بقلم الإعلامي/ عوض أبو دقة
لا يُفارقُ الشهيد القائد بهاء أبو العطا، رفاقَ دربه لحظةً واحدة، فهو حاضرٌ معهم في كل التفاصيل، تطوف روحه بين ثناياهم، فتزيدهم أملاً، وعطاءً، وتحدياً.
ابتسامته وكلماته لا تبرحهم، تؤنسهم، تقويهم، وتشحذ فيهم الهمم والعزائم، كي يواصلوا درب قائد أركان المقاومة، الذي أحبهم وأحبوه، وتشاركوا معاً لحظات الفرح، ولا يخلو الأمر من لحظاتٍ جمعتهم سوياً بلغت فيها القلوبُ الحناجر لولا لطفُ الله وعنايته.
جمعني القدر بقائدين عسكريين في سرايا القدس، جمعتهما علاقة وثيقة بالشهيد القائد بهاء أبو العطا، الأول عايشه في مرحلة مبكرة وتدرجا معاً في العمل العسكري، والثاني عمل معه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى قبل عقدين منذ الزمان.
يقول القائد الأول (أبو ياسر) :"جمعتني بالقائد بهاء علاقة أخوة، وصداقة منقطعة النظير، بدأت منذ الصغر، وانتمائنا لحركة الجهاد الإسلامي. كانت بداية اللقاءات - آنذاك - في المساجد (مسجدي العائدون وابن عثمان بحي الشجاعية) حيث كنا نحفظ القرآن، ونرتل آياته، ونتدارس السيرةَ النبوية، ونتشرب أفكار ومبادئ الحركة".
وأضاف "بدأت صداقتي بالشهيد بهاء تقوى شيئاً فشيئاً، حتى صرنا لا نفارقُ بعضنا بعضاً، إلى أن عملنا في الجهاز العسكري للحركة، وتدرجنا في العمل العسكري".
وتحدَّث أبو ياسر، عن محطات بارزة في حياة الشهيد بهاء، مبيِّناً أنها بدأت خلال سِني انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987 - يومها لم يتجاوز عمره 10 سنوات وانا كنتُ أكبره بسنوات معدودة - حيث شارك في فعالياتها المختلفة، لاسيما رشقه لجنود الاحتلال وعصابات المستوطنين بالحجارة، مشيراً إلى أن ذلك يعود لكونه نشأ وترعرع وسط أسرةٍ وعائلة لها سجل حافل بالكفاح والثورة، لتصنع منه هذه العوامل، وغيرها، شخصية قيادية أهلته فيما بعد لأن ينجح بجدارة واقتدار فيما يُسند إليه من مهام ومسؤوليات.
وأوضح أن (أبا سليم)، تميَّز وأبدع في كل مهمة ومسؤولية كُلِّف بها، ليتقدم الصفوف، ويُسجِّل إنجازات كبيرة، ويكون له بصمة وحضور في كل المواجهات والمعارك التي خاضها دفاعاً عن شعبنا، وقضيتنا الوطنية.
ولفت أبو ياسر إلى أن القائد بهاء كان الدرعَ الحامي لأبناء شعبنا الذين دأبوا على الخروج بالآلاف للحدود الشرقية لقطاع غزة، في إطار مسيرات العودة وكسر الحصار، موضحاً أنه ثبَّت معادلةَ الرد على أي عدوان يرتكبه العدو ضد المتظاهرين.
وتابع:" الضربات التي كان يوجهها القائد بهاء بعد انتهاء فعاليات مسيرات العودة مساء كل يوم جمعة، كانت موجعة للعدو، حتى أن الاحتلال بات يحسب ألف حساب لهذا اليوم. وكان الجميع يدرك أنه إذا وقعت إصابات، فهذا معناه أن أبا سليم سيرد لا محالة".
وبحسب القيادي البارز في سرايا القدس، فإن (أبا سليم) كان إذا وقعت جريمة من الاحتلال، لا يستطيع النوم دون أن يرد عليها، وينتقم للشهداء، حيث كان يردد باستمرار (كما ارتضينا أن نُخرج الناس للمواجهة، يجب علينا كمقاومة حمايتهم من تغول الاحتلال عليهم)"، كاشفاً عن كون بعض الفصائل كانت تختلفُ معه حول ذلك الرد، حيث أن وجهة نظرهم تتمحور بأن هذه مسيرات مدنية، وعلينا عدم عسكرتها.
