بقلم/ عطاف عليان
كبابٍ صدئ أحاول فتح جفنيّ، رأسي كصخرة سيزيف شخصية أسطورية أثقلت كاهلي، أشعر أنني فقدت السيطرة على جميع أعضاء جسدي، لا جفني يطيعني ولا ظهري أصبح سندي، ولا رأسي دليلي، بصعوبة شديدة استطعت شق جفنيّ عليّ أبصر ما حولي، عيون كثيرة من فوقي شكلت شبه دائرة، أطلقت أصواتًا أحاول فك رموزها، لقد استيقظت! هل يقصدونني؟! من هؤلاء؟! صوتٌ من بعيد، خذوها للعيادة لن نتحمل مسؤوليتها وأحضروا ورقة موقعة من الطبيب.
أحاول السؤال أين أنا، يخذلني لساني. قدميّ يلسعهما سوط برد كانون القاسي، لم أعد أشعر أنهما تنتميان إليّ، العيون التي حولي تحركت متفرقة، وسط سيل من الشتائم، أدركت أنني على حمالة افترشت أرض سيارة عسكرية وأن من حولي جنود مدججون بالسلاح. من أطراف الحمالة أخرجوني من السيارة، السماء ملبدة بالغيوم، على استحياء أطلت الشمس من خلف حواجزها الكثيفة، ما لبثت أن دفعتها كزوج غيور خلف غطائها، لحظات وأرى من قالوا عنه طبيب يشاركهم الشتائم،
-ماذا بها ال ش....
-أُغمي عليها وبقينا طيلة الليل ننتظر أن تستفيق، لقد رفض الضابط المناوب استلامها. "وكأنني بضاعة".
-يوجد جرح في رأسها؟
-هذا لا شيء وقعت ونحن نفتش بيتها.
بصعوبة شديدة حاولت استعادة ما سبق من أحداث، الأمطار كانت تهطل بغزارة، صرصرة الريح تختلج منها الأضلع، صليت وجلست أبتهل إلى الله، مر بخاطري حال إخواننا المطاردين، كثفت دعائي لهم، اللهم قهم برد الشتاء، اللهم مأواك لهم، ودعوت بأن يعين من تصلهم يد المغتصب في مثل هذه الأجواء. توسدت فراشي، وما أن غفت عيناي قليلًا حتى استفقت فزعة على قرعٍ شديد حجب قرع الرعد حتى أن كليهما اختلط علي، "افتخ جيش افتخ قبل ما نكسر باب". (وكما تقول أمي يا قاعدين يكفيكم شر الجايين).
ما أن فتحت الباب حتى تدفق سيل من كائنات متسربلة بلباس كثيف، كأنهم جراد منتشر، انتشروا في أرجاء البيت يعيثون فيه الفساد، أحدهم سألني عن اسمي. لم أجب.
-قلت لك ما اسمك؟ التزمت الصمت. ارتفعت وتيرة صوته صارخًا بعد أن مد يده دافعًا إياي: ما اسمك؟ يخيل إلى أنني وقعت على الطرف الخشبي للمقعد، هذا يعني أن الضربة كانت شديدة لدرجة أفقدتني الوعي وهذا يفسر ما أنا فيه الآن.
الورقة التي يريدون وقعها الطبيب دون أن يكبد نفسه عناء إجراء الفحوصات اللازمة، اضطر الجنود لحملي مرة أخرى، كون أشلائي ما زالت تخاصم بعضها بعضًا، سلكوا نفس المسار، حركت رأسي قليلًا لأرى غابة من الأسلاك الشائكة تحيط المكان، إذًا أنا رهن الاعتقال للمرة الثالثة!
لم تسلم أذناي من سيل الشتائم المتدفق من أفواههم لتعبر عن مدى سواد قلوبهم، وكأنها أصبحت تمثل جزءًا أصيلًا من شخصياتهم، دقائق معدودة وصلوا خلالها بابًا مكسوًا بالأسلاك الشائكة، قرعوا الجرس، صوت ليس بالبعيد يصرخ أن انتظروا، ألقوا الحمالة على الأرض، سمعت خلالها صوت قرقعة عظام ظهري وكأن روحي خرجت من مكانها، لا يكفيهم أنهم كانوا سببًا فيما وصلت إليه، بل يحاولون الانتقام مني، جندي يحمل بندقية مصوبة تجاهي فتح الباب، استلم الورقة، طلب منهم إدخالي بعد أن ضم صوته لأصواتهم في حفل الشتائم، درجات قليلة ربما عددها ثلاث أو أربع نزلوها، ثم صالة متوسطة السعة على أحد جوانبها "كاونتر" تجلس خلفه مجندة طلبت منهم إدخالي إلى زنزانة بابها يلاصق مكان جلوسها، فرشة على الأرض، من الحمالة ألقوني عليها لتكتمل مسرحية التكسير، ثم خرجوا وأغلقوا بقسوة شديدة تأوه منها الباب، أصواتهم البغيضة ما فتئت أن تلاشت معلنةً انتهاء مهمتهم.
أظن أنني في معسكر جيش، لباسهم، وحملهم السلاح يدلل على ذلك، المعتقلات التابعة للشرطة طقوسها تختلف عن ذلك، المعسكر القريب من بيت لحم يقع جنوبها في بلدة عتصيون وهو المكان المخصص لإفراغ الحمولات التي يصطادها جنود الاحتلال خلال مداهماتهم الليلية سواء من بيت لحم أو الخليل وما يحيطهما، وفيه يتم الفرز للأسرى، فمنهم من ينقل لمركز التحقيق (المسكوبية) في القدس ومنهم من يحول لمعتقل عوفر غرب رام الله تحت مسمى الاعتقال الإداري، كل ذلك يتم حسب توصيات جهاز المخابرات الظالم أهله.
إذًا أنا في معسكر عتصيون! لكن لماذا يتم اعتقالي؟!
صوت موسيقي تعزفه حبات المطر المتلاطمة، تزداد سرعة إيقاعها ويزداد ابتهالي لإخوة فرضت عليهم كرامتهم ونخوتهم وإيمانهم بعدالة قضيتهم أن يقاوموا ظلمًا عنوانه الاحتلال، إخوة ازداد عددهم في ظل انتفاضة الأقصى، آثروا أن تكون الجبال والكهوف مأوى لهم، لم يرحم الاحتلال البيوت التي كانت تؤيهم فقاموا بهدمها، العيون التي باعت نفسها تلاحقهم وترصد أماكنهم، وما لي حيلة إلا الدعاء لهم، مع كل زخة مطر أغلفها بزخة من دعاء، من يدري لعل دعائي في شدتي يكون فرصة للإجابة.
كمن لدغته أفعى ارتجف جسمي، أمي كيف أنت الآن؟ لابد أن قلبك انخلع من مكانه، كما خلعوني من بينكم، من يطمئنك ويطبطب على قلبك؟ من يُسر لك أنني ما زلت على قيد الحياة؟ انطلق لساني صارخًا أريد التحدث مع والدتي، ترد المجندة بصراخ أعلى أن اخرسي، كيف أهدأ وأمي تظن أنني ربما فارقت الحياة، صوت أقدامها يقترب، فتحت باب الفتحة الصغيرة أعلى الباب وأطلت بوجه رسمت عليه خطوط السخط والغضب قائلة: إن شاء الله تموتي، لم يسعني إلا الابتسام والرد عليها: جمعًا.
طرقت باب الفتحة ولسانها يضرب بسوط الشتائم، لم يمض وقت طويل، أصوات هرج ومرج، بساطير تهز المكان، باب الزنزانة يفتح، أحدهم اقترب مني، ركع أمامي وشدني بقسوة.
