بقلم / مروان صباح
إذا كان باني الأقصى قد تقاضى ثمناً بنائه ، فأن المسجد قابل للتفاوض ، بل يمكن ايضاً أن يوضع في البورصة أو في المزاد العلني ، إذن هو أمر بسيط بالنسبة ليّ ، على الأقل مفهوم ، فعندما يقف شخص ما ، يردد بأن العرب باتوا يقومون علاقات جذرية مع الصهيونية اليهودية في الإقليم والعالم ، في المقابل ، ايضاً يفهم لماذا يقف رئيس وزراء حكومة اسرائيل نتنياهو ويقول بأن أمن الأنظمة العربية في يد إسرائيل ، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ، فإسرائيل باتت ضرورة وجودية يرتبط وجودها بوجود الشعب العربي ، وأي شعب أو نظام لا يحتمي بإسرائيل ، مصيره مصير العراق وسوريا وليبيا واليمن ، وبصراحة ، لم يصل العربي إلى هذه الدرجة من الهوان إلا من خلال متغيرات كبرى شهدها العالم الغربي قبل أن تصل المتغيرات إلى تركيا وإيران ومن ثم العرب ، بل المشروع الصهيوني الغربي ، استطاعا أنتج إنسان جديد مادي بعد عمليات جراحية استئصالية ومتواصلة ، تم فصله عن الفهم القيمي ، لكن القوى الخفية التى تقود هذا المشرع احتفظت بالقيم لنفسها ، فباتت الوحيدة الوصية على المقدسات البشرية ، وبالتالي هذا يفسر لماذا الإنسان يواصل الانتقال من استسلام إلى آخر في كل مرحلة يُطلب منه الاستسلام ، دون أن يقدم أي تضحية ، لأن الحياة الجديدة استبدلت مفهوم قيمة الأشياء ، فالقيم العقائدية استبدلت بالقيم المادية ، ليصبح على جهوزية كاملة للتضحية من أجل سيارته أو لأجل حقه بمارسة الشذوذ أو حقه بالاباحية أو مذهبه أو أي فعل يصدر منه ، أما أن يقدمها من أجل المقدس الإلهي باتت مسألة غير مقبولة بشكل جمعي ، لكنها تقدم من خلال أفراد لا يشكلون خطر جوهري ، وبالتالي استطاعت العلمانية الصهيونية المتخاصمتين مع الدين إعادة إنتاج إنسان من جديد وحسب مقايس الطرفين .
سأقدم شخصياً مقاربة بسيطة ، أجزم من خلالها سأبسط الفكرة ، إذن سنأخذ على سبيل المثال عيد ميلاد النبي عيسى عليه السلام ، هو حدث دولي وحيثياته متداولة بشكل ايضاً عالمي ، وبالتالي من يدقق بالحيثيات ، سيجد أن المحتفلون يضعون الهدايا حول شجرة الميلاد في كل عام ، وفي منتصف الليل يتم فتح كل هدية بشكل مباشر ، إذن الفكرة هنا تم اجتثاثها من جذورها وتحولت القيمة التراحمية الإنسانية من قيمة إلى مادة ، عكس ما كان يقدمه المجتمع العربي سابقاً من رؤية فلسفية حضارية وأخلاقية وقيمية وسياسية واجتماعية ، كان للعرب مشروع تفكيري بما يتعلق بالإنسان كإنسان ، وبالتالي العادات العربية ، كان لا يصح أن تفتح الهدية أمام هاديها ابداً ، إحترام للعلاقة التراحمية والتعاقد الذي نشأ عليه المجتمع ، فالبيوت العربية كانت يحكمها الترابط والتراحم ، بخلاف عن الأسواق والعمل ، فتلكما يحكمهما مزيج خاصة من المصالح والتعاقد والتراحم ، وبالتالي تبقى الهدية على سبيل المثال في المنظومة التربوية العربية ( التقليدي ) ضمن القيمة الإنسانية ، لكن عندما تفتح أثناء وجود جالبها ، تتحول من قيمة إلى ثمن مادي وعليه يتم تقيم الشخص الذي قدم الهدية ، وبهذا النمط كان قد اخرجها من الإطار التراحمي التى تمتلك الهدية قيمتها الإنسانية إلى تصورها التعاهدي بين قيمة الهدية وقدرها المادي ، وبهذه الأفكار المتنوعة التى كانت تعج في المجتمع العربي ، كانت كفيلة في غرز بذور التراحم في الفرد ومن الصغر ، وكانت تتنامى بشكل أوتوماتيكي مع مراحل العمرية للإنسان العربي إلى أن يصل إلى الإيمان الأسمى .