وعن علاقة القائد أبو العطا، بقوى المقاومة، قال أبو ياسر :" كانت تربطه علاقات قوية ومميزة بالجميع دون استثناء، وكان قادة الأجنحة العسكرية من كافة القوى والفصائل يزورونه في المناسبات، ويتواصلون معه في المواجهات والمعارك، حتى أنه كان يُمد بعض أذرع المقاومة بما يطلبون من عتاد عسكري، لإيمانه أن الفصيل ما هو إلا وسيلة، وكل من يتقاطع معي حول هدفنا المُتمثل بتحرير فلسطين كل فلسطين، يجب ألا نقصر معه وفق ما هو متاح"، منوهاً إلى أن هذه هي رؤية راسخة وثابتة لدى حركة الجهاد الإسلامي.
وواصل القيادي البارز في سرايا القدس حديثه عن رفيق دربه، :"بورك هذا الدم الذي هزم السيف. وبورك هذا العطاء الذي قدمته، وبرهنت عليه بدمك وأشلائك. لقد قدَّمت كل ما تملك من أجل فلسطين، ومن أجل المقهورين على هذه الأرض. لم ترتح يوماً، ولم تُرِح عدوك. لقد كنت كابوساً لهم في كل لحظة من حياتهم، حتى بعد ارتقائك لازالت روحك تُرعبهم، فهم يُدركون أن نهجك وجُنَدك متجذر في ربوع الوطن، وهم لا يستطيعون بطائراتهم ووسائلهم وتقنياتهم وحلفائهم اقتلاعه".
وعاهد أبو ياسر، روحَ أبو سليم، بالمحافظة على إرثه، وإرث الشهداء الذين سبقوه بإبقاء جذوة الصراع مستمرة حتى تحين ساعة النصر العظيم.
وأضاف: "صحيحٌ أن غيابَ (أبو سليم) محزنٌ ومؤلم جداً، لكن عزاءنا أنه ارتقى شهيداً، ومضى إلى جوار ربه كما كان يتمنى".
ومضى يقول "لطالما كان الشهيدُ القائد بهاء يُردد أن حياة المجاهد إما نصر أو شهادة، وها هو يمضي شهيداً كما كان ينشد، ونحن بدورنا حافظون لوصيته، وحاملون لسلاحه، وماضون على خطاه، حتى يَقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً".
وختم أبو ياسر حديثه قائلاً :"في ذكراك أبا سليم، نقول لك بأن سرايا القدس والمقاومة بخير وعافية، وستظلُ نبضَ الأمة، ودرع مقدساتها، لا يَضُرها من تخاذلوا، وطبَّعوا، وساوموا، وباعوا دينهم، وقِيَمهم، ومروءتهم".
وفي حديثٍ للقائد الآخر في سرايا القدس أبو جبريل، أكد لي أن (أبا سليم)، حفر اسمه في قلوب أبناء أمتنا، وشعبنا، وأحرار العالم، مشيراً إلى أنه كان نموذجاً يُحتذى في الإقدام، والعطاء، والتضحية.
وقال أبو جبريل :"(أبو سليم) كان رجل مواجهة بامتياز، لا يعرفُ للكلل أو الملل طريقاً، ويحرصُ دوماً على تطوير قدرات المقاومة، والإبداع في أساليب وتكتيكات مواجهة المحتل".
وأضاف "كانت إستراتيجية القائد بهاء تقوم على مشاغلة العدو، والرد على جرائمه وعدوانه ضد شعبنا ومقدساتنا".
وبيَّن أبو جبريل، أن القائد بهاء كان يتألم عندما يرى جريمةً إسرائيلية، وأكثر ما كان يؤلمه استهداف الأطفال والنساء المشاركين في مسيرات العودة، واستباحة عصابات المستوطنين لحرمة المسجد الأقصى المبارك.
ونوه إلى أن العمليات العسكرية التي أشرف عليها القائد (أبو سليم) كانت مدروسةً بعناية فائقة، وفيها رسائل لقادة الاحتلال وجنوده، مستشهداً بعملية قنص السرايا لقنّاص من جيش الاحتلال الإسرائيلي برأسه بشكل مباشر، في الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير عام 2019، وهو يقوم بإطلاق الرصاص صوب المتظاهرين شرقي قطاع غزة.
