبر، على استقرارها الاقتصادي والسياسي، وبالنهاية أمنها القومي. بينما، على النقيض من ذلك، آثرت دولٌ أخرى، وفي مقدمتها السويد، مواصلة نمط حياتها الاعتيادي، مكتفية بلفت انتباه مواطنيها إلى ضرورة توخي سلسلة من اجراءات السلامة والوقاية العامة. وراوحت بقية دول العالم في اجراءاتها ما بين هذين النموذجين.
فلسطين، اختارت نهجاً وسطاً في اجراءاتها، أُعتمد فيه على إطلاع المواطنين على حقيقة الوضع الصحي بالوطن وتطوراته أول بأول من خلال ايجاز صحفي يومي للناطق باسم الحكومة، وتولد عنه كسب ثقة الناس بالاجراءات المتُخذة، وامتثالهم الطوعي لها، الأمر الذي أثار الدهشة، وفي ذات الوقت الاحترام، لدى العديد من المراقبين لهذه الدرجة العالية من المسؤولية والانضباط الذاتي من قبل عموم أبناء شعبنا الفلسطيني، الذين جُبلت شخصياتهم، نتيجة صراعهم الطويل مع المحتل الاسرائيلي، على الرغبة والدافعية إلى التمرد والمقاومة، لما يُفرض عليهم من إجراءات تحد من حريتهم واعتدادهم بذاتهم، حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. ولكننا اليوم نشهد حالة يُفتخر بها من اللُحمة بين المواطن ورجل الأمن، وتجلت فيها صور كثيرة رائعة، تعكس وحدة الهدف والمصير.
ما نشر مُؤخراً من توقعات أشارت إلى امكانية استمرار الجائحة الصحية إلى أشهر غير محددة قادمة، أثارت التخوفات لدى العامة والقطاع الخاص، ولدى صُناع القرار العام دون أدنى شك، بتداعيات هذا الأمر السلبية على الاقتصاد الفلسطيني، الهش بطبيعته، والذي يعتمد فيما تزيد نسبته عن 95% على المؤسسات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، التي ليس لديها المقدرة على تحمل المزيد من خسائر الاغلاقات المالية، ما حذى بالحكومة إلى اعادة النظر في اجراءاتها، والعمل على تخفيف حدتها، وفق خطة أُعلن عنها في الايجاز الصحفي، مساء يوم الاثنين الموافق 20/4/2020.
إعلان تخفيف اجراءات الحجر، سبق بأيام معدودة حلول شهر رمضان المبارك، الذي ينتظره الكثيرون من أصحاب المصالح، خاصة الصغيرة، بفارغ الصبر، لأنه يشكل موسماً سنوياً لأعمالهم. ممثلو مؤسسات القطاع الخاص، بطبيعة الحال، كانوا يأملون بقدر أكبر من التسهيلات، حسبما نُشر من مبادرات عدة قدموها للحكومة، ولكن بشكل عام، هنالك تفهم لمحاولة المسؤولين، الموازنة بين مطرقة الجائحة الصحية وسنديان الحاجة الاقتصادية، وهما أمران كلاهما مُرُّ.
الأيام القادمة، والتزام المواطنين باجراءات الوقاية الصحية الذاتية، والمُعلن عنها من قبل الدولة، ستكون حاسمة بشأن التوجه إلى المزيد من الانفتاح والدوران للعجلة الاقتصادية، أو لا قدر الله النكوص خطوات إلى الوراء، ولذلك فإن مواجهة الآثار الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا بقدر ما هي مسؤولية الدولة، هي أيضاً مسؤولية فردية، وجماعية تكافلية، و"الحِمل إذا تفرق بنشال".
ويتطلب الأمر تغير في أنماط حياتنا اليومية للتعايش مع خطر فيروس كورونا؛ ومراعاة كافة متطلبات الحرص، والسلامة، والنظافة الشخصية في كافة مناحي الحياة اليومية؛ في العمل والتنقل والتسوق وغيرها، حيث ثبت عودة الفيروس بتشكيلات جديدة، وأحياناً بشراسة، في بعض البلدان التي خففت من اجراءات حجرها الصحي. بالاضافة إلى ضرورة مواصلة نمط التباعد الاجتماعي، الذي خلفته حواجز الأمن الوطني التي نُشرت بين القرى والمدن، وقسَّمت المدن إلى مناطق منفصلة عن بعضها البعض، تم التساهل مع حركة المواطنين داخلها، ولكن ليس بينها، وكان من نتائجها الايجابية على الصعيد الاقتصادي، ضخ السيولة المادية في شريانات الحياة الاقتصادية للمصالح الاقتصادية الصغيرة في الأحياء السكنية، بما عمل على إعادة توزيع الدخل بينها وبين قريناتها من المحلات التجارية في الأسواق العامة، حيث أنه ما قبل الجائحة، تعود كثير من المواطنين على التبضع لاحتياجاتهم المنزلية من المولات والأسواق والمجمعات التجارية الكبيرة في طريق عودتهم من العمل إلى المنزل، وكانوا يرتادون الدكاكين الصغيرة في أحيائهم ما ندر، لشراء احتياجات طارئه، ليصدق في ذلك المثل القائل: "رب ضارة نافعة".
وعلى صعيد متصل، لا بد من اعادة النظر في الموازنات المُعدة مُسبقاً للإنفاق، أسرياً ومؤسساتياً، لتتلاءم مع ما طرأ من تغيرات في الدخول، وبنائها على قاعدة "أولى لك فأولى"، وأن يتم التركيز على المزيد من التكافل الاجتماعي، لتوفير أدنى مقومات الحياة الكريمة لعوائل الكثيرين من أبناء الطبقة العاملة، الذين فقدوا مصادر أرزاقهم، وأصبحوا عاطلين عن العمل، بما يُمكن مجتمعنا من تجاوز آثار هذه الجائحة، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، بأقل الخسائر البشرية والمادية، وهي فرصة لكسب المزيد من الأجر والطاعات في شهر رمضان المبارك.