مفاجأة لم يكن يتوقعها الفلسطينيون بأن تتفق منظمة التحرير الفلسطينية و"حماس" على مغادرة الانقسام الداخلي إلى مصالحة وطنية اعتمدت في قطاع غزة منشأ الانقسام وفي منزل رئيس الوزراء إسماعيل هنية وبحضور وفدي منظمة التحرير و "حماس".
ثمة مؤشرات تدعو للتفاؤل إزاء هذه المصالحة التي ينتظرها ويتمناها كل فلسطيني بفارغ الصبر، وفي مقابل هذه المؤشرات الإيجابية أخرى مقلقة وتدعو للتشاؤم، خصوصاً وأن هناك متربصين لهذه المصالحة وظلوا يعملون كل الوقت من أجل إدامة الانقسام.
المؤشرات الإيجابية تتعلق بقدوم وفد منظمة التحرير الفلسطينية لأول مرة إلى قطاع غزة، وهذه المرة بدون وساطة أحد، ولا في منطقة محايدة أو عبر وسيط عربي وإنما في قطاع غزة التي شهدت انقساماً خطيراً منتصف العام 2007.
ربما هناك دول تدعم هذه المصالحة وقد مارست دورها التوفيقي بين أطراف الانقسام الفلسطيني، سواء في اتفاق مكة الذي سبق الاقتتال الداخلي، أو حتى بعده وخصوصاً في اتفاق القاهرة وإعلان الدوحة، أما في هذه المصالحة فلم يكن هناك طرف عربي حاضر ويتوسط مباشرةً بين الفرقاء في الداخل الفلسطيني.
ثم إن المصالحة لم تنطلق من الصفر ومن إعادة المناقشة حول القضايا الخلافية بين أطرافها، وهذا يشكل اختراقاً إيجابياً في المواقف، مع العلم أن إنجاز الاتفاق والمصالحة تحقق بوقت سريع وقياسي وهذا يحسب لوفدي المنظمة و"حماس".
هذه المؤشرات مُضافة إلى مؤشر مهم يتعلق باحتمال نضج الظروف لاستقبال مصالحة ممكنة التطبيق، ذلك أن المرجعية الفلسطينية كلها من ساسها إلى رأسها في خطر، وينطبق هذا على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وكذلك الحال باقي الفصائل وفي مقدمتها أصحاب الانقسام.
"حماس" التي كانت تشعر بالنشوة بعد انتصار جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وعدد من الدول العربية الأخرى، لم تعد تتمتع بالدعم الخارجي، خصوصاً بعد مغادرة جماعة إخوان مصر للسلطة وبعد استهداف القيادة المصرية الحالية لحركة "حماس" ووضعها تحت المجهر.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، إنما أيضاً تنظر "حماس" إلى حلفائها في الخارج على أنهم لم يعودوا قادرين على البقاء وحدهم في السلطة، ومنهم من أُقصي عنها مثل نموذج مصر، ومنهم من يعيش تحت ضغط تشكيل حكومة وحدة وطنية تستهدف إشراك الجميع في ممارسة السلطة كما هو الحال في نموذج تونس.
"حماس" اليوم بالتأكيد ليست "حماس" بالأمس، هذه التي حصلت على مختلف أنواع الدعم من إيران وسورية وحزب الله، وتبنت العمل المقاوم بقوة، في حين شكلت العمليات الاستشهادية الزخم الذي دفع الحركة إلى تربع المشهد السياسي.
أيضاً "حماس" باتت تدرك أنه كلما طال عمر الانقسام، كلما يرتد ذلك بالسلب عليها وعلى غريمتها "فتح" وعلى كل مفاصل القضية الفلسطينية، ولا حاجة لنتعرف على موقف الشارع الفلسطيني من هذا الانقسام الملعون الذي تسبب بمخاسر مادية ومعنوية ووطنية نضالية على جميع الفلسطينيين.
أما على صعيد "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، فيجوز القول إن المفاوضات مع إسرائيل كانت وما تزال مهزلة ولم تحقق نتائج إيجابية وملموسة، وتدرك تل أبيب جيداً أن المفاوضات مع طرف فلسطيني منقسم إلى نصفين وبدون مرجعية موحدة، تعطيها أحقية في حشر الطرف الفلسطيني بالزاوية وممارسة الإملاءات عليه.