وتابع أبو جبريل :"ما ميّز عملية القنص هذه أنها استهدفت قناصاً إسرائيلياً وهو يُطلق النار صوب المتظاهرين، ناهيك عن كونه كان يتحصنُ خلفَ تلةٍ رملية، إضافةً لإصابة قناص السرايا الهدف بدقة متناهية من مسافة بعيدة، ويومها انسحب المُنفذ بسلام من المنطقة دون أن يُخدش برغم أن السماء تعج بطائرات الاستطلاع، هنا كانت الحِرفية العالية في التخطيط والتنفيذ الذي يحمل بصمات القائد بهاء أبو العطا".
ولفت إلى أن هذه العملية كان لها وقعها على الجبهة الداخلية للعدو، ناهيك عن تأثيراتها على قناصي الاحتلال، هذا عدا عن تأثيراتها على مستوى قيادة الجيش الإسرائيلي، والمستويين السياسي، والاستخباري في كيان العدو.
ووفق القيادي البارز في سرايا القدس، لم تكن هذه سوى عمليةً واحدة من عشرات العمليات التي أشرف عليها القائد (أبو سليم) شخصياً، مُستذكراً في هذا السياق عملية إطلاق صواريخ على مدينة أسدود المحتلة، بالتزامن مع مؤتمر انتخابي يشارك فيه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في العاشر من أيلول/ سبتمبر عام 2019، حيث شاهدنا جميعاً بالصوت والصورة، وعلى الهواء مباشرةً، مشهد هروب نتنياهو، واضطراره لقطع مؤتمره الانتخابي ليدخل للغرف المحصنة، يومها كان مثار سخرية للجميع، وفي الوقت ذاته تحدَّث المعلقون والمحللون عن كون ما حدث إهانةً كبيرة.
ونوه إلى أن القائد (أبو سليم) كان مسؤولاً عن التجهيز لعملية استشهادية داخل حاجز "إيرز" الذي يحتوي على مبانٍ ومقار استخبارية وتحيطه كتيبة عسكرية إسرائيلية، وذلك من خلال سيارة شحن، كانت تحمل 4 أطنان ونصف من المتفجرات، انتقامًا لدماء الشهداء، منوهاً إلى أن العدو تكتم على القتلى والإصابات فيها.
وتحدث أبو جبريل عن حرص القائد الشهيد (أبو سليم) على التميز في العمل، وتطوير قدرات المقاومة باستمرار، ومواكبة كل جديد، إضافةً لمتابعته المتواصلة للمجاهدين في الميدان، وحرصه على أدائهم لعملهم بصورة مُتقنة.
كما تحدث القيادي في السرايا، عن بهاء الإنسان، حيث أنه كان يحرص على مشاركة الجميع في مناسباته السعيدة والأليمة، حتى في ظل تصاعد تهديدات الاحتلال باغتياله، كونه كان يؤمن بأن محبة إخوانه له هي رأس ماله، ومؤشر رضا ربه عليه، "فإذا أحب الله عبداً، حبب به عباده".
ويستذكر أبو جبريل جيداً، لقاءه الأخير برفيق دربه (أبو سليم) قبل أيام معدودة من اغتياله، وذلك في مناورة بموقع "فجر" بالمنطقة الوسطى، لافتاً إلى أنه قال له يومها: "ما الذي جاء بك؟!.. ألم تسمع تهديدات الاحتلال ضدك؟!"، ليُجيبه بابتسامة: "جئتُ كي أطمئن عليكم، وعلى المجاهدين"، مبيناً أن روحه مُعلَّقةً بالمقاومة.
ومضى يقول :"لي شقيق شهيد، كنتُ أتذكره دوماً وأنا أنظر وأتحدث إلى القائد بهاء. لقد كانا متشابهان في كل شيء، وها هما يرتقيا شهيدين إلى جوار ربهما كما كانا يَنشُدان".
وختم أبو جبريل حديثه "عزاؤنا اليوم وبعد مرور عام على استشهاد القائد بهاء، أن إخوانه وأبناءه من المجاهدين لازالوا على عهده، وسيواصلون المُضي على دربه، مُقبلين غير مدبرين، سلاحهم والإيمان، والوعي، والعزم على مواصلة درب التضحية والفداء".