د. عبدالله السعافين
"صورة المشهد الفلسطيني الراهن الذي تخيم عليه حالة من الانقسام تعيد إلى الأذهان صورة الوضع الفلسطيني في نهايات الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1938-1939 حيث كان الصراع واضحا بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة التي كانت تتمثل آنذاك بما يسمى "فصائل السلام" التي جندها ومولها وسلحها الاحتلال البريطاني ودعمتها الحركة الصهيونية لمحاربة الثوار بغية إجهاض الثورة التي لم تتمكن قوات الاحتلال البريطاني من هزيمتها رغم الخسائر التي لحقت بها ولجوء قيادات لها إلى خارج فلسطين". هذه الفقرة وردت في كتاب:
(التاريخ المسكوت عنه: من فصائل السلام العميلة للاحتلال البريطاني إلى التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني) لمؤلفه محمد سعيد دلبح وقد كتبه قبل صفقة أو مؤامرة (الرجوب العاروري) الحالية التي ستنظم بموجبها انتخابات لسلطة أوسلو تحت حراب الاحتلال وبموافقته وتدخله المباشر.
لكن أخطر ما في الصفقة الحالية التي تنقاد لها حركة حماس استجابة لضغوط إقليمية ودولية ليس التقاء حماس وفتح على برنامج فتح الذي يتنازل عن 78% من فلسطين وحسب، وليس فقط الإقرار بالاحتلال كأمر واقع ومنحه صبغة "الاحتلال الديمقراطي"، ولكن تهميش واستبعاد الغالبية العظمى من الفلسطينيين من المشاركة في اختيار ممثليهم وقياداتهم السياسية وقصر ذلك فقط على ربع عدد الفلسطينيين أي فلسطينيي الضفة وقطاع غزة.
إن تواجد غالبية الشعب الفلسطيني في الخارج ليس للسياحة ولا اختياراً للمنفى، ولكن لأنهم اقتلعوا من أرضهم في أكبر عملية تطهير عرقي في العصر الحديث لإقامة دولة لليهود في فلسطين. وإن استبعادهم من المشاركة في أي عملية سياسية تتعلق بمستقبل وطنهم وقضيتهم والنيل من حقهم في العودة وتقرير المصير هو جريمة وطنية واستسلام كامل للمشروع الصهيوني وتمكينه من تحقيق أهم أهدافه، فضلاً عن مخالفة ذلك لنصوص المواثيق الفلسطينية المختلفة بما فيها ميثاق منظمة التحرير وميثاق حماس وتنكر للمبادئ التي قضى من أجل تثبيتها والدفاع عنها كل الشهداء والأسرى منذ بدايات القرن الماضي. فقد جاء في أول مواد الميثاق الوطني:
"الشعب الفلسطيني هو جزء من الأمة العربية، وهم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947 سواء من اُخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني".
إن تجاهل من اجتمعوا في القاهرة بدعوة من المخابرات المصرية لحوالي سبعة ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات هو مشاركة عملية وفعلية في شطب حق العودة الذي يمثل الركيزة الأولى من ركائز النضال الوطني الفلسطيني. كنا نتمنى أن يجعل المجتمعون في القاهرة اجتماعهم فرصة لأن يركز المجتمع الدولي اهتمامه على حقيقة أن قضية فلسطين لم تُحل بعد، وأن الشعب الفلسطيني لم يحصل بعد على حقوقه غير القابلة للتصرف وهي الحق في تقرير المصير دون تدخل خارجي، والحق في الاستقلال الوطني والسيادة، وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أُبعِدوا عنها، بدلاً من الحديث عن انتخابات لسلطة تعيش باعتراف رئيسها "تحت بساطير الاحتلال".
لقد ارتكب ممثلو تنظيمي حماس وفتح ومن دار في فلكهما من فصائل بعضها لا يزيد تعداد أعضائه عن بضع عشرات من المنتفعين، ارتكبوا فعلاً فاضحاً بتجديد شرعية رئيس السلطة الذي حارب المقاومة ولاحق المناضلين وتنازل عن فلسطين ويتفاخر بلقاءاته مع من يعتقلون ويعذبون ويقتلون أبناء الشعب الفلسطيني من قادة أجهزة أمن الاحتلال. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يعتبر فيها شعب مقهور انتخاب ممثلين له تحت سقف الاحتلال عملاً وطنياً وثورياً. لقد كانت بوصلة الشعوب المقهورة والمحتلة والمستعمرة على مر التاريخ هي مقاومة ومحاربة الاستعمار والاحتلال كمقدمة منطقية لانطلاق عملية بناء وطني يمارس الشعب فيها حريته في اختيار من يمثله. لقد اصطف شعب جنوب أفريقيا وراء نيلسون مانديلا كثائر في وجه التمييز العنصري، وليس كمطالب بسلطة تخضع في كل تفاصيلها لنظام الاحتلال والفصل العنصري.
لقد أنشأ الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة نظام حياة تحول الفلسطينيون بموجبه إلى متسولين على أبواب البنوك في نهاية كل شهر للحصول على الراتب الذي يخضع صرفه لإرادة الاحتلال الكاملة، وأوكل لأجهزة أمن السلطة ملاحقة واضطهاد المناضلين مقابل ميزات مالية وتسهيلات إدارية تختصرها بطاقة VIP لمن يؤدون عملهم على أكمل وجه في خدمة الاحتلال. وفي المقابل أدى الحصار المجرم الذي فرضه الاحتلال وسلطة فتح في الضفة وبعض الدول العربية فضلاً عن طريقة إدارة حماس لحياة الناس في قطاع غزة إلى تطلع ودعم فلسطينيي القطاع لأي تسوية أو صفقة من شأنها التخفيف من معاناتهم متعددة الأوجه وعلى رأسها الفقر والمنع من السفر والعلاج والتجارة. لكن الصفقة المذكورة لن تؤدي بالضرورة إلى إنهاء تلك المعاناة أو التخفيف منها، وما أعلنته مصر من فتح معبر رفح ليس إلا مكافأة مؤقتة لانخراط حماس في الصفقة، علماً أن فتح ورئيس السلطة في رام الله لم يتعهدوا بإعادة رواتب الغزيين المقطوعة أو التوقف عن حصارهم. لقد اتخذ الطرفان الرئيسيان في هذه الصفقة من مقولة (إنهاء الانقسام) ذريعة لعقدها، علماً بأن ما هو قائم ليس انقساماً بل انقلاب من أحد الأطراف (فتح) على نتائج انتخابات عام 2005 التي فاز فيها طرف آخر (حماس). إن ما يبعث على التفاؤل بأن هذه الصفقة الرديئة لن تنجح هو أن أطرافها لا تعرف شيئاً عن الديمقراطية ولا تؤمن إلا بالهيمنة واستبعاد الآخر. ولكن السبب الأهم في فشلها المتوقع سيكون ولا شك إسقاطها لرأي وموقف فلسطينيي الشتات الذين هم وفلسطينيو 1948 يشكلون الغالبية القابضة على جمر الحقوق الوطنية.