بقلم: أكرم عطا الله
من يتمنى الحرب؟ لا أحد سوى المجانين أو المصابين بلوثة ربما تكون سياسية أو فكرية أو دينية، أو مصاصي الدماء لأن الحرب تتعاكس تماماً مع النزعة الفطرية للإنسان ونزعة الحياة أو السكينة والهدوء، وحين فرض هتلر الحرب على أوروبا نهاية ثلاثينات القرن الماضي اتضح أنه كان مصاباً بلوثة التفوق العنصري التي تجسدت عملياً لست سنوات من الدم، ولكن بالمقابل هناك شعوب أميل للحياة والسكينة فرضت عليها الحرب وقاتلت ولم يكن أمامها خيار.
قد تتداخل علوم الطبيعة أحياناً مع العلوم الانسانية، وكما لكل فعل رد فعل في الفيزياء أيضاً فان العلاقات الانسانية بين الدول تحمل قدراً من ذلك، وحين تفرض الحرب تصبح الشعوب في حالة مقاومة ورد فعل ويصبح فعلها مشابها أو مساويا للفعل الأول، وهكذا خلقت الصراعات بين البشر، وكلما طالت الحروب يصبح من الصعب السيطرة أو الحكم حين تحمل الشعوب المعتدى عليها صفات الدم والكراهية والعنف وسط بحار الدم.
وسط أجواء الحروب يصبح الحديث عن علاقات طبيعية مسألة في غاية التضاد حد الجنون، فلا كلمة الا للسيف أو المدفع وثقافته هي التي تسيطر على البشر، ويصبحون أكثر استسلاماً لنزعات الانتقام والعنف والكراهية، وتلك أخضعت لدراسات علماء الاجتماع وتحديداً في أوروبا التي أوغلت في الدم، وحتى عندما انتهت الحرب وأزاحت رأس الشر «هتلر» ووقعت اتفاق الوحدة الأوروبية في خمسينات القرن الماضي أعطت لنفسها عشرات السنوات حتى يبدأ تنفيذ هذا الاتفاق، لأن الارث الهائل من الدم والكراهية بين الشعوب الذي انولد وتجسد في الحرب العالمية كان يحتاج الى سنوات طويلة، بل عشرات السنين من النسيان حتى تصبح الشعوب مهيأة لعلاقات طبيعية.
بالأحرى عندما يتم تهيئة كل المناخات بعدها يصبح السلام أو العلاقات بمفهومها البسيط هي علاقات طبيعية، وهذا ما يمكن تسميته بالتطبيع أي جعل الأمور طبيعية، وحسب فهم الماركسيين وهي مقولة صحيحة تندرج العلاقات الانسانية وغيرها في اطار ما أسموه بالبنية الفوقية التي تشمل الثقافة والفن وكل ما هو غير ملموس، وقد اعتبرت الماركسية أن تلك البنية الفوقية بما تشمله ليست سوى انعكاس طبيعي للبنية التحتية، والتي تشمل الأرض والاقتصاد والمدن والحدود والتجارة وغير ذلك.
هنا يمكن التوقف طويلاً أمام هذه المسألة حيث الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين أنتج لدى الفلسطينيين المطرودين من أرضهم شعوراً بالظلم التاريخي والغبن، وعبر عن نفسه بهذا الشكل من الرفض لطردهم من وطنهم وتجريدهم من أرضهم، بمعنى أن الثورة الفلسطينية لم تكن حالة ترف عاشها ياسر عرفات وأصحابه من جيل العظماء، بقدر ما أن ياسر عرفات التقط لحظة كان المناخ يعبئ ثقافتها بالرفض والمقاومة والاحتقان الذي كان يعتمل في صدور اللاجئين.
