أثارتْ فتوى استاذ العقيدة في الجامعة الإسلامية البروفيسور صالح الرقب بشأن عملِ المرأة الشُرَطِية في العمل الميداني (الشارع) حالةً من الجدل الكبير في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب جدلٍ بين أساتذة في الفقه الإسلامي.
البروفيسور الرقب علَّق على صورِ شرطيات كنَّ يضبطنَّ الحالة الميدانية ضمن إجراءات مواجهة فيروس كورونا، واللواتي يقتصر عملهنَّ على الاحتكاك المباشر بالسيدات فقط، قائلاً في فتواه: "إنَّ إقحام الشرطيات للعمل في (الشوارع) مخالفٌ للشرعِ ومخالفٌ للفطرة، وهو تقليد أعمى للغرب".
وأتبع الرقب فتواه بمنشورٍ مطول قال فيه "إن عمل المرأة الأول والأعظم الذي لا ينازعها فيه منازع، ولا ينافسها فيه منافس، هو تربية الأجيال، الذي هيأها الله له بدنيا، ونفسيا، ويجب ألا يشغلها عن هذه الرسالة الجليلة شاغل مادي أو أدبي مهما كان"، موضحاً بعد توطئته ضوابط عمل المرأة في الإسلام.
فتوى الرقب كانت واحدة من كثير من فتواه ومنشوراته التي أثارت جدلاً حاداً في الأوساط المجتمعية، وبينما كانَ هناك من يؤيد تلك الفتاوى بالتعليق على منشورات الرقب والثناء عليها، كان في مقابلهم موجة غضب واسعة على فتواه التي اعتبرها الكثيرون ضيقتْ واسعاً على المرأة التي أنصفها الشرع خير إنصاف، معتبرين أنَّ مثل تلك الفتاوى تنزع الدين من وسطيته وشموليته.
"لن نقبل فتواك يا سيدي"
الكاتب والأكاديمي ناجي البطة ردَّ في تعليق على صفحة الرقب قائلاً: "إن نصف المجتمع نساء، وخولة بنت الأزور واحدة من أبطال معركة اليرموك، وكانت في كتائب الموت الإسلامية مع عكرمة وضرار"، في إشارة منه أنَّ المرأة يمكن أن تنخرط في بعض المواقف ضمن ضوابط شرعية في عملٍ يؤديه الرجال.
وشاركت داليا نادر منشور الرقب معلقة باللهجة الدارجة: "هالكلام ناتِج من أُستاذ عَقيدة ومذاهب مُعاصرة في الجامعة الإِسلامية وكمان باحِث شرعي، يعني الأُسس وكُل المناهج التعليمية يلي بيتعلموها طُلاب العقيدة في جامعاتنا عندنا بَعيدة كل البعد عن الدِين، والنتيجة جيل فاهِم الدين خطأ ومتعصب لرأيه وعقيدته يلي تعلمها بشكل مخالف عن العقيدة الأصلية وبينزلوا يتكلموا باسم الدين وكأنه القرآن مُنزّل عليهم ".
وعلَّق أبو المعتصم حازم على فتوى الرقب قائلاً: "لا أوافقك الرأي دكتور أرى أن تتعرف على الواقع الذي تعمل فيه الشرطيات وما هو الواجب في هذا الواقع، حتى نقبل فتواك سيدي"، فرَّد الرقب عليه سريعاً قائلا: "يلزمك قراءة الفتوى جيدا فهي نص في موضع معين. وأنت تعمم فانتبه".
وعلق عاطف حمد قائلاً: "يا شيخنا الفاضل.. وجود النساء في المؤسسة الشرطية حاجة ملحة، حيث أن بعض المهام لا يمكن بأي حال إلا أن تقوم بها امرأة، كذلك المرأة لا تقوم بالتحدث والاسترسال في مشكلتها لو كانت هي من تقوم بتقديم الشكوى، إلا لامرأة مثلها، والشواهد كثيرة، ومن جانب آخر لو كانت أيضاً متهمة، فمهمة التفتيش، والاستجواب، وحتى الحجز لن تكون قطعاً من مهمة شرطي، لذا تواجدها في المؤسسة الشرطية مهم، وفعال، لكن بضوابط".
