بقلم/ عدنان أبو عامر
لم يكن قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الإعلان عن مراسيمه الخاصة بمواعيد الانتخابات بمختلف مستوياتها، بعيداً عن التداول الإسرائيلي، على اعتبار أن تأثيرات تلك الانتخابات التشريعية والرئاسية ستمس الساحة الإسرائيلية على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية.
تسارعت المواقف الإسرائيلية بالتدخل السافر للإدلاء بدلوها في شأن فلسطيني بحت، مما يعيد إلى الأذهان ذات المواقف التي أعلنتها في الدورة الانتخابية السابقة 2006، بإعلانها رفض مشاركة حماس في الانتخابات، فضلاً عن إمكانية عدم القبول بنتائجها اللاحقة في حال فازت الحركة فيها، إن لم تُبدِ جاهزية للتخلي عن طريقها في العمل المسلح، وهو ما لا تطرحه الحركة أساساً على طاولة النقاش، فضلاً عن المساومة!
لا يتردد الإسرائيليون بالقول إنه على الرغم من التوافق الحاصل بين فتح وحماس لإجراء الانتخابات، فإن إسرائيل لا يجب عليها الاكتفاء بذلك، بل عليها أن تشترط على أي طرف فلسطيني يشارك في الانتخابات ألا يسعى لتحقيق أهدافه بوسائل غير سلمية، سواء كان شخصاً أو تنظيمًا، وتقصد بذلك صراحة طريق المقاومة المسلحة التي تنتهجها حماس.
يستعيد الإسرائيليون في هذه الأيام الموقف الرافض لمشاركة حماس في الانتخابات السابقة، حتى نجح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بإقناع رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون بتمكين حماس من المشاركة في الانتخابات التشريعية لعام 2006، انطلاقاً من اعتقاد بوش بأن مشاركة حماس التي قاطعت انتخابات 1996 ستمنح شرعية لاتفاق أوسلو.
استطاع شارون آنذاك تمرير قرار إشراك حماس في الانتخابات من دون معارضة اليمين ومن دون دخول نقاش مع بوش، وفي النهاية جاءت نتيجتها للإسرائيليين إشكالية جداً، فقد فازت حماس بصورة جارفة، فيما لم تنجح فتح بتقديم قائمة موحدة في الانتخابات، وجاء فوز حماس مفاجئاً للجميع، حتى الحركة ذاتها تفاجأت من فوزها، مما جعل بوش غير مدرك لطبيعة التصرف إزاء فوزها، فيما وضع الاتحاد الأوروبي أربعة شروط أمامها، بينها التنصل من العمل المسلح، والاعتراف بالاتفاقيات الموقَّعة، لكن حماس لم تُبدِ التزاماً لها.
النتيجة بنظر الإسرائيليين وهم يرون استعدادات حماس للانخراط في انتخابات 2021 أنه بعد 15 عاماً من الانتخابات السابقة فإن معظم دول العالم التي لا تعترف بحماس تضطر إلى الحديث معها، لأنها تحولت إلى قوة سياسية ودستورية وعسكرية وازنة يصعب على أي طرف دولي دخول الساحة الفلسطينية بتجاوزها.
في تطورات الأسابيع الأخيرة لم تخفِ إسرائيل مفاجأتها بما وصفته "براغماتية" حماس اللافتة حين أعلنت موافقتها على كل شروط عباس لإجراء الانتخابات والتنازل عن مبدأ التوازي بإجرائها لصالح مبدأ التوالي كما دعا عباس دائماً، لأنها تتطلع للفوز فيها، على الرغم من الاعتقاد الإسرائيلي أن الأخير لم يدعُ لهذه الانتخابات إلا بعد تعرُّضه لضغوط كبيرة مارسها الاتحاد الأوروبي عليه، وصلت إلى حد التهديد بوقف دعمه للسلطة الفلسطينية.
