بقلم/ د. وليد القططي
عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الاسلامي
قبل أيام اُغتيل الأسير المحرر جبر القيق رمياً بالرصاص وذبحاً بالسكين، المشتبه بهم بتنفيذ الجريمة البشعة أبناء رجل قُتل في الانتفاضة الأولى، قاموا بفعلتهم بدافع الثأر لأبيهم المقتول، وكأنها استحضار لمشاهد الثأر العربية الجاهلية، تلك المشاهد القبيحة إذا ما تكررت قد تفتح باب الفتنة القبلية على مصراعيه، وتُطلق وحش الفوضى العشائرية من قُمقُمه، وتفك لجام غول الصراع العائلي من شكيمته... فتُمزّق نسيج وحدة الشعب، وتُقطّع أواصر الترابط الاجتماعي، وتُصدّع بُنيان الهوية الوطنية، وتُزعزع أمن السلم الأهلي... ونظراً لهذه الخطورة الكامنة في الجريمة ونتائجها؛ فمن الضروري تسليط الضوء على بيئة الفعل الثوري آنذاك.
إنَّ ظاهرة تصفية العملاء ممتدة مع تاريخ الثورة الفلسطينية، فاتسمت الانتفاضة الأولى بتلك الظاهرة، وقد تم إعدام وردع المئات المُتهمين بالعمالة للاحتلال، الأمر الذي ساهم حينها في تقليص ظاهرة العمالة للاحتلال إلى حدٍ كبير؛ ولكن هذا العمل الوطني كان يتم تحت حراب الاحتلال بدون وجود مناطق آمنة، وفي ظل ظروف أمنية ضاغطة بدون أريحية في العمل، ويقوم بتنفيذه مناضلون مطاردون لا يمتلك الكثير منهم الخبرة الأمنية اللازمة، وهو ما لا يسمح بإعطاء فرصة لإثبات التهم ضد المتهمين بالعمالة، ولا يُعطي فرصة لاختيار وتنفيذ العقوبة المناسبة لمستوى الجريمة، ولا يتم التفريق أحياناً بين السقوط الأخلاقي والسقوط الأمني، وكانت الرغبة في التخلّص السريع من العملاء وردع غيرهم هو النهج المُتبع من المجموعات الضاربة للفصائل الفلسطينية، وهذا يتناقض مع مبدأ تحقيق العدالة، مما أدى مع كل العوامل السابقة إلى إعدام أشخاص بتهم لا تستحق الإعدام، وتشويه آخرين كان بالإمكان إصلاحهم دون فضحهم، ولكن هذه الأخطاء والتجاوزات لا تُبطل الأصل في عدالة مبدأ إعدام العملاء، ولا تطعن في مصداقية الثوار الذين نفذوا حكم الشعب والثورة في المتهمين بالعمالة، خاصة وأنَّ الكثير منهم قد قضى شهيداً أو جريحاً، وضحى بربيع عمره وراء القضبان سجيناً أو داخل الوطن مطارداً وخارجه منفياً.
إضافة إلى ذلك أنَّ المناضلين الذين نفذوا عمليات الإعدام في العملاء أو المتهمين بالعمالة لم يقوموا بذلك العمل الثوري بدوافع شخصية أو عائلية أو جنائية، بل قاموا بذلك تنفيذاً لإرادة شعبية بمعاقبة العملاء، واستجابةً لقرار وطني بتصفية المتعاونين مع الاحتلال، وتطبيقاً لأوامر تنظيمية بإعدام الجواسيس، بغض النظر عن الصواب والخطأ في التطبيق، أو مدى القُرب والبُعد من العدل، وهذه الحقيقة تُسقط أي مبرر للثأر العائلي من هؤلاء المناضلين، وتنزع الحق من أولياء الدم بالقصاص، وبناءً على ذلك فإنَّ أي جريمة ثأر للقتلى في الانتفاضة الأولى أو أي مرحلة نضالية أخرى من الثوار والمناضلين الذين نفذوا الإرادة الشعبية والقرار الوطني وأوامر المقاومة، يجب أن يُعتبر جريمة أمن قومي من الدرجة الأولى، وبالتالي فإنَّ أي تحريض أو تشجيع أو إشادة أو إعجاب بجرائم الأخذ بالثأر الآثمة، تصب في خدمة الاحتلال، وتعود بالمجتمع إلى غياهب القبلية، وأعراف الجاهلية، وقانون الغابة، وستؤدي إلى إشعال نار الفتنة النائمة تحت رماد النعرات الجاهلية، لتُلقي الشعب الفلسطيني في أتون نار عمليات ثأر متبادلة تشبه حروب الجاهلية الجهلاء أمثال داحس والغبراء. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنَّ الثأر سلاح ذو حدين قد يصيبهم أنفسهم، فماذا لو قام أبناء الشهداء بالثأر من العملاء أو ابنائهم الذي تسببوا في استشهاد آبائهم؟!، وماذا لو قام أبناء عملاء من عائلات أخرى بالثأر من مناضلين من نفس العائلة التي أخذت بثأرها سابقاً؟!، أليس أولى بالضحايا من أن يوجهوا ثأرهم إلى المجرم القاتل وهو الاحتلال؟!.