"صدقتْ دكتورنا"
بينما وافق بعض من المعلقين رأي الرقب، فثملاً علقَّ عبدالمعطي الأخرس قائلاً: "لها مكانها الذي ينفع والشوارع ليس بيئة صالحة لوجودها"، وعلَّق عبدالله الشاعر كاتباً: "معظم المعلقين المعارضين للدكتور ربما لم يقرؤوا ما كتب في فتواه، بارك الله فيك دكتورنا"،
وقالت هيفاء سكافي مؤيدة لفتواه: "صدقتْ دكتورنا الفاضل"، وعلق ابو رشيد البحايصة على منشور الرقب قائلا: "والله مكان المرأة البيت وإعداد الجيل للمستقبل وإلا ما قال الله (وقرن في بيوتكن) لأنهن سكن في البيوت وإذا خرجن ذهب السكن واضطربت البيوت ودفع الأطفال ثمن ذلك التقليد الاعمى ولا يمنع ذلك القول الضرورات التي لا بد منها".
عمل الشرطيات مقدس
الجدل العارم على مواقع التواصل الاجتماعي من فقاء وأكاديميين وطلبة وعوام، كان هو الدافع الأكبر لمعالجة ذلك الأمر برويةٍ وردهِ إلى مختصين في علوم الفقه الإسلامي.
استاذ الفقه وأصوله وعميد كلية الشريعة في جامعة الأزهر أ.د مازن مصباح صبَّاح أفتى بجواز عمل المرأة في المجال الشرطي الميداني، ولكنْ ضمن ضوابط شرعية تحفظ عليها دينها، وكرامتها، وخلقها، معتبراً وجود المرأة في العمل الشرطي أكثر قداسةً من أي عملٍ آخر، كون وجودها في ذلك التخصص يحققُ مصلحة شرعية حقيقة يقينية وغير متوهمة.
ويقول البروفيسور صبَّاح: "إن العمل بصفة عامة مقدس، وأرى أنَّ عمل المرأة في السلك الشُرطي أكثر قداسة من أعمالٍ أخرى، كون وجود تلك المرأة في العمل يساعدُ في بسط الأمن وينشرُ الطمأنينة بين الناس، ومثلها مثل الجندي الذي يقف على الثغور ليحمي الناس، والشرطة سواء كانت إناثاً أم ذكوراً فهي تقف لحماية الناس من المفسدين والمجرمين، لذلك عمل عناصر تلك الأجهزة سواء كان من يعمل فيها ذكوراً أم اناثاً فعملهم مقدس".
وأضاف: "إنَّ مثل المرأة التي تقف في وجه المجرمين ضمن ضوابط شرعية تحفظ عليها دينها، وأخلاقها، وكرامتها، مثل المرابط في سبيل الله، فكما هناك أعداءٌ في الخارج يتوجب علينا جميعاً مواجهتهم، هناك أعداءٌ في الداخل يتربصون بالمجتمعات، وإنَّ مواجهة ذلك يكون أمر واجب على كلِ مسلمٍ ومسلمة".
وتابع: إنَّ إجازتنا لعمل المرأة في السلك الشرطي ومن ضمنه العمل الميداني ليس على سبيل التشهي، وإنما مدعم ومسنود بالأدلة الشرعية من النصوص القرآنية والنبوية، إذ أنَّ بسط الأمن مطلوب وواجب على ولي الأمر، الذي بدوره يجوز له أن يفرضه بأي وسيلة يراها مناسبة ضمن ضوابط شرعية، ومن بين تلك الوسائل التي يؤيدها الشرع هو عمل الشرطيات في الميدان، متسائلاً: عمل المرأة في الشرطة ألا ينشر الطمأنينة والأمن داخل مجتمعنا وشوارعنا؟!، أليس في ذلك مصلحة حقيقية غير متوهمة؟!