قد لا نبالغ إن قلنا إن عباس وإسرائيل على حد سواء تأملا كثيراً أن تواصل حماس تمسُّكها بشروطها التي قد تشكل إعاقة لإجراء الانتخابات، لكن الحركة فاجأتهما معاً بسلوك براغماتي لافت، فحرمت عباس أي فرصة للتملص من الانتخابات وحملته مسؤولية أي عرقلة متوقعة، وفي الوقت ذاته أحرجت إسرائيل التي تخشى الوصول إلى سيناريو 2006 عقب إجراء الانتخابات وحصول حماس على شرعية سياسية.
يربط الإسرائيليون بين المرونة التي أبدتها حماس في التعاطي مع الانتخابات وثقتها بتحقيقها الفوز فيها، وعلاقته بهدفها الاستراتيجي بالسيطرة على الضفة الغربية، مما يجعلها توافق على التوصل إلى تهدئة مؤقتة مع إسرائيل في قطاع غزة من أجل التمكين لإجراء الانتخابات والفوز بها، وهو ما تخشاه إسرائيل لأن ذلك يعني تفوقاً استراتيجياً لحماس من مختلف النواحي: الفلسطينية المحلية والإقليمية والدولية.
تطلَّبت هذه المواقف الإسرائيلية أن تتداعى المؤسسات السياسية والأمنية للتعامل المبكر مع ما تصفها بـ"معضلة حماس"، فإسرائيل تعيش أزمة سياسية مستعصية، وبالتالي قد يصعب التعرف على السلوك الإجرائي للحكومة الإسرائيلية الحالية أو المقبلة تجاه الانتخابات الفلسطينية، لأنها ستجري وقد أعلنت نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقررة فيمار/آذار، فيما سيتوجه الفلسطينيون إلى صناديق الاقتراع في مايو/أيار، على الرغم من بقاء الكابوس الإسرائيلي الممثل بفوز حماس مجدداً، ليس فقط في الانتخابات التشريعية وإنما في الرئاسية أيضاً.
على الصعيد الميداني بدأت المخابرات الإسرائيلية بالضفة الغربية حملة إجراء للاتصالات الهاتفية مع عدد من المرشحين المحتملين للانتخابات التشريعية المقبلة ممن قد يترشحون على قوائم حماس، وطلب عدم الترشح منهم، وتهديدهم بأن موافقتهم تعني أنهم سيقضون السنوات الأربعة في المجلس التشريعي داخل السجون الإسرائيلية، تزامناً مع حملة اعتقالات نفَّذتها السلطة الفلسطينية ضد كوادر الحركة.
هذه الإجراءات الإسرائيلية تسلط الضوء على الحملة التي تشنها ضد حماس، لكنها قد لا تشكل دافعاً لتراجعها عن الانتخابات، وقد لا تساهم بخسارتها إن شاركت، لوجود قرار قيادي من أعلى مستويات الحركة بالمشاركة في الانتخابات بغض النظر عن الاستهدافات الإسرائيلية، لكنه في الوقت ذاته يطرح ما لدى الحركة من بدائل، مع أن أعضاء المجلس التشريعي من حماس دأبت إسرائيل على اعتقالهم خلال السنوات الماضية.
لا تزال حماس تحتفظ في ذاكرتها بحملة الاعتقالات التي شنتها إسرائيل بحق العشرات من كوادرها في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وشملت وزراء سابقين ونوّاباً في المجلس التشريعي وصحفيين وأكاديميين ونقابيين، مما اعتبرته حماس حملة منسّقة لحرمانها من المشاركة في الانتخابات المقبلة، مع أن تلك الحملات الأمنية الإسرائيلية التي استهدفت عشرات من كوادر حماس وقياداتها شملت نابلس وطولكرم ورام الله والبيرة والخليل وأريحا، وتخللها عشرات الاستدعاءات واقتحام وتفتيش للمنازل.