ربما يريد الرئيس أبو مازن، أن يتحمل الجميع عبء المرحلة الصعبة التي تعيشها القضية الفلسطينية الآن، في ظل طرف إسرائيلي قوي يمارس قمعه وجبروته على الفلسطينيين، ومع طرف أميركي غير نزيه اشتكى من اتفاق المصالحة بين الفلسطينيين ويقول إنه سينظر في شأن الحكومة الجديدة في حال لم توافق على نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل وقبول الاتفاقات السابقة والالتزامات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
هذا عن المؤشرات الإيجابية، أما تلك المقلقة فتتصل أولاً بملف المصالحة نفسه الذي إذا أعدناه إلى الماضي سنجد أن الفرقاء اتفقوا في مكة وبعدها في القاهرة 2011 وكذا إعلان الدوحة 2012، ثم تعطلت جميع الاتفاقات حين شرعوا في معالجة التفاصيل.
وما أكثر التفاصيل المقلقة في ملف المصالحة، فإلى جانب أهمية تشكيل حكومة توافق وطني خلال خمسة أسابيع من تلاوة بيان الاتفاق المشترك بين وفدي المنظمة وحركة "حماس"، وكذلك الحال بالنسبة لعقد الانتخابات بعد ستة أشهر على الأقل من إعلان الحكومة الجديدة، هناك معضلة الاتفاق على مزاوجة برنامج السلام خياراً استراتيجياً ببرنامج المقاومة.
الرئيس محمود عباس بعد إعلان الاتفاق في غزة، طمأن الأطراف الدولية بأن اتفاق المصالحة لن يتعارض مع جهود السلام و"أننا ملتزمون بإقامة سلام عادل قائم على أساس حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية".
هل ستوافق "حماس" على برنامج السلام خياراً استراتيجياً وتقبل بتمديد المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والطرف الإسرائيلي في حال استكملت بعد مهلتها النهائية الثلاثاء المقبل؟ ثم وفي سياق آخر، طالما اتفق أعضاء الوفدين على المصالحة، لماذا لم يجر تحديد الانتخابات بسقف زمني دون أن يخضع لصيغة مطاطية تتجاوز الستة أشهر؟.
في موضوع تشكيل حكومة توافق وطني التي جرى الاختلاف حولها كثيراً في الاتفاقات السابقة، لماذا حُددت بمهلة الخمسة أسابيع، وحيث كان يمكن تقصير المدة والتشاور مع الرئيس ومختلف الجهات المعنية لتسمية رئيس حكومة متفق عليه ومن ثم التوافق حول الوزراء؟
لقد كان الشيطان حاضراً ومقيماً في تفاصيل ملفات المصالحة السابقة، وبسبب طول الوقت المتعلق بتشكيل الحكومة اللازمة آنذاك، جرى طرح أسماء لها واختلاف كبير حولها، أدى إلى تعطيل كل ملفات المصالحة من "دومينو" واحد هو ملف الحكومة.
القصد أن "دومينو" واحدا من شأنه أن يعطل المصالحة، وبالتالي فإن جميع قطع "الدومينو" ستقع وتؤدي إلى توقف المصالحة، الأمر الذي يحتاج إلى إرادة قوية وجامعة وسرعة في تطبيق بنود الاتفاق وعدم وضع أي رهان على تغير الظرف الدولي.
الشعب الفلسطيني "مبسوط" من هذه المصالحة الأخيرة التي عقدت في غزة، لكن هناك كثيرين حذرين من أن يكون مصيرها مثل أخواتها السابقات، وبالتالي سيكون من الصعب جداً التعامل أو تقبل خسارة أخرى، لأن ذلك سيشكل تهديداً وخطراً على الكل الفلسطيني.
يتمنى الجميع أن تشهد هذه اللحظة التاريخية طلاقاً بائناً للانقسام، وهذا يعني أن على كافة الأطراف المشاركة وغير المشاركة في هذا الاتفاق، أن تعمل يداً بيد نحو إنجاز وتطبيق بنود المصالحة، لأنها في نهاية الأمر مكسب صاف مائة بالمائة، وعكس ذلك عند إسرائيل التي وفرت كل الأسباب لإجهاض المصالحات السابقة وتأبيد الانقسام.
مع ذلك فإن لا أحد يمكنه الإجابة على مصير المصالحة الآن، إنما يمكن القول إن هذا المصير مقترن بمقبل الأيام التي وحدها يمكنها أن تكشف لنا إن كانت هذه المصالحة حقيقية ويمتلك أطرافها الإرادة الفعلية لإنجاحها، أم أنها مصالحة "فالصو" وتستهدف اللعب على الوقت.