وأوضح أنَّ وجود الكادر النسوي في الأقسام الشرطية والدوائر المختصة وفي الميدان أمرٌ ضروري، فهبْ مثلاً لو افترضنا أنَّ هناك امرأة مخالفة للقانون أو عندها شبهة جنائية أو أمنية أو ما شابه فمن أولى الناس بتفتيشها والتحقيق معها والتدقيق في بياناتها، وهبْ مثلاً لو افترضنا أنَّ هناك أمر بتفتيش منزلٍ فيه نسوة فمن أولى الناس بذلك، مستدركاً: "من الضروري في تلك الحالة أنْ نصطحب معنا شُرطيات قادرات على أداء المهمة على أكمل وجه، ففي تلك الحالة نستطيع القول إنَّ عمل المرأة في أجهزة الشرطة المختلفة ومنها الميدانية جائز في حقها ضمن ضوابط شرعية تحفظها لها حقوقها، ودينها، وأخلاقها، وكرامتها، وعفتها".
ووجه سؤالاً لمن يعترض عمل الشرطيات في الميدان، قائلاً: إذا ما حدثت مشكلة -لا قدر الله- عندك في بيتك الذي يضم نسوة هل ترضى أنْ يدخل على بيتك جمعاً من الرجال، ليفتشوا منزلك وأخواتك وزوجاتك وبناتك، أم تختار أنْ تدخل المرأة على المرأة؟!، وإذا كانت ابنتك مُنقبة وهناك حاجز للشرطة أراد ايقافها لشبهةٍ ما فمن أفضل لك أنْ يتعاطى معها رجل أم امرأة؟.
وأضاف: "إنَّ خروج المرأة في العمل الشرطي بما يحفظ عليها دينها واخلاقها واجب؛ لأننا نحتاج إلى وجود تلك المرأة في تلك المجالات، ومن يعترض على هذا الأمر فاعتراضه ليس في محله، وغير مسنودٍ بأدلة واضحة وبيِّنةٍ، فلماذا نشترط أنْ تكون القابلة والطبيبة التي تعالج بناتنا وأخواتنا هي امرأة، ولا نقبل أنْ تكون المرأة على حاجزٍ شرطي للتعامل معهنَّ ضمن ضوابط شرعية".
وذكرَ أن العمل في أي اختصاص لا يجاز أو يمنع إلا ضمن ضوابط شرعية واضحة وبينةٍ، فإذا كانت المرأة الشرطية تقف على حاجز شرطي بما يحفظ مكانتها واخلاقها ودينها، فلماذا نعترض؟!
صحابيات في جيش النبي
واستدل على جواز عمل المرأة في حفظ الأمن إلى جانب الرجل، بمشاركة المرأة في الجيش والوحي يتنزل على رسول الله صلى الله وعليه وسلم، قال: "عندما نتأمل في خروج بعض الصحابيات مع الجيش الإسلامي ليفعلن ما يمكنهن فعله فيرعين شؤون الجنود ويهيئن لهم الطعام، ويمرضن الجرحى، ويقاتلن في سبيل الله؛ ندرك كم تضيق بعض العقليات واسعاً، أولئك الذين يقصرون عمل المرأة على الطبخ والنفخ والطي والغسيل .. لماذا ننكر على المرأة عملاً اجازه الرسول صلى الله عليه وسلم".
وتابع: "المرأة كانت مجندة في الجيش، ومثلها مثل الشرطية في زماننا، الم تكن طبيبة وتؤازر الرجال، لماذا تعترضون إذا كان خير البرية أجاز لها عملها في هذا الاختصاص؟"
وذكر أنَّ (الإسلام شمولي) أي ما من واقعة جاءت إلا لتحقيق مصلحة للمسلمين، وتدرأ عنهم مفسدة إلا وأجازها الشرع الحكيم، وهو ما يتحقق في قضية عمل الشرطة النسائية التي تحقق مصلحة عامة للإسلام والمسلمين.
وقال: دعونا ننظر إلى العملِ في نتائجه ومآله وضوابطه، ولا أنْ نحكم عليه لذاته، فالحكم يكون من باب هل هذا العمل يحقق مصلحة أو مفسدة، فالعمل الصالح مآله صالح، والعمل الفاسد مآله إلى فساد، وعمل المرأة الشرطية يؤدي إلى مصلحة عامة وليس شخصية لذلك فعملها جائز، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، لاسيما أنَّ في عملها مصلحة حقيقة وليست مصلحة متوهمة.