-كيف تهددينها بالقتل، وبعمل عملية انتحارية؟
تبسمت بسخرية. عندنا نرد دعاء من يدعو لنا بدعاء مثله، دعت لي إن شاء الله تموتي، ودعوت لها جمعًا، تراخت قبضته، قال ضاحكًا: ماذا كنت تريدين منها؟
-أريد أن أُطمئن والدتي أنني بخير، فاجأني بطلبه: أعطيني رقم هاتف بيتكم، زودته به، خرج من الزنزانة وزبانيته، عيون المجندة تقدح غضبًا، لا تغلقي الباب، صرخ بها الضابط، سمعته يقول آلو، بيت عطاف، عطاف وضعها جيد، في عتصيون. لا أاستطيع. مع السلامة. أغلق الهاتف، خطواته تقترب.
قال: أمك تسلم عليك.
-شكرًا لاتصالك، كنت أود سماع صوتها.
- غير ممكن.
نصف الكأس مملوء خير منه فارغًا هدهدتني نفسي، أغلقت المجندة الباب وهي تتمتم كمان تلفون كمان، وأنا أغلقت عينيّ لعلي أجد بعضًا من الراحة. هذا العام كان مليئًا بالأحداث الجميلة، أتممت الأربعين من عمري، حصلت على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع وعلم النفس، كان جميلًا أن ألبس عباءة التخرج، وأسير في كوكبة الناجحين، أسمع زغاريد الأمهات وفرحتهن، لهذه الفرحة مذاق خاص للخريجين، وأنا لي مذاقي الخاص، فلم يمنعني عمري من مواصلة العلم، ولم تمنعني السنوات العشر التي قضيتها في الأسر من إكمال مسيرة الحياة، بل زادت من لهيب العطاء، دشنت افتتاح مدرسة أسميتها النقاء، خرجت للنور ابنة أخي، كنت أول من سمع صوت صراخها، حبها شد تلابيب قلبي أسميتها فاطمة الزهراء تيمنًا بابنة الرسول عليه السلام ووريثة لاسم جدتها، وأنا أحسن ظني بربي لابد أن اعتقالي في خاتمة عام 2002م جاء امتحانًا لي أأشكر أم أكفر؛ لأنجح إذًا فيه فيكون صبرًا وشكرًا، إلهي لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
رويدًا رويدًا بدأت أحرك رأسي المثقل بالألم، حاولت الاتكاء على ذراعي لعلي أستطيع الجلوس، قواي ما زالت خائرة، عليَّ مقاومة ضعفي، لن أسلم نفسي لعدو لا يرحم، لا أدري ماذا تخبئ لي الأيام القادمة، أشعر بالغثيان وزغللة في عيني، أخيرًا استطعت الجلوس متكئة على حائط الزنزانة صافعًا إياي ببرودته، أغمضت عيني وفتحتهما، رأسي ما زال يدور، أقاوم نفسي من التقيؤ، جلت بنظري الضعيف، الزنزانة أقرب إلى المربع، عارية سوى من الفراش الذي أجلس عليه، لا ماء ولا مكان لقضاء الحاجة، تعلوها شبه نافذة تكرمت علي بإدخال بعض من ضوء النهار، حالة الصخب لم تهدأ منذ دخولي المقصورة _هكذا أطلقت على زنزانتي كما أطلقت سابقًا على زنازين (المسكوبية) رغم أن الفارق كبير بينهما، هناك توضع في عزلة تامة، لم أكن أسمع صوتًا ولم أستطع التمييز بين ولوج النهار وأفول الليل.
أصغيت لعلي أدرك ما يدور حولي، ابتسامة دغدغت شفتي، لعلي أعشق بالسمع ما عشقه معلم في إحدى قصص الجاحظ في كتابه البخلاء، سمع شعرًا فتعلق بالموصوفة، ثم بكى عندما سمع شعرًا ينعاها، فإذا هي حمارة.
جرس البوابة الخارجية لا يتوقف إزعاجه، يُفتح. يُغلق. يعبر منه العابرون ويغادره آخرون، يتملكني الفضول، وأكتم الأنفاس مع كل حركة أسمعها، أسمع أصواتًا تتحدث باللغة العربية، أحدهم ينادي السجان كي يعطيه سيجارة، آخر يطلب ولعة، من مكان يوحي أنه قريب من زنزانتي صوت يطالب بإخراجه لقضاء حاجته، لابد أنهم معتقلون، السجان تجاهل نداءاتهم، ازدادت وتيرة أصواتهم حدة معلنة عن غضبهم ورفضهم التجاهل وسياسة التركيع، طرقات قوية على الأبواب زلزلت المكان، وحناجر اتحدت بنداء واحد، جعلته يهب فزعًا، صوت أقدامه اقترب من الزنزانة القريبة. فتح الباب وأخرج أحدهم، أظنه الذي كان يطالب بقضاء حاجته، ومن بعيد سمعت صدى صوته وكأنه في بئر يستجيب لطلباتهم.
ترى كيف هي خارطة القسم؟ لابد أن هناك زنازين كثيرة، وبرغم الأبواب الموصدة إلا أنني أحسست بالأنس فأنا لست وحدي، الأنفاس القوية تؤنسني، الآلام تجتاح جسدي، لابد أنه أخذ نصيبه من غلاظة بساطيرهم، آلام عايشتها في الاعتقال الأول، كان موعد محكمة في رام الله، أحد ضباط المخابرات كان مسئولًا عن منطقة بيت لحم (جاك)، دميم الوجه لكثرة البثور المنتشرة عليه، كنت حينها أقبع في سجن الرملة النسائي (نفي ترتسا)، استلمني من السجن، أدخلني الجيب المصفح، رماني على أرضه، كمم فمي بقطعة قماش قذرة تنبعث منها رائحة السولار، وعصَّب عيني بقطعة مماثلة بعد أن كان قد كبل يدي خلف ظهري وشد الأغلال على رجلي. تحركت السيارة وتحرك بسطاره راسمًا علامات الموت على جسدي، حينها شكوته للقاضي، فما كان منه إلا أن أخذني إلى مقر شرطة رام الله، قام هو وعدد ممن في المركز بضربي حتى سالت الدماء من جسدي، أعادني للسجن جثة هامدة، السواعد الضاربة مصطلح أطلق على الشباب الثائر في الانتفاضة الأولى عام 1987م بعد أن انتشر الخبر في إذاعة القدس، أطفأت نار قلبي عندما قامت بقنصه، كانت الانتفاضة في أوجها، ساد فيها حديث الرسول عليه السلام: "المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا"، وأنا عليَّ أن أشد بعضي بعضًا، بدأت أحرك ذراعي للأعلى ورجلي، ورقبتي، نهضت على قدمي بعد محاولات عديدة، الأرضية باردة، اكتشفت أنني بدون حذاء وبدون نقاب، اكتشفت أن الغطاء كان من البيت، لابد أن والدتي قد دثرتني به، أمي هذه اللبؤة التي تظهر قوتها في الزمان المناسب، طيفها يربط على قلبي ويهمس لي أن اصبري وتصبري ولا تجزعي، خجلت منها. بدأت أجوب الزنزانة الضيقة مستعينة بحائطها، استطعت إعادة فرض السيطرة على جسدي رغم الدوار الذي ما زال يلازمني، زاحمني البول، طرقت الباب طالبةً الخروج لقضاء حاجتي، الفرصة أتيحت للمجندة لتضرب بسوط حقدها، (مفيش حمام)، إذن اقضيها على أرض الزنزانة، تجاهلت ما قلت، انتظرت ربما ما يربو عن الساعة، كررت طلبي، لم تغير إجابتها. بجانب الباب قضيت حاجتي، لم يخذلني السيل الذي عرف طريقه للخارج، ومن المؤكد أنه أصابها ما أصابها، فصراخها اللاواعي وقدماها اللتان اقتربتا من الباب تنبئان عن ذلك، فتحت الطاقة وصرخت:
- أنت مجنونة؟
- لا المجنون من اضطرني إلى ذلك.