توجيه الثأر إلى الاحتلال المجرم الحقيقي المسئول عن ضحايا الاحتلال وكل مآسي الشعب الفلسطيني يضع بوصلة الشعب بالاتجاه الصحيح والطريق الصواب، ويقودنا إلى الخروج من مفهوم الثأر بالمعني القبلي إلى مفهوم الثأر بالمعني الوطني، وإعادة تعريفه كمفهوم كفاحي مقاوم، ودمجه في منظومة النضال الوطني، وهذا ليس جديداً في الثورة الفلسطينية، فقد بدأ النضال الوطني الفلسطيني المُسلّح ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني كعمليات ثأرية فردية وجماعية، قبل أن يتحوّل إلى عمل وطني جماعي منظم وأدركت الثورة أهمية توظيف الثأر للانتقام من جرائم العدو ومذابحه، دون أن يؤثر على أصل الصراع مع العدو ومقاومة الاحتلال كمشروع وطني يهدف للتحرير والعودة والاستقلال، وكحركة تحرير وطنية بأبعادها القومية والإنسانية، ولم يغب هذا المفهوم الوطني لثقافة الثأر عن أول نشرة لحركة القوميين العرب بعد النكبة التي صدرت باسم (الثأر)، ولم تغب عن أول شعاراتهم وهو (الوحدة والتحرير والثأر)، وكانت حاضرة في اسم إحدى المنظمات المكوّنة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد النكسة (منظمة شباب الثأر)، وهذا البُعد الوطني ظهر واضحاً في إطار قومي في العهد الناصري بمصر.
الثأر بمفهومه الوطني والقومي ظهر في آداب وفنون المرحلة الناصرية القومية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ومن أمثلة ذلك قصيدة (بالدم) للشاعر عبدالرحمن الأبنودي التي غناها عبدالحليم حافظ، ومطلعها "بالدم هناخذ ثارنا... بالدم نعود لديارنا.. من دم الإسرائيلي.. من دم الأمريكاني.. من دم الانجليزي..."، واُغنية محمد قنديل مُخاطباً الاستعمار " أحنا ما بينا وبينك ثار.. أكبر ثار.. خلّي الثورة تولّع نار.. تولّع نار". وكان مفهوم الثأر كقيمة وطنية حاضراً بقوة في قصيدة (لا تصالح) للشاعر المصري الثائر (أمل دنقل) التي دعا فيها السادات إلى عدم الصلح مع الكيان الصهيوني والتمسك بثأر العرب منهم، وبإبداع الفنان ألبس قيمة الثأر القبلي في حرب البسوس ثوباً وطنيا وقومياً، وارتقى بقيمة الثأر من مفهومه الجاهلي المُتخلّف إلى مفهومه الإنساني السامي، وصعد بالثأر إلى درجة عُليا؛ فحوّله إلى قيمة دافعة للصمود والمقاومة ومواصلة النضال والكفاح والتمسك بالثوابت الوطنية والحقوق، ومما جاء في قصيدته الرائعة " لا تصالح ... سيقولون.. ها أنت تطلب ثأراً يطول.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق.. في هذه السنوات القليلة.. إنّه ليس ثأرك وحدك.. لكنه ثأر جيل فجيل.. وغداً سوف يولد من يلبس الدرع كاملة.. يوقد النار شاملة.. يطلب الثأر.. يستولد الحق.. من أضلع المستحيل.. لا تصالح.. ولو قيل إنَّ التصالح حيلة.. إنه الثأر...".
وانسجاماً مع هذا التراث الثوري الوطني والأدبي القومي، ولتحويل الثأر إلى قيمة وطنية دافعة للجهاد والمقاومة، ورافعة للكفاح والنضال لا بد من إغلاق ملف العملاء في الانتفاضة الأولى بإيجابياته وسلبياته نهائياً وقطعياً وبدون رجعة، علماً أنَّ الكثير من المعالجات قد تمت مع قدوم السلطة الفلسطينية وبالتعاون مع الفصائل الفلسطينية حفاظاً على النسيج الاجتماعي وعلى عوائل ضحايا الاحتلال (المتهمون بالعمالة) والتعامل بحزم وقسوة مع من يسعى لفتحه عملياً بتنفيذ جرائم الثأر، ونظرياً بالدعوة إلى فتحه من بعض أشباه المثقفين الأغبياء، وأمثال العملاء الخبثاء، وتشكيل محاكم ثورية سريعة لمحاكمة ومعاقبة كل مجرم يُقدم على قتل مناضلي الانتفاضة الأولى على خلفية الثأر، ومحاكمة كل مُحرّض أو مُشجع أو معجب بالجريمة ومرتكبيها القتلة. والعمل على تعزيز القيم الوطنية والثقافة الوحدوية والوعي المجتمعي... من أجل تقوية الانتماء للشعب والوطن قبل الانتماء للعائلة والقبيلة، وتمكين سلطة القانون والمؤسسات فوق كل سلطة أخرى، وتمتين السلم الأهلي، والترابط الوطني، والتماسك المجتمعي، وهذا يتطلب إعادة النظر في نظام العشائر الأخذ بالتضخم في المجتمع الفلسطيني مما يُهدد الجسد الوطني الفلسطيني، وإذا لم تتم إعادة النظر فيها لوضعها في إطارها الطبيعي فهذا نذير شؤم سيسمح للتجمعات السكانية إلى إنشاء مجالس وروابط على أساس بلداتها الأصلية أو جذورها الجغرافية، ولات حين مناص.