كنا ومازلنا على خلاف منذ البداية ، مع من أعتمد على الرؤية الأمريكية للسلام ، ليس لأن الأمريكان نكثوا في عهودهم ابداً ، بل لأن مجموعة من الطبقة السياسية الفلسطينية رفضت الاستماع لتفسيرنا لمفهوم السلام لدي الامريكي أو ايضاً لمن سبقونا بالتفسير ، وهنا يتوجب تصحيح الجوهر السياسي التى تعتمده واشنطن منذ البداية ، لا يوجد في السياسة الامريكية بالأصل حلم سوى الحلم الإسرائيلي ، وبالتالي العالم كله الآن في ركاب كوكب يقوده الأمريكي ، وهذا لم يأتي بالصدفة ، بل أخذ جهد متواصل في زرع الأفكار حتى وصلت البشرية إلى هذا الحال ، وقبل أن نفكك الفلسفة المادية التى فكفكت الإنسان إيمانياً ، لا بد من الإشارة إلى ذلك التحالف الذي نشأ على هذا النحو ، ابداً هكذا ( شري يمكن له أن يتحالف مع الشر الآخر ، وخيري يمكن له التحالف مع الخير الآخر ) ، ومن هذه الزاوية ، بدأت المنظومة الأخلاقية القيمية بالتفكك ، وصنع المفكك إيماناً جديداً ، هو الإيمان المادي الذي يطلق عليه بالفلسفة المادية ، وبهذا الانتقال تغير لدى البشرية سبب الوجود وانتزع منه فكرة ما بعد الموت ، لأن قوانين المادة التى تفسرها الظواهر الطبيعة لا يمكن لها أن تفسرها تفسيراً صحيحاً ، فالإنسان في النهاية قائم على ثنائية تكوينية من المادة والروح ، وبالتالي عندما يتربى منذ الصغر على مفهوم قدمته الفلسفة ، سيرفض حقيقته كإنسان ويختزل نفسه في معادلة فيزيائية خالية من الروح ، فالمادة مع مرور الوقت بينت بشكل جلي عن عجزها في تفسير الإنسان كفرد واكتفت في طرح العمل الجماعي دون أن تتطرق لخصوصية كل شخص على حِدة ، لأن مع التجربة ، الإلتزام بالمادة ، تتحول كل الاشياء جامدة وبالتالي ، الواضع غفل عن جانب محوري ، هو ثنائية المشاعر والعاطفة التى هما عناصر أساسية في التكوين البشري ، بالتأكيد هذا حصل ، من الممكن تعطيلهما لوقت معين ، لكن من المستحيل اجتثاثهما ابداً ، لأن في أي وقت يتحركا ، ستسقط جميع المفاهيم أمامهما .