زخات قوية من المطر استطعت رؤية بعض من قطراتها خلال النافذة، وكأنها تحثني للابتهال لخالقها وخالقي، فمن لي سواه؟ اللهم رب السموات والأرض إني فوضت أمري إليك، واستعنت بك، يرضيني ما رضيته لي، اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك، أعني على اجتياز هذا البلاء كما تحب وترضى، اللهم اربط على قلب والدتي، الدعاء بلسم للقلوب الحائرة، للقلوب المجروحة، وخير رفيق للقلوب المأسورة، أشيع الدفء والسكينة في قلبي.
الجرس يرن وصوت ينادي أن استلموا الأكل، أقدام المجند تبتعد، صوت الباب يفتح، أقدام أخرى تقترب، الأواني تعانق الأرض، أقدام تبتعد ويغلق الباب، أرهقتني حالة تتبع الأصوات وتحليلها ورسم صورة لكل منها عليَّ آخذ قسطًا من الراحة لمواجهة المجهول.
صوت الأذان قادمًا من بعيد أيقظ إحساسي من جديد، لابد أنه آتٍ من بلدة بيت أمر فهي النقطة الأقرب، وقول الله أكبر الله أكبر إلى القلب أقرب. نعم ربي أنت الأكبر والأكبر والأكبر، من كان إلهه الأكبر فمما يخاف؟! لا ماء عندي، ضربت على الحائط بيديّ، مسحت وجهي تيممًا، يممت وجهي لوجهه ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115]، عقدت نية صلاة الظهر كون الدلائل تشير إليها، صليت جالسة، دعوت ما شاء الله لي أن أدعو، أسررت إليه همي، وشكوت إليه بثي وحزني، جثوت على أعتابه وألقيت حمولتي التي أثقلت كاهلي على بابه. للعبادة في الشدة مذاق خاص، استشعرت قربه الحبيب مني وتوجه كلي إليه، استشعرت معيته، استشعرت يديه تهدهد قلبي، نعم ربي أنت الأكبر أنت الأقرب.
ما بين تسليم الطعام وصوت المجند الذي ينادي على أحدهم أن يجهز لتوزيعه ربما كان يربو على الساعتين، المجندة فتحت باب زنزانتي ودفعت بالصحن إليّ، صحن أرز ليس من معناه سوى اسمه، ربما الأصح أن تطلق عليه عجينة الأرز، وقطعة لحم صغيره ربما لو رميتها لكلب جائع لعافها، ما ظنك بطعام بقي يتدفأ على نار البرد القارص؟ أزحته بعيدًا وتدثرت بالغطاء علي أشبع من رائحة أمي، طلبت ماءً للشرب، السجانة لم تستجب وأنا لم ألح في الطلب.
هدأت الأصوات وكأنها في قيلولة، استرخى سمعي واسترخى جسدي، غفوت واستسلمت لحضن أمي متمثلًا بدثارها، أمي! لابد أنها كعادتها تخفي دمعها وحزنها رغم تحطم قلبها، أعرفها لابد أنها قامت وصنعت الطعام وهدأت من روع إخوتي وشدت من عزيمتهم، أنظر إليها وهي تقول لهم أنا لا أخاف على عطاف فهي قوية وستخرج قوية، أعلم أنها تواسي قلبها قبل أن تواسيهم، أعلم أنها ما أن ينفضوا من حولها ستطلق العنان لدموعها.
صور كثيرة تزاحم بعضها، لا أنسى اليوم الذي اجتاحت فيه دبابات الاحتلال بيت لحم ومحيطها، كان ذلك بداية نيسان عام 2002م، هذا الشهر الذي تزهر فيه الحياة وتجدد نفسها، حولَّه الاحتلال إلى شهر دماء ودمار، كنت ومجلس إدارة مركز نقاء الدوحة الجراحي قد قررنا إعلان حالة الطوارئ، في ظل التهديدات باجتياح المدينة، وكان قد سبقها اجتياح لمدينة رام الله وحصار مقر الرئيس ياسر عرفات، المقاومون تجمعوا في ساحة باب الدير لتكون كنيسة المهد النقطة الأقرب للاحتماء بها ظنًا منهم أن العدو الصهيوني لن ينتهك قدسيتها، كخلية نحل وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة كنا نعمل في المركز، المحطات المحلية تصدرت شاشات التلفاز، ترصد كل شاردة وواردة، فالكل من جهته انقلب إلى مراسل ميداني ينقل ما حوله من أحداث، نوافذ المركز تطل على شارع القدس الخليل، يقابله مدخل مخيم الدهيشة الرئيسي، الهدوء يخيم على المكان والكل يترقب، فجأة بدأنا نسمع أصوات اهتزازات قادمة من جهة قرية الخضر، فتحت النافذة أستطلع الخبر، إنه صوت جرافة! ماذا تفعل في الساعة الثانية من الفجر؟! لم يطل الرد، خمس وأربعون دبابة (قمت بعدها) استهلتها جرافة عسكرية عملت على تجريف الشارع، وكأنها تقول للفلسطيني هذه الأموال التي تبرعت بها الدول المانحة للبنى التحتية نبعثرها أمام عينيك، لن نعطيك فرصة لتكسب شيئًا من عملية السلام المزعومة، الدبابات كما سيدها شارون (رئيس وزراء الدولة المزعومة) كانت تدوس كل شيء أمامها، داست السيارات وحولتها حطامًا، ولم تتورع عن دوس عدد من المواطنين الذين رمت بهم أقدارهم أمامها، الأوامر بإطلاق النار في كل اتجاه كان مطلقًا، أحدهم انتبه إلى وجودي عند النافذة صوب رشاشه المنصوب على الدبابة نحوي، استغرق المشهد أقل من طرفة عين ما بين ابتعادي عن النافذة وزخة الرصاص التي حولت المكتب إلى دمار، رحم الله أبا إبراهيم الدكتور فتحي الشقاقي كان دائمًا يردد مما نخاف وحارس الموت الأجل، نعم لقد كان حارسي من الموت هو الأجل، فمن يرَ الدمار، لن يظن أن من كان فيه قد نجا.
مجموعة كبيرة من الجنود نزلوا عند مدخل المخيم، اقتحموا البيت المقابل لنا، أخلوا الطابق الثاني من ساكنيه "البيت بيت أبونا وأجو الغربا يطحونا". حولوه إلى ثكنة عسكرية، نصبوا رشاشاتهم على نوافذه في جميع الاتجاهات، المحطات المحلية التي تمترس حولها الناس تبث تحركات العدو وتحدد مساراته، مشهد الجرافات وأرتال الدبابات يتكرر في مداخل المدينة الأخرى، من جهة بيت جالا، بيت ساحور، مدخل قبة راحيل، ترى هل تحتاج مدينة كبيت لحم وحفنة من المقاومين إلى هذه الأعداد الهائلة من الدبابات وما تقله من جنود؟ إنها "بلافرا" الإعلام. لقد أوهم الاحتلال الصهيوني العالم بأنه يقاتل دولة مجاورة له بدعوى اجتثاث جذور الإرهاب فيها بعد أن هيئوا الأسباب لارتكاب جرائمهم، فلم يكن اقتحام المسجد الأقصى من قبل شارون وزبانيته إلا مدخلًا من مداخله الشيطانية بعد أن استفز مشاعر الناس لإعلان حرب غير متكافئة، سلاحه العتاد العسكري بكل أشكاله، وعتادنا حمل أرواحنا على أكفنا؛ لتشكل قنابل موقوتة تكسر جبروت هذا المحتل المغتر بقوته.
