بقلم/ د. وليد القططي
كان الوقتُ يقتربُ منْ مطلعِ الفجر، عندما رنَّ جرسُ ساعةِ المُنبّه، مُخترقاً برنينهِ طبلةَ أُذنيَّ، وقاطعاً لذةَ النومِ في الهزيعِ الأخيرِ منْ الليل، مُعلناً بدءَ رحلةِ الشقاءِ اليومية، وباكورتها بإلقاءِ اللحافِ على عجل، فتركُ السريرِ على كراهة، فاستبدالُ لباسِ النومِ بزي العمل، ثم سرقة بضع دقائق لارتشاف ما تيسّر من الشاي الساخن أثناء آذان الفجر، إلى أنْ ينتهي الأذانُ فأُصلي الفجر، وبعد ذلك أحمل مخلاة الطعام وأخرج من البيت وسط مخيم رفح باتجاه شارع البحر، لأنتظرَ مجيء سيارة العمال الـ (بيجو تندر)، فأقفز داخل صندوقها الخلفي مُنضماً إلى العمالِ السابقين لي واللاحقين بي في محطات أُخرى، حتى تصلَ حمولتها ضعف سعتها، فنصبح داخلها كعلبةِ السردين المكبوسة، فتنطلقُ السيارةُ في رحلة الخمسين كيلو متراً نحو غايتها إلى مستوطنة (نتيفوت) في فلسطين المحتلة عام النكبة، مارةً بمعبر (ناحل عوز) جنوب غزة، لنقف في طابور الانتظار والتفتيش والإذلال ككل معابر وحواجز الاحتلال اللعينة.
وبعد تجاوز المعبر ووصولنا إلى مزارع المستوطنة، يتم توزيعنا عليها حسب طلب المستوطنين المغتصبين للأرض، فننزل تباعاً من السيارة كما يوزعنا الـ (كبلان) وهو مقاول العمال الفلسطيني، فنستريح بضع دقائق ليذهب تأثير دوار السيارة الناتج عن خضخضة الطريق واستنشاق رائحتي بنزين السيارة ودخان السجائر المختلطة بزفرات أنفاس العمال المحبوسة، ثم نبدأ بعدها العمل في مزارع المستوطنة الواسعة، وهي أراضينا المُحتلة منذ النكبة - الأراضي التي هُجّر وطُرد منها آباؤنا وأجدادنا قسراً وعدواناً- وعادة ما نبدأ العمل مع شروق الشمس، ويستمر يوم العمل معظم النهار، يتخلله استراحة قصيرة لتناول وجبة الطعام، وكثيراً ما ينتهي يوم العمل مع غروب الشمس... ليُعاد تجميعنا في نفس السيارة، وبنفس طريقة الركوب الأولى، ونفس طريق العودة، وفي مخلاة كل عامل ما تيسّر من خضروات المزارع التي عملنا بها، فنعود بعد يوم عمل شاق وطويل امتص طاقتنا واستنزف قوانا، زاد من تعبه شدة جشع الـ (كبلان) مصاص عرق العمال، الذي لم يكتفِ بعمولته الطبيعية، فكان يزيد من ساعات عملنا الإضافية ليبتلع المزيد من الأموال دون العمال، ويقتطع جزءاً كبيراً من أجورنا عنوة في ثوب عمولة.. وهكذا كل يوم على مدار العام في سيناريو لا يتغير شتاءً تحت المطر والقر، وصيفاً تحت الشمس والحر، إلاّ بتغير مواسم المحاصيل مثل الخس شتاءً والبصل صيفاً.
هذهِ صورةٌ كُتبتْ بالكلماتِ والعباراتِ، لمشهدٍ كُتبَ بالجهد والعرق، استحضرها كاتب هذه السطور من عمق ذاكرته المُتعبة، فاستخرجها من تحتِ طبقاتِ الزمنِ الفلسطيني الحزين، الواقع بعد سنوات التيه والضياع بعد صدمة النكسة، وقبل سنوات استعادة الوعي بالذات الوطنية في انتفاضة الحجارة الأولى، وهي راوية فلسطينية لم تأخذ حقها في الكتابة، أبطالها العمال الفلسطينيون داخل ما يُسمى بالخط الأخضر في فلسطين المحتلة عام النكبة (1948)، عندما اضطرَ الفلسطيني أن يعمل في أرضهِ أجيراً عند سارقها، في تراجيديا وطنية ومأساة إنسانية بالغة الوجع، ومأساة العمال في بعدها الاجتماعي لا تقل أهمية عن بُعدها الوطني، فمعظم العمال كانوا – ولا زالو – منزوعي الحقوق العمالية، ومسلوبي الحقوق الإنسانية، وهم اليوم أشد بؤساً وأكثر تعساً، فإذا كانت مأساة العمال الفلسطينيين في ذلك الوقت البعيد في ظروف عملهم السيئة وحرمانهم من حقوقهم القانونية إضافة لبعد المأساة الوطني، فإن مأساتهم اليوم بعد توالي الأزمات والنكبات على الشعب الفلسطيني وعماله، في عدم إيجاد عمل من الأساس، خاصة بعد إعلان الطوارئ بسبب وباء كورونا، فأصبح مجرد إيجاد فرصة عمل مهما كان أجره زهيداً مطلب العمال والخريجين وغيرهم، وإذا كان عمال العالم في عيدهم العالمي أشد الفئات تضرراً من وباء كورونا، فإن عمال فلسطين هم أكثر عمال العالم تضرراً من الوباء لا سيما في قطاع غزة الفقير.