ليس سراً أن اعتقالات إسرائيل لقيادات وكوادر حماس بالضفة تهدف إلى إضعافها وإبعاد قياداتها عن الساحة السياسية والتأثير على الانتخابات المزمع عقدها وعلى نتائجها المتوقعة، فأغلب من يُعتقلون لا يشكلون خطراً حقيقياً على أمنها عملياتياً، لكنهم قد يشكلون نواة أفكار سياسية تؤثر في المجتمع الفلسطيني، مع أن قيادات حماس باتت لا تضطلع بأي عمل تنظيمي من كثرة الاعتقالات المتتالية عليها، لأن السلطة تقمع أي فاعلية تخرج نصرةً لها.
تطرح الاعتقالات المتزامنة من قبل إسرائيل لكوادر حماس تساؤلات حول توقيتها الذي يتوافق مع التحضيرات الفلسطينية لخوض الانتخابات، مما قد يهدف إلى حرمان الحركة المشاركة فيها، عبر تفريغ الضفة من كوادرها التي ستشارك في الحملة الانتخابية، وتخويف أي فلسطيني يريد الترشّح على قوائم حماس الانتخابية بأن مصيره سيكون الاعتقال من قبل إسرائيل أو السلطة الفلسطينية.
تعتبر حماس أن حملات الاعتقالات التي تشنّها إسرائيل ضدها تؤكد عقلية الإقصاء التي تحكم تصرفاتها، واستمراراً لوهم إمكانها اجتثاث وجودها، مع تخوُّف لدى حماس من إمكانية أن تصدر إسرائيل أحكاماً عسكرية بتحويل عدد من قادتها المعتقلين إلى الاعتقال الإداري لمدد تتراوح بين 4 و6 أشهر، مما يعني غيابهم عن الضفّة بحال بدء العملية الانتخابية، وقد يهدّد فرص حماس بالفوز، على الرغم من تفاؤل حماس بالفوز في ظلّ التشظّي الداخلي الذي تعيشه حركة فتح.
ومع ذلك يتوافق الفلسطينيون على أن الحملة الأمنية الإسرائيلية التي تستهدف حماس بالضفة من اعتقالات واستدعاءات وملاحقات، من شأنها تعكير أجوائها عشية الدعوة للانتخابات وزيادة التوتر الأمني مع وجود تقدير بأن تتوسّع حملة الاعتقالات لكوادر حماس، على الرغم من الهدوء الأمني السائد بالضفّة، لكن النظر بشخصيات المعتقلين يشير إلى وجود أهداف سياسية بحتة من اعتقالهم تتعلّق بالانتخابات وحرمان حماس من وجوه قيادية تقود حملتها الانتخابية المقبلة.
تتزامن هذه الحملة الأمنية الإسرائيلية مع تزايد الأصوات الإسرائيلية المطالبة بمنع حماس المشاركة في الانتخابات بزعم أنها تهديد لإسرائيل، واعتبار مشاركتها محظورة بموجب اتفاقيات أوسلو، ولعلها لن تسمح لحماس بهذه المشاركة، باعتقال مرشحيها ومنع إجراء الانتخابات وعدم فتح مراكز للاقتراع خشية أن تؤدي إلى تنامي نفوذ حماس في الضفة الغربية بسبب الضعف الذي تعانيه السلطة الفلسطينية.
أكثر من ذلك، تصل المخاوف الإسرائيلية إلى أن فوز حماس المتوقع في الانتخابات القادمة سيعزز قوة إيران وتركيا في المنطقة وزيادة تأثيرهما على الضفة الغربية، لذلك جاء تحذير الأردن ومصر مؤخراً لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من علاقته الجديدة مع حماس وتقاربه مع تركيا وقطر، وعلى هذه الخلفية أتت الزيارة المفاجئة لرئيسَي المخابرات الأردنية والمصرية إلى الرئيس الفلسطيني، مما يؤكد أن الانتخابات ليست شأناً فلسطينياً داخلياً، بل هي شأن إسرائيلي إقليمي وربما دولي بامتياز!