ما أسعد الحروف وهي تحظى بنظرة أخرى منكِ.
أما ترينها تتقافز تباعاً تريد كل واحدة منها لو تأملت فيها أكثر، ووقفت عليها بحثاً عن معنىً مختبئ بين الثنايا، أو فكرة تريد منكِ رفعها عن جماد السطور وبرودة الصفحات، والسماح لها بالدخول عبر لاحظيكِ، والسباحة في خليج خواطركِ وصولاً نحو برِّ أمانكِ ومنتهى حنانكِ، لترسو هناك وتتقدم بكل ثقة وافتخار كي تنقش نفسها على جدار جنانكِ، ولتنحني بعدها أمام عرشكِ المصون قائلة بكل تواضع وخجل: (إقبليني في جنتكِ، فإني همسة إليكِ).
أخيتي
تتطور أنماط الحياة بتطور أدواتها، وتمتد جسور التعارف مع ارتقاء سلّم المعرفة، هذا منطق الأشياء وسياقها الطبيعي، أن تواكب ثورة التكنولوجيا والحداثة ثورة أخرى تبعث في نفوس مستخدميها، وهو شيء جميل وظاهرهُ حسنٌ ومقبول، فهل كان اختراع الكهرباء إلا انقلابا حقيقياً على حياة رتيبة سَمْتها البساطة والهدوء، ففتحت بضجيج مجيئها باباً واسعاً – إن لم يكن الأوسع- في حياة البشرية، وأثرت بشكل مباشر في كل ما تراه أعيننا وتلمسه أيدينا، نعم كانت نعمة؛ وكما كل شيء لها ضد ونقيض، واستخدام إن أُسيء تطويعه فإنه يصبح نقمة، فقد كان لها وجه بشع وآثار سلبية، فمع إقامة المعامل، كان إنتاج القنابل، ومع بناء المدن وشق الشوارع والدروب، كثرت المجازر وسهل القتل وأصبح هناك فن الحروب، خلاصة القول: كان فيها الرخاء، وكان لها وجه جاء بالشقاء.
واليوم؛ نحن نشهد ثورة أخرى تتعلّق بالاتصال البيني في حياة البشر، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ونلمس قدرتها على تشبيك حياة الناس باتصال آني، ومشاركة الآخرين في أقاصي الأرض الهموم والانفعالات، وإمكانية دخول كل من يسكن هذا الكوكب ضمن هذه الدائرة الأوسع التي تجمع (إنسانيتهم)، بأحاسيسهم ومشاعرهم، بأفراحهم وأتراحهم، عاداتهم وتقاليدهم، بخيرها وشرها وأشياء أخرى كثيرة، فقد بات واضحاً الأثر الذي تتركه هذه الأدوات في نفوس الأفراد وانسحاباً منه على عموم المجتمع كله، ومدى التغيير الذي تحدثه في أنماط ومسلكيات مستخدميها، حسناً كان أم قبيحاً.
مما لا شك فيه وجود جوانب خير كثيرة لهذه الوسائط التي تُثري المعرفة، وتسهل التعارف وتفتح آفاقاً للتواصل، وتعين على نشر الأفكار والقيم، وتعميم الفضائل والمحاسن، وبسط الثقافات على مائدة العالم ليأخذ منها كل طالب، ويستزيد من خيرها كل راغب، هذه جوانب جميلة وزوايا مشرقة أضاءت عليها مثل هذه الأدوات وأفادت منها، بينما جاء معها أوجه قبيحة، تتسلل خفية، وتتسرب بهدوء، لتستقر بصمت في نفوس مستخدميها، تدفع نحو الانزواء عن المجتمع، وعيش أكثر من دور، وتقمص أكثر من شخصية، وهو حديث يمتد ويطول، وتُفرد له الفصول والأبحاث العلمية التي تؤكد هذه النتيجة.
وبعد هذه التقدمة البسيطة لا أراني إلا بحاجة لمزيد استرسال أخاطبك فيه
أنتِ، ففي قلمي بعضاً من مدادٍ يريد انسكاباً أمام ناظريكِ، يبثكِ شيئاً من سبحات الخاطر، وفي النفس حروفاً تتزاحم كلها تريد أن تتشكل كلماتٍ تحمل إليكِ فُيوضات القلب وهمهمات السواتر.
كم هي رائعة هذه الأدوات وقد جلّت لكِ الدنيا وأرتكِ من جمالها، وطوَّفت بكِ بين محاسنها، قرَّبت إليك البعيد، وسهّلت لكِ التواصل والقبول، فازدحمت مخيلتكِ بالمشاهد البديعة والصور الجميلة، التفّ من حولكِ المُحبون، وتضاعف الأصدقاء ومن تشاركينهم سعادتكِ، وتقاسمينهم أحزانهم، تعلّقين هنا وتتركين أثراً هناك، تغردينَ حيناً وحيناً تتصفحين، تقرأينَ مقولةً تعطيك شيئاً فتثري لديكِ فكرة، تمرّين في الأرجاء لأخذ الصور، وتضيفينها لقائمةٍ تطول من التقاطات شكّلت لكِ تاريخاً مصوراً مصغراً تتشاركينه مع محبيكِ، تفزعين إليه ساعة قلقٍ وضيق، وتستظلين بها عند هبوب الذكريات وهياج المشاعر والانفعالات.