أرادوا فرض سطوتهم، اقتحموا المنازل وساقوا شبابها كما يسوق الراعي القطيع، مشهد خبرته بأم عيني من نافذة المركز، أعداد كبيرة من شباب المخيم وشيبها مربوطي الأيدي بخيوط بلاستيكية معصبي الأعين بخرق مخططة، صفوف طويلة يتقدمها جنود الظلم والظلام والأسرى يسيرون بخطوات متعثرة وسط بنادق تضربهم بكعوبها تستعجلهم المسير، وسط الخوف والرجاء انسل أحد الشباب هاربًا في أحد أزقة المخيم.
لم يسلم بيتنا من الفساد الذي بثوه في المدينة، ولم يسلم إخوتي من الاعتقال، بعد مضي يومين في معسكر عتصيون أطلق سراحهم، حاملين معهم رسالة شفوية تحمل في طياتها تهديدًا باعتقالي وأنني مهما هربت، فسوف يلقون القبض علي لإغلاق ملفات كثيرة مفتوحة، لم أختبئ كما يدعون، ولم أعتبر نفسي مطاردة، تابعت عملي في المركز وفي استقبال المرضى مع الطاقم الطبي.
عادت الأصوات سيدة المكان، وعادت أذناي لمهمتهما، لابد أنه صوت شاحنة عسكرية تتوقف، ثم صوت الجرس، تتكرر الصورة، باب يفتح، باب يغلق، أقدام تقترب محدثة ضجة، أصوات أغلال، فهمت من حديث أحدهم أنهم قادمون من محكمة بيت ايل، عدت للاسترخاء وعادت الصور تتزاحم مرة أخرى، صورة والدتي التي كانت تجهز كميات من الطعام ترسله لجميع من في المركز، طعام بهاراته التسبيح والاستغفار ونكهة دعائها المميز "نور وسرور على قلوبكم". لم تمنعها خطورة الطريق من إرسال أبنائها لحمل الإمدادات وإيصالها للمركز، المقاومة جزء من تركيبتها فهي أم الشهيد وأخت الشهيد وهي تربت على قصص المقاومة الحية التي رأتها في أخوالها وزوجها.
ها هم قد أطبقوا الحصار على كنيسة المهد ومن فيها، لم يراعوا حرمتها، قنصوا كل من رصدته كاميرا التجسس المحمولة في بالون أبيض محلق في فضائها، فرضوا حظر التجوال على المدينة وما حولها لفترة استمرت أربعين يومًا، رائحة الموت فاحت في كل مكان، لم يسلم الآمنون في بيوتهم من ضلالة سلاحهم، فها هي امرأة عجوز وولدها قد استشهدا بزخات رصاصهم الملعون في يوم القيامة وهم في عقر دارهم.
الليل أرخى سدوله، هذا ما أعلمتني به نافذة الزنزانة، تيممت، ووجهت وجهي للصلاة، في ظل أبواب ودروب الاحتلال المغلقة فتح لي ربي بابه، وأطلق لساني وقلبي في رحابه. ربي إني قد وجهت وجهي إليك أسألك الثبات، ربنا افرغ علينا صبرًا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم أنت الرفيق حين ينفض عنا الخلان، وأنت المؤنس حين نستوحش الطريق، اللهم إنك أكبر من أن تقاس أو تدركك عقول الناس، ولكن بكرمك قلت وقولك الحق لم تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن، اللهم لا أعلم إن كنت مؤمنة كما يجب، ولكن أعلم أنني أحبك واستشعر معيتك، وأطمئن بها، فارض عني وارضني، اللهم اربط على قلب أمي كما ربطت على قلب أم موسى، اللهم إني أسألك أن تحفظ إخواننا المجاهدين، كن لهم رفيقًا ومعينًا، كن معهم ولا تكن عليهم، أسدل عليهم ستار رحمتك وخذ أبصار أعدائهم عنهم، ربي خرجوا لا يبتغون سواك فلا تردهم خائبين، اللهم صل على حبيبك وأكرمنا صحبته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يا الله! يا الله! يا الله!
تلذذت بالدعوات ولامست الطمأنينة قلبي، انتزعت سياج الخوف الذي أراد العدو لفه حولي.
ربي لا أعلم ماذا يحمل غدي، لكن احتسب خطواتي وأنفاسي لوجهك، فلا تطردني من ظل رحمتك.
فتحت السجانة طاقة الباب، نادت: تعالي خذي الأكل، لا جواب عندي فأنا بين يدي ربي، صليت ما شاء الله لي أن أصلي، تذللت بين يديه وأنخت إلى جناب بابه، تسربلت بثوب رحمته، ثم سلمت عن يميني وعن شمالي.
- ماذا تفعلين؟ فاجأتني المجندة بسؤالها كنت ظننتها قد ذهبت.
- أصلي صلاة المغرب.
- ماذا يعني ذلك؟
- يعني أصلي لله. "لم تكن نفس المجندة التي شاكلتني صباحًا، يخيل إلى أنها من أصل روسي".
نحن نصلي خمس صلوات في اليوم، لا نتركها أينما كنا، نشحن أرواحنا التي نفخها الله من روحه في آدم عليه السلام، نعبئ البطارية بهذه المحطات الخمس. "لم يكن الحديث معها سهلًا كونها لا تتقن اللغة العبرية أيضًا".
أنت من المهاجرين الروس؟ سألتها. ردت بالإيجاب.
- يهودية أم مسيحية؟
ارتبكت قليلًا، ثم أجابت: يهودية.
قلت لها: عام 1992م قامت إدارة السجن بعزلي إلى مركز توقيف الجلمة "في حيفا" مع الجنائيات، التقيت بسجينة من أوكرانيا، كانت تسألني كثيرًا عن صلاتي، اعترفت لي أنها مسيحية، ولكنها ادعت أنها يهودية كي تهرب من ظلم روسيا، استغلت عدم كتابة الديانة في بطاقتها.
-أنت تكرهين اليهود؟ غيرت دفة الحديث.
-أنا أكره الظلم، الاحتلال ظلم كبير، الاحتلال ليس اليهود فقط بل يشمل من مهد لهم الطريق، بريطانيا ساهمت في ذلك، واليوم أمريكا، أنتم في الاتحاد السوفيتي كنتم تدعمون القضية الفلسطينية وتدعمون ثوارها، لكن بهجرتكم دمرتم كل شيء، أصبحتم عونًا للظلم.
-نحن جئنا للأرض التي وعدنا الله بها.
-(لسه إلك في القصر من أمبارح العصر) علقت ضاحكة.
-"شو يعني?"
-يعني هل تعرفين الله؟ هل مارست طقوس الديانة اليهودية؟
-لا، أنا لا أومن بالدين؟
-إذا كيف تؤمنين بوعد من لا تؤمنين به؟!
جرس الإزعاج يرن، وضعت صحنًا على الطاقة، قالت سأعود لك مرة أخرى.
استندت على الحائط، استطعت الوصول للطعام، أظن أن آلام جسدي قد خفت وطأتها، رأسي ما زال يحبسه الألم، الصحن يحوي ملعقة لبنة وشريحتي خبز، حملته وعدت للفراش، عادت المجندة لتكمل حديثها.
-أنا لا أشعر بوجود الله، فكيف أؤمن به؟
قلت لها: هذه مشكلتك، ولكني أشعر بوجوده في كل شيء، شريحة الخبز تلك أشعر به فيها، أشعر به في يدي التي تمسك الخبز وبأصابعي التي تناولت بها لقمة اللبنة، يملؤني وجوده في الشفتين التي التقمتاها، بأسناني التي قطعتها، بلساني الذي حركها ورطبها وهيأها للبلع، ببلعومي الذي استقبلها، بالمريء الذي أنزلها بهدوء إلى المعدة، كل حركة واكبت اللقمة ختمت بختم وجوده، فكيف لا أشعر بوجوده؟
- لكن أنا أنظر إلى الموضوع بشكل عادي.