تجاهلت الفلسفة المادية بقصد مُتعمد أسس التكوينية للإنسان ، فالفرد مكون من جسد وروح وإيمان ، وبالتالي ، لا يكفي أن يأتي أيا كان ، لكي يقول بأن الإنسان مجرد كائن مركب فقط من المادة ، وهذا الخطأ التركيبي لمفهوم الإنسان ، جعله يشبه قانون الفيزياء ، إذن الظاهرة الإنسانية في مكوناتها الثلاثة ، لا يمكن ضبطها في قوانين ثابتة ، وهذا يحيلنا إلى أصل الرؤية التى قامت عليها الفلسفة ، هناك موضعيتين ، الأولى تصورية التى تنقل الواقع كما هو ، والأخرى قياسية ، التى لا تكتفي في نقل الواقع بقدر تسمح للتفكير ، مراقبة المتغيرات دون إحالة إنتاجاته الحضارية للمادة ، لأن ليس معقولاً لأي عاقل ، ربط بين العمليات الذي يفرزها الدماغ والعلميات التى تهضمها المعدة ، فالثانية ، ينتج عنها فضلات والأولى ، تصيغ أفكار ناتجة عن تخيلات تقترن عادةً بالوقائع ، وبالتالي المادة خلطت بشكل جوهري بين عملية التفكير في الرأس والهضم في المعدة ، وهذا الطرح الذي غفل عن مسألة الروح ، عندما استبدلها بالمادة ، أي أن الإنسان أرض بور ( waste land )ينتظر السماء تمطر لكي تزوده بالمعلومات من الخارج التى تتيح له التفكير دون الانتباه للروح التى تعتبر كل شيء .
هنا مربط الفرس ، لقد أعيد بإختصار إنتاج الإنسان من الجديد على أساس مفهومي ، بأنه لا فرق بينه وبين الطبيعة ، وبالتالي من إنتاجات العلمانية الشاملة ، بادئ ذي بدء ، قامت بعزل السياسة عن الدين ومن ثم عززت نفسها بعزل الحياة عن أي تفسير ديني ، وقالت بإختصار بأن العقل والحواس الخمسة كافيتين في تفسير الكون دون الحاجة إلى الدين والعقيدة ، وأحالت مرجعية العالم للذات ، لا مرجع للفرد سوى نفسه وبالتالي الطبيعة أصبحت بديل عن الخالق ( الله ) ، ليحل الخطاب المادي مكان الخطاب الروحي وتتولى المادة والحركة ، تفسيرات ظواهر الإنسان ، كأن المطلوب هو إختزال البشرية بمربع قانون فيزيائي دون الالتفات لأي حسابات رياضية ، وبالتالي هذا الانقلاب المفهومي لأصل التكوين البشري ، أحدث بصراحة تغير جذري في الغرب ، فالغربي تحول إلى كائن تعاقدي مادي ، أُحادي البعد ، أي لا يقلق بالإعتبارات العاطفية المبنية على الدين ، كمكّبر الوالدين الذي يفسر لماذا تنتشر في أنحاء الدول الغربية بيوت مأوى العجزة ، إذن ، مع الوقت ارتفعت المادية وتراجعت الروحية إلى درجة مخيفة ، بل تكرث مفهوم المصلحة ومركزية الفرد على أي شيء آخر ، لدرجة تحولت المصلحة الشخصية هي الغاية من الوجود ، ولكن على صعيد السياسة الخارجية ، يتحول التمركز الفردي إلى تمركز لصالح الأمة ، فقط عندما تكون الحاجة في السيطرة على الأمم الأخرى ، أي بإختصار المادة أفقدت الغربي العائلة وجعلت مصلحته الشخصية سبب وجوده واستمراره في الحياة .
لقد حاول الغرب بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة ، تأصيل المجتمع العربي بأفكار المادة ، نجح في كثير من الجوانب وعلى الأخص ، الجانب الغريزي للجنس ، لكن سجل نجاحات أهم في أماكن أخرى ، مكان يعتبر نصف المجتمع ، فالمرأة العربية فقدت قيمة التربية واهمية الأمومة والطفولة ، فأصبح العمل هو القيمة الحقيقية لها ، لأن بإختصار يجلب الربح المادي ، وبالتالي تنقلت البشرية جيئة وذهاباً حتى تلقت تمرينات تمهيدية على ما سيشاهدونه من مفاجآت كبرى ، فمن يهن عليه ضناه يسهل الهوان عليه مقدسه ، إذن ، هذا يفسر لماذا الأمريكي تجرأ على تقديم 50 مليار دولار مقابل شراء بوابة السماء ( القدس ) ، لمعرفته المسبقة بأهمية المال لدى الإنسان الجديد على القيمة التى لا تقدر بمال .