بؤس العمال الفلسطينيين عامة وعمال غزة خاصة له طابع خاص أكثر بؤساً وقتامة، وربما وصلنا إلى مرحلة ما بعد البؤس وأشد ظلمة من القتامة، بعدما انهار ما تبقى من اقتصاد غزة المنهك بسبب تراكم الأزمات، وتوالي النكبات، وحصاد المُلمِات... منذ النكبة (أصل المأساة ومنبت المعاناة)، ثم النكسة التي عمقّت المأساة ورسخّت المعاناة، ثم الوكسة باختراع سلطة تحت الاحتلال وداخل بطن الكيان، وصولاً إلى الانقسام وتبعاته من خصومات سياسية، ومناكفات حزبية، وعقوبات سلطوية... وأخيراً وباء كورونا فكانت كالقشة التي قصمت ظهر الاقتصاد الفلسطيني وأردته أرضاً لا سيما في قطاع غزة، فزادته بؤساً على بؤس وتعساً فوق تعس. فتحوّل معظم العمال إلى عاطلين عن العمل، وأوصلت جُل العاطلين عن العمل إلى حافة الجوع، وكادت أن تُلقي بغالبية الجوعى إلى شفا التسوّل... وجميع هؤلاء البؤساء أمام خيارات جبرية كلها سيئة أو أكثر سوءاً: فإما الانضمام إلى طوابير البؤساء على أبواب بنوك البريد انتظاراً لمنحة المائة دولار القطرية، أو اللحاق بصفوف التُعساء على أبواب الجمعيات الخيرية انتظاراً لسلة غذائية، أو التسجيل في جيوش الفقراء المنتظرين على أرصفة مكاتب الشئون الاجتماعية لوكالة الغوث الدولية، أو التنمية الاجتماعية للسلطة الفلسطينية.
وإدراكاً لمأساة العمال الفلسطينيين، وفي يوم عيد العمال العالمي، أو بالأحرى عيد العاطلين عن العمل، وصولاً (بتقديري) إلى عيد الجوعى والمتسوّلين بدل عيد الشغيلة والعُمال، المسحوقين منهم والبؤساء، أن يُتخذ قراراً راقياً، ويُصدر قانوناً سامياً، بزيادة مكافآت ورواتب وتقاعد أصحاب القرار والأموال، الساهرين على راحة الشعب والعمال، من علّيَة القوم والنخبة المختارة وكبار السادة، أعضاء المجلس التشريعي وأضرابهم، ووزراء الحكومة ونظرائهم، ومحافظي المدن وأشباههم. وهذا القرار باطنه فيه الرحمة للشغيلة والمصلحة للعمال، وإن كان في ظاهره المفسدة؛ ذلك بأنَّ في راحة أولي الأمر من أصحاب القرار والأموال راحة لرعيتهم وفي مقدمتهم الشغيلة والعمال، فعندما يرتاح أصحاب القرار والمال في معيشتهم، سينعكس ذلك حتماً على قراراتهم فيريحوا شعبهم وفي مقدمتهم الشغيلة والعمال، فتعم الفائدة عليهم، فإن لم يكن بالمال، فيكفيهم فخراً أن المسؤولين عنهم مُرتاحو البال... وأيُ كلامٍ غير هذا محض افتراء، وخلط بين التفاح والقثاء.
وهو قرار حكيم، ورأي قويم، يتماشى مع حالة الطوارئ، وسياسة التقشف، وجفاف مصادر الأموال، وينسجم مع سياسة حكومة الحمد الله الغابرة بزيادة رواتب الفئات الأكثر فقراً من الوزراء والمحافظين وأعضاء التشريعي ومن في مستواهم المعيشي المُتدني، إضافة إلى كل ذلك ومما يدل على أنه قرار حليم وفوق ذلك مستقيم أنه اتخذ بالتزامن مع خصم يومين من الموظفين عامة واستمرار الخصومات على موظفي غزة خاصة... وكلمة أخيرة لمنتقدي القرار الملغي بعد الضجة المفتعلة والمؤسفة والمحزنة على مواقع التواصل الاجتماعي، والمؤسسات القانونية والحقوقية، خاصة لمن يزعم أن العمال أولى بهذا المال، أو أن المناضلين من الجرحى والأسرى والشهداء خاصة المقطوعة رواتبهم أولى بهذا المال من المسؤولين وصُنّاع القرار... لقد اختار المناضلون من الشهداء والأسرى والجرحى طريق النضال بمحض إرادتهم الحرة، ولم يجبرهم أحد على العمل الوطني المشبوه، واختار غيرهم من أولي الأمر وعلية القوم طريق السياسة والسلامة، وهم الأكثر فطنة وكياسة، وفق نظرية (البندقية تزرع والسياسة تحصد)، فاختاروا الشق الثاني من النظرية فحصدوا ثمار ما زرعه المناضلون فأكلوا في بطونهم، بينما أكل المناضلون على رؤوسهم.