-عندما تفقدين قدرتك على الأكل، هل سيكون عاديًا؟! جربي أن تنظري إليه بطريقتي.
-طيب هل الله يطلب منكم تكونوا مخربين وتقتلوا وتفجروا حالكم؟
-وهل الإنسانية تطلب منكم استلاب أرض غير أرضكم، تهجِّروا أصحابها، ثم تستقطبوا آخرين كي يسكنوها كما حدث معك؟ جئت من بلاد بعيدة.
-كيف بتقدروا تفجروا حالكم؟!
-الأوكرانية التي التقيتها في الجلمة حدثتني عن صديق لها، كان قد ذهب ليقاتل في أفغانستان مع الجيش السوفيتي، قالت إن الحكومة ضحكت عليهم عندما أوهمتهم أنهم ذاهبون إلى بلاد متخلفة بقصد مساعدتهم على التقدم والتعلم والعيش بسعادة. حدثتني عن صديقها الذي تفاخر بما فعله مع أصدقائه في الجيش مع مواطن أفغاني كان أسيرًا لديهم، فقئوا عينيه بأسياخ الشواء، قطعوا يديه ثم أذنيه، ثم لسانه ثم قاموا بقتله. قالت لي أن ما أخبرها به صديقها كان سببًا في تغيير نظرتها اتجاه الحرب، فمن يفقد إنسانيته لا يستطيع أن يكون رسولًا للخير، وأنها تنبأت أن ذلك سيعود عليهم بالويل. قالت أيضًا إنها شهدت جنودًا عادوا من أفغانستان وقد تحولوا إلى مافيات دمرت أمن السوفيت. وقالت إن صمود الأفغاني دلها على حقيقة الظلم الذي ستكوي نيرانه بلادكم.
- نعم هذا ما شهدته أيضًا في بلادي. عقبت السجانة.
أكملت حديثي: تأكدي أن ما أجبر الفلسطيني على الاستشهاد هو حجم الظلم الذي وقع عليه، العمليات الاستشهادية، ما هي إلا نوع من أنواع الأسلحة التي استعملها أمام همجية الاحتلال، من أجل إعادة حقوقه المسلوبة.
- ولكن بإمكانكم أن تعيشوا بسلام.
- لابد أنه سلام شارون الذي تغنى به في دعايته الانتخابية، قلت ضاحكة. هل تعلمين؟ هناك عدد من الفلسطينيين لا هم لهم سوى أنفسهم، لا يقارعون الاحتلال، ولكن هل تركهم شرره؟
يكفي أن يذهب المرء من بيت لحم لرام الله لتذيقه الحواجز المنصوبة بأيديكم الذل والمهانة.
فجأة، وجهت الحديث لوجهة أخرى:
-هل تعلمي أنه مختوم على ملفك بالأحمر وأنك خطيرة جدًا؟
-ضحكت، أعلم ذلك. فكلما نقلت من سجن إلى آخر كنت أسمع نفس الملحوظة، وعلى أثرها يتم اتخاذ إجراءات مشددة في التعامل معي.
-وهل أنت خطيرة فعلًا؟
اكتفيت بابتسامة، قلت لها: أريد ماء، فمنذ الصباح لم أحصل على شربة ماء.
قالت: سأبحث لك عن قنينة أحضر بها الماء.
أغلقت المجندة نافذة الباب، لم أمنِ نفسي بالحصول على الماء، فمثل هكذا نقاش غالبًا ما يتم ترتيبه من قبل المخابرات، هم يسعون للحصول على معلومات قبل أن تبدأ جولات التحقيق ويسعون لتغيير وجهة نظرنا تجاههم، فكما يسعون لتغيير وجهة نظرنا تجاه الاحتلال، علينا أن نسعى لتغيير وجهة نظرهم تجاه المقاومة. مقاطع مبعثرة من قصيدة أحمد مطر خرجت من عالم اللاواعي: "لا تهاجر.. أنت مقتول على كل المحاور.. كل ما حولك غادر.. لا تدع نفسك تدري بنواياك الدفينة.. وعلى نفسك من نفسك حاذر".
أذان العشاء القادم من بعيد امتزج بصوت حبات المطر التي تخر راكعة لجلال عظمته، كلاهما أحدثا جرسًا تراقصت عليه دقات قلبي وارتعشت مسامات جلدي، كم كان اليوم طويلًا، لو سابقته السلحفاة لسبقته وفازت عليه، يزداد الإحساس رهافة لكل همسة وكل حركة، ويزداد تلمسه لشفاء ما في الصدور، عجلة الحياة في الخارج تصنع حاجزًا من الرين على قلوبنا، تفقدنا نسبة كبيرة من دقة إحساسه.
لم تعد السجانة بالماء، كنت أعلم ذلك.
إذا لأصلِّ العشاء لعلي أستطيع سرقة بعض الراحة، استعدادًا للقادم. توجهت لبابه، أرحنا بها يا بلال، ما أجملك حبيبي سيدي أبا القاسم لم أفهم مشاعر الراحة التي تحدثت عنها، الآن وفي لهيب المصيبة فهمت مما تحدثت به، كنت أصلي كل يوم، لم أجد الراحة فيها كما الآن، آه سيدي، هل كانت كل أوقاتك دربًا من الآلام فاختار ربك أن تبني استراحتك في الصلاة، أرحنا بها يا بلال ونحن لم نذق شيئًا مما ذاقه الحبيب، حبيبي يا رسول الله حق لك أن تعيش الآلام ففيها اللحظة الأقرب إليه سبحانه، وهل هناك من هو أحب إليه سبحانه منك؟ إلهي وسيدي ومولاي هل تفتح لي فرجة من بابك بصبري حبا فيك؟ هل ستنظر إلي بعين رحمتك وأنا المفتقرة إليك؟ أتوسل بك إليك أن ترضى عني ولا تطردني من على باب رحمتك، تيممت، صليت، وتوسدت الفراش، شممت رائحة الدثار وسمعت دعاء أمي يسبق دعائي إليه، بكيت. فرحت. ونمت.
أصوات صراخ وشتائم، أقدام كثيرة أسمع وقعها على الأرض الخاوية كاشفة الأسرار، لابد أن هناك وجبة جديدة حصل عليها خفافيش الليل، كم من الليل مضى؟ لابد أنه تعدى منتصفه، هكذا تعودنا عليهم، صوت طفولي يرد على سؤال الجندي اسمي محمد، عمري عشر سنوات، من الخضر، حسبنا الله فيهم، كيف سولت لهم أنفسهم باختطافه من حضن والديه؟ ماذا سيكون حال أمه؟ هل ستستطيع التصالح مع فراشها؟! هل ستطيق روحها جدران بيتها؟! ماذا فعل هذا الطفل ليستحق إفزاع غفوته، وسلب دفئه؟! تمنيت لو أستطيع احتضانه لعلي أزيل برد كانون عن قلبه. اقتربت من الباب لعلي أمده ببعض السكينة كما أحيا فيّ الأمومة النائمة، صرخت أريد ماء لم أشرب منذ الصباح، كنت أعلم أنه لن يستجيب لي فلم يكن الماء وجهتي، بدأ يصرخ ويشتم وأنا لا اتوقف عن الطرق على الباب، أريد ماء، الله معك حبيبي، أريد ماء، أنت بطل حبيبي، أريد ماء، أبناؤنا كبروا قبل أوانهم، أريد ماء، هؤلاء جبناء، أريد ماء.
نفد صبر أحد الجنود، فتح طاقة الباب (مفيش مي سكري تمك، روحي نامي يا بنت ز.. يا...).
لم تفشل محاولتي، رأيت طفلي الصغير، الأسمر. عيناه عينا عقاب أذبلهما النعاس، كان ينظر إلى ناحيتي وكأنه يقول لي وصلت رسالتك أمي، بجانبه وقف طفل آخر ربما يكبره سنًا أو هو أطول منه قليلًا، هدأ قلبي قليلًا، فقد رويت ظمأي من وجههما.