من يتمنى الحرب مع اسرائيل؟ سؤال مكرر؟، من لا يريد من بين الفلسطينيين وحتى العرب أن يعيش بسلام وجوار؟ فقد ارتضى الفلسطينيون أن ينتهي صراعهم الذي امتد لأربعة عقود ونصف «منذ النكبة حتى أوسلو» ارتضوا أن يتم تقاسم الأرض المختلف عليها والقبول بـ 22% من وطنهم التاريخي وأن يقيموا دولتهم بجوار دولة اسرائيل، وقد داعبت خيالاتهم طبيعة هذا الجوار الذي سينبني على التعاون الزراعي والصناعي والتجاري واستفادة كل دولة من امكانيات الدولة الأخرى، هكذا كان حلم السلام.
أذكر تلك المرحلة وأذكر أيضاً تلك الثقافة التي سادت أو التي فرشها ذلك الحلم، وأذكر أن العلاقات حتى قبل التوصل لاتفاق بدأت تكاد تكون طبيعية، أي أن التطبيع الذي أرادته اسرائيل بدأ بمجرد اطلاق صافرة السلام ولكن انكسار الحلم وقتل رابين أعاد الأمور لنقطة الصفر، وتلك عكست نفسها على طبيعة العلاقات، فلا زالت الأرض تحت السيطرة والاستيطان ينهش بها وفي تلك المناخات يبدو الحديث عن التطبيع شيئا منفصلا تماماً عن الواقع.
وما بين علاقات كادت تصبح طبيعية منتصف تسعينات القرن الماضي ولم يكن التطبيع حينها تهمة كما الحاضر، ولنقارن مثلاً بلجنة التواصل التي تعمل ولم تفقد الأمل بتغيير في المجتمع الاسرائيلي كيف تتعرض لهجوم وانتقادات من حين لآخر بتلك، لأن أي عمل سياسي هو وليد مناخاته وغير ذلك يصبح شيئا من السوريالية.
مرة أخرى التطبيع يعني جعل العلاقات طبيعية، وتلك تخضع لبيئة ومناخات وكيمياء كل تلك الأشياء هي التي تقرر الميول والعلاقات بين البشر أو بين الدول، لأن المزاج الجمعي للشعوب هو صورة مكبرة من المزاج الفردي للأفراد، وتلك لا تتم إلا حين تتوفر شروط وأرضية معينة ودون ذلك يصبح الأمر نوعا من التصنُّع أو التمثيل أو محاولة لَيّ الواقع وخداعه أو الفرض الجبري أو القسري وهو أسوأ أنواع الاعتداء على العقل البشري، سواء الشعبي أو الفردي أو العقل الجمعي، وأحياناً حين تنتزع العلاقات من سياقها الموضوعي تصبح إما مدعاة للسخرية أو الغضب.
هذا تماماً ما حصل مع بعض الدراما العربية وتحديداً مسلسلي «أم هارون «أو «مخرج 7 «الذي تمثل رسائلهما المحمولة في وعاء الدراما حالة انفصال عن واقع لم توفر اسرائيل فرصة لأن تجعلها في تضاد شديد مع ما يجري من تنكر للحقوق الفلسطينية أو الاستيطان أو مصادرة الأراضي. فقد توفرت لإسرائيل فرصة ذهبية للتطبيع مع المنطقة حملتها مبادرة السلام العربية التي قامت على الانسحاب الاسرائيلي واقامة دولة فلسطينية مقابل سلام شامل مع كل الدول العربية مجتمعة ولكنها رفضت.
كان يمكن لو استجابت اسرائيل للمبادرة أن نرى 22 زعيماً عربياً في تل أبيب أو نرى الاسرائيليين يتجولون في العواصم العربية، حينها لو تم يكون التطبيع طبيعياً، أما الآن نرى كيف تتم الزيارات خلسة تجتهد وسائل اعلام الدول التي تستضيف اسرائيليين بالتبرير بخجل، وهناك من يحاول تهيئة ثقافة في تضاد مع السياسة. لذا فان المزاج الشعبي العربي الذي يعيش اللحظة لم يقبل بعد تلك الفكرة وهذه ليس مصادفة والتاريخ مليء بالتجارب لمن يريد أن يقرأ، والثقافة هي ابنة الواقع أو انعكاس أمين وصادق له... هل نفهم ؟؟ التطبيع هو بالأساس ثقافة ...!!!
عن صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"