أصبح لديكِ عالمكِ الخاص، ومجتمعكِ الافتراضي الذي تمارسين فيه قناعاتكِ، وتشكلين في ثناياه شخصيتكِ وكينونتكِ، والتي قد تخالف أحياناً واقعكِ المعاش ومحيطكِ الأسريّ، وبدأت المصطلحات تأخذ معانٍ أخرى ويصبح لها حضور وإن كان معنوياً، فالصديق على (الفيس) طبيعي بحكم ضرورة الاستخدام، وإن كان شاباً غريباً وطارئ الدخول، أما واقعاً فربما غير موجود لطبيعة المجتمع.
وبشأن المحاذير والحدود فقد أخذت في الذوبان والانصهار، لصالح الاندفاع هروباً من الكبت وبحثاً عن مستمع، -أي مستمع-، فالحديث مع الشباب وفي كافة الشؤون، واستعراض القدرات النفسية، والابهار بالمكنون الأنثوي الفاتن بات يتحول لحالة إدمان، وربما تصل المغامرة لإرسال صورة أو مقطع مصور بنصف حجاب وربما بدونه، فهو صديق صدوق وموثوق، وأعطاكِ من الوعود كثيرها بأنه سيحافظ عليها حفاظه على روحه وعرضه.
وتصدير الهموم (الآنيّة) والفضفضة حول الخصوصيات، وصعوبات الحياة، وانفعالاتكِ مع نفسكِ والمحيط باتت لازمة من لوازم كل الأدوات المتاحة في اليد، ومبعثاً من بواعث الراحة والاطمئنان، لأنها ترتد إليكِ بكلمات الثناء والإطراء والسلوى والتشجيع، أما اللجوء لقريبٍ يُعين أو أخٍ مخلص ومحب، طمعاً في رأي وأخذٍ لمشورة، فدونها حواجز لا تعرفين مأتاها.
مدخلات كثيرة تزاحمت لديكِ، واهتمامات جديدة بدأت تحوز على رضاكِ، اندفاعات طارئة باتت تظهر على الجوارح، وتتفلّت من مكانها، ولا زال محيطكِ –المتجمد- غير راضٍ عنها، وبين هذا وذاك؛ مقارنات بدأت تفرض نفسها وتستحوذ على تفكيرك، تُجرينها بينكِ وبين ما تشاهدين وتسمعين وتقرأين، وكلها تريكِ من نفسكِ اختلافا عن الآخرين، ودرجة هي بالضرورة أقل، يرافقها صراعات بدأت تُصنع ما بين جنبيكِ، بين أنماط حياة كلها تريد منكِ انتصاراً لها وتغليباً لرايتها، مقابل انكسار الأخرى وسحقها، فحيناً تحاولين مجاراة ندهات التقليد لآخر تقليعات الشياكة والموضة، وإسقاطها على نفسكِ متجاهلة الواقع والمحيط الرافض لها، فتعودين غاضبة وحانقة على هذا ( التخلف والرجعية وتقييد الحريات)، ومصادرة الحق في اختيار أسلوب (الحياة العصري).
وتارة تأنسين لصوت داخلي عذب كآلة ناي يتردد صداه في جنانكِ، يرجوكِ التريث والإبقاء على طهارة روحكِ عفيفة عن الخطأ، وبعيدة عن الدرن والسوء، يبكيك حينأً بدمعٍ يُرطِّب جفاف قلبكِ التائق لحياةٍ ملؤها سكينةٌ وأمان، وثقةٌ واطمئنان، وتعيشين معه أحياناً من التجلي بروحانية لا تزال تسمو بكِ عن وحل الأرض وخُبْثها، فتتمنى نفسكِ البقاء في هذه الآفاق كحلمٍ جميل لا يقطعه استيقاظ، ولا تنهيه تنبيهة، لكنه ينتهي، وتعود سيرتك الأولى.
فيا أخيتي..
أينما كنتِ، وحيثما أينعتْ أزهاركِ وأبهجت آثاركِ، بعض خطراتكِ ربما جاءت بها هذه السطور، وغيرها ربما لا زال مخبوءاً بين خافقيكِ، أنتِ وحدكِ –ثم الله- أدرى بها وبمكنوناتها، أعلم أنكِ تدركين أخطار هذه الأدوات، غير أن النفس أحياناً تغوي، فانتفعي منها ما بدت منافعها، وابتعدي عن مواطن الشبهات ومواطن السوء حتى لا يجركِ المحظور، فإنَّ من أهم إشكالات هذه الوسائل ومخاطرها الكارثية هي تلك الحواجز النفسية التي عملت على إزالتها، حتى أصبحت كل الأمور (ضمن المتاح وبكبسة زر)، فسهولة الوصول تغري دوماً بحب الاستكشاف، وما كل المغامرات تعود بالنفع دوماً أو حتى تضيف فائدة، اللهم إلا من أنها تراكم حصيلة من التجارب قد تكون مُثقلة بالخيبات والأحزان.
فإلى كل من ستقرأ هذه السطور سلام وتحية …
اللهم إني قد بلغت…
اللهم فاحفظ وأعن على كل خير...