أغلق الطاقة وبقيت واقفة بجانب الباب لعلي أسمع صوت أنفاسهما، لم يكونا وحدهما.
سمعت السجان يخلي الزنزانة الملاصقة لزنزانتي ويضعهما فيها، بياض النهار انسلخ من سواده وهم ما زالوا يتعرفون على هويات المعتقلين، وما زالت هناك أبواب تفتح وأبواب تغلق.
لم أستطع سماع صوت أذان الفجر، لأول مرة أسابق الزمن في الزنزانة كي لا تضيع مني الصلاة، مفارقات عجيبة يصنعها الزمان والمكان، شتت هؤلاء الأطفال تفكيري؛ لكنهم أخذوا حصة كبيرة من دعائي.
هدأت الأصوات وعاد سكون اللاسكون، ارتميت على الفراش الوثير الذي يحتل نصف مقصورتي، أحيانًا كثيرة نطلق الكلمة المضادة للمسميات تخفيفًا من وطأة عذابها، نوع من الحيل الدفاعية التي وهبها الله لعباده، أذكر عندما اتهمنا بخنق السجانة عام 1988م وضعوني والأخت إيمان نافع في زنزانة، فتحوا في بابها فتحة من الأسفل، كانوا يدخلون الطعام من خلالها، استشطت غضبًا، يعاملوننا معاملة الكلاب، بكل هدوء ردت إيمان: أنا أرى الصورة مغايرة، هم ينحنون لنا احترامًا عندما يقدمون لنا الطعام، ضحكت. من يومها بدأت بتسمية الأشياء كما تحلو لي لا كما يريدون.
أخيرًا لاح صباح اليوم الثاني، ترى ماذا يخبئ لي بين ثنايا أثوابه، أصبحنا وأصبح الملك لله، مهما خبأ فالملك لله وحده.
فتحت السجانة الباب، معها جنديان كل يتمنطق بسلاحه.
-يلا يلا قومي بسرعة.
-إلى أين؟
-يلا بدون سؤال.
-أريد قضاء حاجتي، وأريد أن أشرب. وبعد جدال فيما بيننا ذهبت وأجرت مكالمة، عادت وقالت: ماشي تعالي للحمام لكن بسرعة.
-أريد شيئا ألبسه في قدمي.
-مفيش.
وكعادة هذه الأماكن، تكثر الضرورات وتستباح المحظورات، خرجت أجر نفسي لأصل بيت الراحة، ساعدتني حركتي البطيئة على استكشاف المكان، فعلًا لقد كان هناك باب مجاور لباب زنزانتي، أمامهما المساحة التي تمثل غرفة الاستقبال، ولجت بي ممرًا ضيقًا، عدة أبواب على جانبيه تصدر منها أصوات عربية تدوي كخلية النحل، لابد أنهم يزجون أعدادًا كبيرة في الزنزانة الواحدة، أفضى الممر إلى ساحة صغيرة جدًا أمامها كوخ خشبي صغير وآخر كبير، فإذا به مكان قضاء الحاجة، ولجته فإذا أرضيته مغمورة بماء النجاسة، أردت إغلاق الباب، رفضت، وأنا بدوري رفضت استعماله إلا بعد إغلاق الباب الذي هو أصلًا عبارة عن ألواح خشبية بينها فراغات تسمح لمن في الخارج التلصص على من في الداخل. أمي تسميه بيت الراحة، ولكن أنى تتأتى الراحة والسجانة تطرق الباب وتستعجلني وقدماي تغرقان في المياه القذرة، والبرد الذي قص عظام جسدي، لم أعلم أن البراز يضرب عن الخروج إلا ذاك اليوم، يهديك يرضيك ساعدني على التخلص منك! إلا أنه أبى أن يفارقني دون ممارسة طقوسه الخاصة في الاسترخاء، اضطررت لمغادرة الحمام والصبر على آلام بطني علَّ الله يجعل لي مخرجًا، مغسلة يغلفها السواد لا تستطيع تمييز لونها الأصلي وضعت ما بين الكوخ والزنازين، فتحت الصنبور، تدفق الماء، وهذه ميزة لا نراها في بيوتنا فماؤنا تسرقه مستوطناتهم، غسلت وجهي ويدي، شربت ما قدره الله لي تحت وطأة برودة الجو وبرودة الماء، ولجنا نفس الممر، ونفس الصالة، لكنها عرجت بي شمالًا، فتحت الباب، لامست عيناي ضوء النهار الذي خففت من حدته تلبد سمائه بالغيوم، كانت قد قيدت السجانة يدي وقدمي. بقدمين حافيتين صعدت درجات كنت قد خمنت عددها سابقًا، القسم لاح لي من الخارج، بيوت مؤقتة متراصة "كرافانات" يحيطها سياج كثيف، جندي فتح البوابة ذات الصيت السيء في الإزعاج، ثم أغلقه خلفنا وبقي رهينة داخله، السجانة واثنان آخران رافقا موكبي على الشارع، أينما وجهت وجهي أرى أسلاكًا تم زراعتها في كل مكان، أبراج حديدية عالية تحمل طبولًا كبيرة، صرخ أحمد مطر ساخرًا ألم أقل لك: "امض إن شئت وحيدًا، أنت مقتول على أية حال، سترى غارًا، فلا تمش أمامه، ذلك الغار كمين، يختفي حين تفوت، وترى لغمًا على شكل حمامة، وترى آلة تسجيل على هيئة بيت العنكبوت، تلقط الكلمة حتى في السكوت".
لم يكن الطريق طويلًا، لكن في ظل البرد، ومعانقة القيد، ووهن الجسد. كان شاقًا. عبرت السجانة بي مبنى جديدًا هو أيضًا من البيوت المؤقتة لكنه مرتب، يلفحك دفء المكان منذ اللحظة الأولى لولوجك فيه، مكتب مليء بالأوراق والملفات يجلس خلفه رجل بملابس مدنية، يبدو هادئًا، في مرحلة الكهولة، ملامحه شرقية، أهتم كثيرًا بالانطباع الأولي لما أراه، لابد أنه المحقق، طلبت السجانة مني الجلوس على بنك خشبي، الرجل يقلب أوراقًا ويفتح ملفًا تلو الملف يدخن السيجارة تلو السيجارةً، لم يلتفت نحونا وكأنه لا يعنيه أمرنا، مر قليل من الوقت دخل رجل آخر يلبس اللباس المدني طلب ملفًا، أراد البحث في الملفات التي على الطاولة، قال الرجل الجالس: هذه كلها لها أشار بوجهه إلي، قام إلى خزانة بجانبه تناول ملفًا دون أن ينظر إليه وأعطاه إياه، تمثيلية مكشوفة تستهدف حرق أعصابي، قلت لنفسي، انتبهت لعرجة في رجله، إذا لألعب معه نفس اللعبة، ركزت نظري على رجليه، ارتبك، بدأ الهدوء يفارقه، وبدأ التوتر يظهر في حركة يديه وارتجاف سيجارته، لقد نلت منه، حدثت نفسي. طلب من المجندة أن تفك قيد يدي، جلست على الكرسي الملاصق للمكتب.
-عطاف كيف حالك؟
-الحمد لله على أحسن حال.
-أحسن حال؟
-نعم على أحسن حال.
-عطاف أنت ملفك صار كبيرًا. لم أجب.
-شايفة هذه الملفات كلها اعترافات عليك.
-هذا دليل على أنه ليس عندي شيء؛ لأنه لو وجد اعتراف حقيقي لكفاكم كل هذه الملفات.
-"برافو" شاطرة كثير.
-الموضوع لا يحتاج إلى شطارة.
-طيب خلينا نشوف، أنت تنتمين للجهاد الإسلامي.