لا تنزعوا الإسلام من شموليته
وأضاف: "إنَّ مثل تلك الفتاوى تنزع الإسلام من شموليته، ووسطيته، ومرونته للتعامل مع كلِ عصر وظرف، الرسول جاء والصحابيات يعلمنَّ، ويلزمنا أن لا نضيق واسعاً على المرأة وأن نتحرر من العقليات التي تضيق أموراً أجازها الشارع الحكيم، فمثلاً هناك من يضيق على المرأة في قضاء عدتها، علماً أنَّ النبي أعطاها ما سلبناه منها، ففي حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: طُلِّقَت خَالَتِي، فَأَرَادَت أَن تَجُدَّ نَخلَهَا، فَزَجَرَها رَجُلٌ أَن تَخرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: (بَلَى فَجُدِّي نَخلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَن تَصَدَّقِي، أَو تَفعَلِي مَعرُوفا) رواه مسلم،
وقال: "المرأة العاملة هي مجاهدة من الدرجة الأولى، كمْ من امرأة مات من يعيلها، فخرجت واسست بيتاً وأخرجتْ جيلاً من المتعلمين والقادة، فمثلاً تلك التي يستشهد زوجها ولديها أولاد، ولا تجد من يعيلها فعليها أن تعمل وتجد وتجتهد، ومن أمثلة ذلك عمل بعض الشرطيات اللواتي تقطعتْ في بعضهنَّ السُبل".
وقال: "العمل عبادة في الإسلام وأوجب الله عزوجل على كلِ رجلٍ قادر العمل، والمرأة التي لا معيل لها فعملها واجب، ولكن لابد أن تختار ما يناسب قدراتها وما يتناسب مع فطرتها، وذلك كي تقضي حاجاتها من مأكل وملبس وتربية أطفال، ولك أن تتخيل إن قعدتْ تلك المرأة التي لا معيل لها عن العمل كم من المفاسد التي قد تلحق بها وبأطفالها، وقد تجعلها عرضةً للتسول والابتزاز".
وتابع: "(وقل اعملوا) أي عمل يحفظ كرامة الانسان فهو مأجور عند الله عزوجل، وهو خطاب موجه للنساء والرجال، وليس محصوراً بالرجل، وجاء في النصوص الشرعية أن رجلاً مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – الرجل في جلدة ونشاطة فقالوا : يا رسول الله ، لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " .
وأردف: هذا الحديث ينطبق على النساء ضمن ضوابط شرعية، إذن خلاصة الأمر جائز للمرأة ضمن ضوابط شرعية لأن المرأة جزء من المجتمع الذي أمرنا بعمارته ولا يقتصر الأمر على ذكر دون أنثى، وهو ملحوظ في كل النصوص الشرعية.
واختتم حديثه، قائلاً: "الأولى أنْ تثار فتاوى وقضايا مجتمعية تلائم روح العصر والظروف التي نعيش فيها من حصار وضنك وعدوان ومآسي اجتماعية، يا أفاضل أثيروا فتاوى بشأن من يأكل وجاره جائع، من يركب سيارة بآلاف الدولارات وجاره لا يستطيع شراء علاج لابنه، هذه الفتاوى التي يجب أن يثيرها مثل هؤلاء".
ما هو رأي الأزهر الشريف؟
ويقول مرصد الأزهر الشريف للفتاوي في عمل المرأة في الشرطة أو الجيش "إن الأصل في عمل المرأة أنه مباح ما دام موضوعه مباحًا ومتناسبًا مع طبيعة المرأة، وليس له تأثير سلبي على حياتها العائلية، وذلك مع تحقق التزامها الديني والأخلاقي، وأمنها على نفسها وعرضها ودينها، حال قيامها به.
وأوضح مرصد الأزهر أن عمل المرأة في الجيش أو الشرطة يجوز إذا كانت هناك حاجة ماسة إليها، فقد يُحتاج إلى المرأة الشرطية في الجوازات، أو في الجمارك لتفتيش النساء، ونحو ذلك، بحيث تتعامل المرأة مع امرأة مثلها، بدلاً من أن تتعامل مع رجل.