-واو معلومة خطيرة علقت لكنها ليست جديدة، أمضيت بالسجن عشر سنوات تحت هذه المعلومة.
-ولكنك مازلت جهاد؟
-الجهاد ليس معطفًا أخلعه، هي فكرة اختلطت في دمائي مثلما اختلط حب العجل في قلوبكم كما وصفكم الله تعالى ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: 93].
-إذًا أنت ما زلت تشتغلين في حركة الجهاد؟
- حب الجهاد لا يعني أنني ما زلت أشتغل في حركة الجهاد، هي فكرة أؤمن بها، أؤمن بالصراع بين الحق والباطل.
- يعني قصدك الصراع مع اليهود.
-يعني أنت عارف أنه وجودكم هنا باطل.
-عطاف أنت ما زلت تمارسين العمل في حركة الجهاد فتح ملفًا آخر، وقال: (ع.خ) جاء يطلب منك مساعدة في ملف القدس.
-طيب، والنتيجة.
-أنت أخبرته لا دخل لك في ذلك.
-إذًا ما التهمة هنا؟!
-لماذا يتوجه إليك لولا علمه بنشاطك في الحركة.
-عندنا مثل عربي يقول: "صيت الجمل قتله"، أنا قضيت في الأسر عشر سنوات، لا دخل لي بالناس التي تظن أن لي مكانة تجعلهم يتوجهون إلي.
- لكن المدعو (خ.ب) قال إنك كنت نشيطة في الجامعة، وقمت بإعطائه مجلة للجهاد، وأنك كنت مرشحة للانتخابات عن الحركة.
-لم يحصل ذلك.
-ها هي صورتك وأنت تلقين خطابًا في الجامعة أثناء المناظرة.
-خطاب طلابي ليس له دخل بالفصائلية.
-المدعو (ن) اعترف أنه طلب منك عروسًا.
-ضحكت، وماذا في ذلك؟ رجل لا أعرفه كان في الجامعة، سلم عليَّ وطلب مني أن انتقي له عروسًا، قلت له: لا أعرفك، ولا أستطيع مساعدتك في ذلك.
-أنت بتتخوثي؟
- والله هذا ما حصل.
أصبح يغلق ملفًا ويفتح آخر ويسأل، فجأة قال: أنت ولا اشي.. أصلًا إحنا حققنا معك هون لأنك ولا اشي، الملفات الصعبة يتم التحقيق فيها في المسكوبية. قلت في نفسي بدأ دور التحقير مرة بيرفع ومرة بيوطي لابد أن القنبلة قادمة.
-صدقت أنا ولا اشي عندي، ها أنت قد وصلت للنتيجة نفسها.
-أنا قلت أنك إنت ولا اشي، ولم أقل ما عندك اشي.
-خبصنا نبلش (مقصودة).
-أنت رئيسة مركز الدوحة الجراحي.
(آه بنزل في قيمتي حتى أتفاخر، فيلم محروق) قلت في نفسي.
-نعم أنا رئيسة المركز.
-أنت متهمة بمعالجة المخربين المطلوبين في المركز.
-هذا مركز جراحي يقدم خدمة علاجية لمن يحتاجها، وأنا لست محققة لأحقق في هويات من يطلب العلاج حتى لو كان يهوديًا.
- أنت كنت تخفين مطلوبين في المركز.
- هذا غير صحيح، المركز مفتوح للجميع ممن يحتاجون علاجًا ليس إلا.
- المركز قام بعلاج مطلوبين مصابين.
- نعم عالجنا مصابين؛ لكن لا يهمني إن كانوا مطلوبين أو غير ذلك، هذه رسالة إنسانية لا دخل بهوية المريض.
لم أستطع كبح جماح فكري الذي شرد لتلك المرحلة العصيبة، قفزت صورة مروان ابن الستة عشر عامًا، قنصوه، ارتمى على الأرض يتلوى، شاهده المدير الإداري للمركز، غامر بنفسه حمله للمركز، الجراح المناوب شخص حالته، الرصاصة كانت قد دخلت من جنبه ولعبت لعبتها في أحشائه واستقرت في جسده، أدخله إلى العمليات بعد الاتصال بأهله والحصول على موافقتهم، كانت أحشاؤه ممزقة، اضطر لقطع أجزاء كبيرة منها، لولا عناية الله لكان في عداد الأموات.
رائحة الدم زكمت أنفي لمجرد استعادة مشهد الشاب محمد سعيد، نافورة حمراء في فخذه، أتى به أصدقاؤه، سيل من الدماء لا ينقطع غسل نفسه وأصدقاءه به، العملية استغرقت أكثر من ساعتين. عظام الفخذ كانت قد تهشمت، نجا بإذن الله، اثنان من أصدقائه الذين أنقذوه أعلن عن خبر استشهادهم بعد أقل من يومين من إنقاذه، الصور كثيرة ، وهذا القرد قام بالجريمة ويريدنا كما قال أحمد مطر:
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه
أفقت من شرودي على صوت طرق الطاولة بيده:
-آه، ما بدك تحكي
-عن ماذا أحكي؟ أنت إنسان ذكي عرفت أني ولا اشي
-أنت عرموميت (ماكرة)
-شو يعني مش فاهمة، ما أنت كنت تحكي عربي منيح.
-أنت تجمعين النساء وتزورين بيوت المطاردين، وتشاركين في جنازات المخربين، وتزورين أهالي الأسرى
- طيب!
-أنت عارفة هذا ممنوع، هذه جريمة يعاقب عليها، أنت بتشجيعهم.
- ممنوع من مين؟!
- من دولة إسرائيل، ونعاقب عليها.
- أنت ممكن أن تعاقبني، لكن لا تستطيع أن تمنعني؛ لأن هذا يشكل جزءًا من قناعاتي الدينية التي حثنا عليها ديننا.
لم يكن اللقاء بالطويل ولا بالقصير لكنه انتهى بالتوعد والتهديد بأنه راح يجيب رأسي في الأرض وكما (قيل ذكرني فوكِ حمار أهلي) فقد ذكرني تهديده بألم رأسي، طلب من المجندة إعادتي للقسم بعد إعادة وضع القيد في يدي. خطت قدماي على صوت أبو دجانة:
لا يـا أخـي.. فـلا تـقل.. ها قد خبا صوت النضال
فـصـراعـنـا.. كـر.. وفر.. والوغى دوما سجال
النفس الإنسانية غريبة، ففي ظل كل هذا الألم تهديك فسحة للغناء واللحن، كأنها تعيد التوازن فيها، أعلم أن الصراع لم ينته وأنه من الممكن أن تكون هناك جولات أخرى من التحقيق، وأساليب أخرى يتم استخدامها، جعبتهم لا تنفد من الأساليب القذرة، ما يهمني أن لا ينقطع حبل الوصل بيني وبينك ربي.
من نفس الطريق عدنا، الشمس أرسلت أشعتها الواهنة؛ لتخفف من حدة البرودة في الخارج. المجندة تستحثني، كي أمشي بسرعة، وتدفعني لذلك وأنا أعاند كي أتمتع باستنشاق الهواء النقي الذي لم يتلوث رغم اختناقه بهذه الأسلاك الشائكة.
وصلنا القسم، المجند فتح البوابة بعد أن دقت الجرس، على يمين الدرجات كانت مساحة صغيرة محاطة بالشبك، قد وضعوا الأطفال بها، انشرح صدري برؤيتهم، كيف حالكم خالتو؟ شدوا حيلكم، أنتم أبطال. أجابوا ما تخافيش يما، دفعتني السجانة إلى الداخل وهي تصرخ ممنوع الحكي، لم أعرها اهتمامًا، طالبت الدخول للحمام، حاولت منعي، لكني ولجت الممر فاضطرت للحاق بي وسط سيل من الشتائم، وكما السابق بدأت بالطرق على الباب والحث على استعجالي للخروج، قلت لها شكرًا على الموسيقى الجميلة، ممكن أعلى شوي، جوابها كان سيلًا من الشتائم، قلت أغنية جميلة صوتك حلو.
استطعت خداع بطني لإفراغ حمولته، أريد ورقًا، لا يوجد ورق، إذًا سأبقى هنا، قذيفة شتائم من العيار الثقيل، صرخت على المجند كي يجلب ورق الحمام الخاص بها، خرجت مبتسمة قلت لها: الآن أستطيع القول إنه بيت راحة، وعلى المغسلة المسحوب لونها توضأت، عدت لمقصورتي، فرغت غضبها في الباب، مسكين أيها الباب ظلمت بين أيديهم، كيف لا تثأر لنفسك؟!
المقصورة تنتفض بردًا، قدماي تشاركانها مشاعرها، كلتاهما عاريتان، كم انقضى من النهار؟ لا أدري، لابد أن وقت الظهيرة قد خرج، توجهت للصلاة بعد أن خمنت موقع غروب الشمس أثناء رحلتي القصيرة، حاولت أن أضبط بوصلة قلبي نحو ربي، لكن تشتت فكري، التحقيق وبرودة جسدي أفشلا الوصل مع الحبيب، كم هي المشتتات التي تحرمنا برد الوصل في الصيف ودفئه في الشتاء!
أنهيت صلاتي، تدثرت بدثار أمي لعلي أستعيد بعضًا من دفء قلبي، فلربما أستطيع أن أكمل وردي من التسابيح والاستغفار، اليوم الخميس من الأيام الأولى للسنة الجديدة 2003م، اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، شيطاني يوسوس لي وأي خير فيها وأنت رهن الاعتقال؟! ربي علمتني أن الخير أحيانًا كثيرة يكون محمولًا في رحم الشر كما اللؤلؤة في رحم المحارة، لم أجد في حياتي ما يفوق الصراع مع الوسواس الخناس عندما تتناغم النفس الأمارة بالسوء مع وسواسه.
نشر الليل أجنحته وأعلن صوت الأذان سيطرته على القلوب المحتاجة إليه، الله أكبر أنا هنا. الله أكبر لا إله إلا أنا. الله أكبر والعزة لي ومن على درب عزتي مشى، سكن قلبي وهدأت الأصوات المتصارعة في رأسي، وقفت بين يديه، شكوت بثي وحزني إليه، وإلى أمي وأحبابي دعوت إليه، قلبي بحبه طار إليه، فلا مفر منه إلا إليه، أحضرت السجانة وجبة العشاء بعد أن فات قطار الصباح والمساء، إلا أنه لم يكن لي رغبة فيها تمنيت لو كنت قد نويت الصيام.
ليلة الجمعة خفتت الأصوات العبرية، وعلت الأصوات العربية، الشباب يتحدثون مع بعضهم البعض، يتعارفون، يصرخون، محمد مين عندك اليوم؟ اعتقلوا فلان وفلان و…، الله يقويهم وأنا حضر عندي فلان وفلان وفلان و…، أبو الشباب سمعنا صوتك، يصدح صوت حزين يزيده المكان حزنًا: "ملعون بيه السجن واللي حدد بوابه. محروم شم الهوا ومفارق حبابه". وبدأت الأغاني تتنقل من سجين لآخر دون أن يخرج نطاقها عن السجن وكأننا محبوسون بكلماتنا، هذا يغني سجان أبوك يا سجن، وذاك يغني غريب الليل عن سجني، والأغرب أنه النسر يقع في سجن الغراب، لم أرَ نفسي إلا وبدأت أترنم:
قد تملك سَوطاً يكويني وتحز القلب بسكين
قد تجعل غلك في عنقي وتحاول قطع شراييني
وتصادرُ شعراً أكتبه بشمالي إن عزّ يميني
وتُجوّع طفلي من بعدي واهاً للطفل المسكين
لكن لن أخضع في يوم للظلم بضعف أو لينِ
يتسلل الضابط المناوب لعرين الأشبال، يخرجهم منه، يمد لهم حبلًا من الوصل الكاذب، يمازحهم ويروي لهم النكات السمجة، يسألهم أي الفريقين يحبون يحرضهم على الفريق الآخر، يستجوبهم دون الإيحاء لهم بأنهم في موقع استجواب، فهو العدو اللطيف الظريف الذي يقدم لهم ألواح الشوكلا، يتحدث محمد عما أخرجه لساحة المعمعان وقراره وصاحبه في صنع قنابل المولوتوف وإلقائها على العدو، يتحدث عن أمه التي ذهبت ضحية قذائف مدفعياتهم الهوجاء، دمرت بيتهم وحرمته حضنها الدافئ، قطعت شريان حياتهم. هذا الطفل خرج لينتقم لطفولته التي داستها شريعة الغاب التي لا وزن للإنسانية ولا للعدالة عندها، واه على قلب الصغير شاخ قبل أوانه يتحدث بصوت رزين وكأنه خبر الحياة، هل سيستطيع النجاة من حبائل الشيطان التي يمارسها زبانية المعسكر لإسقاط شبابنا في وحل العمالة ووحل الرذيلة، كم من الأشخاص اعترف عن بداية سقوطه التي كان مقرها ومستقرها هذا المعسكر اللعين؟
غاب يوم الجمعة جارًا أذيال السبت الثقيل على قلب الأسرى، شقائق النعمان تفتحت مع فجر الأحد، بوابة العبور فتحت، شاحنات تأتي لتفرغ صيدها، وأخرى تفرغ معدة المعسكر لتنقلها إلى محطات عبور أخرى، كل أسير يحمل في صدره همومه وأسراره، يصارع نفسه وعدوه لتبقى أسراره في صدره، منهم من ينجح ومنهم من يحمل آلام الاعتراف طيلة حياته، تعذيب ضميره لا ينفك عنه، ومنهم من يسقط في وحلهم حتى لا يعرف أباه ولا أمه، والأيام تتوالى، محكمة مددت التوقيف، وحذاء اشتمت قدمي رائحته بعد عشرة أيام من الأسر عله يعالج بردًا نخر فيه، طعام تعافه النفس يتكرر تقديمه للأسرى منهم من يسكت به جوعه، ومنهم من يعرض عنه رغم صرخات أمعائه، معاناة قضاء الحاجة لم تنته، فكل يوم ملحمة تسطر من أجل الحصول على هذا الحق البسيط، يقترب عداد الأيام من الشهر مع اندهاش المحامين من استمرار بقائي في هذا المعسكر اللعين، فما خبروه من عدم بقاء المعتقلات لأكثر من يومين أو ثلاثة، العروس التي سألني عنها المحقق تبين أنها تشير إلى سيارة مفخخة، مصطلح يتم تداوله في ظل العمليات الاستشهادية، ضحكت على نفسي الجاهلة، الوالدة كانت خاضت صراعًا مع الجنود الذين كانوا قد أتوا لاعتقالي حيث دفعت إحداهن أوقعتها عن الدرج، وكانوا قد أحضروا رجلًا ملثمًا ليؤكد لهم أنني المقصودة بالاعتقال بعد أن امتنع إخوتي من الإفصاح عن اسمي حيث أيقنوا أنني لم أعرف عن نفسي، كانوا قد حملوني على حمالة الموتى، أخذوا يهرولون جريًا، وضعوني على أرضية السيارة العسكرية هربًا من غضب والدتي وصراخها وهجومها عليهم.
لم يكن هناك مناص من إخراج ورقة الإضراب عن الطعام فهي الورقة الرابحة دومًا عندما يتحدد وقتها المناسب، ثلاثة أيام من هذه الوصفة كانت كافية لإغلاق ملف الاعتقال في هذا المعسكر؛ ليبدأ فصل جديد من فصول الصراع في مكان آخر.