يقول مارتن لوثر كينغ "سيكتب التاريخ أن أكبر مأساة في مرحلة التغير الاجتماعي هذه لم تكن الضجة القاسية للناس السيئين، بل الصمت المروع للناس الطيبين".
ويبدو أن الناس الطيبين قد سمعوا كلمات كينغ أخيرا، وقرروا الخروج عن صمتهم، وإسماع صوتهم للعالم أجمع بفعل في منتهى البساطة وهو "الضغط على نجمة".
فهم بهذا الفعل البسيط جدا هزّوا عرش أكبر إمبراطورية للتواصل الاجتماعي في عصرنا الحديث، عصر الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المنحازة، أو زمن فيسبوك كما كان يحلو لبعضهم أن يقول.
ولأن "أهم ما في التواصل هو سماع ما لا يقال" كما يؤكد الكاتب والموسيقي الأسترالي بيتر دويل، أو ما لم يسمح بقوله في هذه الحالة، فقد شنّ عشرات آلاف المستخدمين من شتى أرجاء العالم -الذين حاولت فيسبوك (Facebook) عبر منصاتها المختلفة كتم أصواتهم- حملة ضخمة لخفض تقييم تطبيق فيسبوك على متجري "غوغل بلاي" (Google Play) و"آب ستور" (App Store) بإعطاء نجمة واحدة فقط ضمن مقياس من 5 نجوم لتقييم التطبيق عبر المتجرين، وذلك بغية حذفه منهما في نهاية المطاف.
انخفاض الأرباح لأول مرة
وقد أتت هذه الحملة أكلها بسرعة فائقة إذ انخفض تقييم التطبيق في 20 من شهر مايو/أيار الجاري من 4.9 نجمات إلى 1.9 في "آب ستور" و2.4 عبر متجر "غوغل بلاي".
كذلك انخفض سعر أسهم الشركة أول مرة منذ 52 أسبوعا بنحو 0.75% للسهم الواحد لتبلغ قيمته 316.2 دولارا أميركيا بعد أن كانت قيمته قبل الحملة 319 دولارا، وذلك حسب موقع "ماركت ووتش" (MarketWatch) الذي يعد أكبر موقع لرصد أسهم الشركات الكبرى في البورصة العالمية.
يذكر أن صافي أرباح شركة فيسبوك خلال الربع الأول من العام الحالي بلغ 9.497 مليارات دولار، قياسا بـ4.9 مليارات دولار في الربع الأول من العام الماضي، وهو ما يعادل 3.3 دولارات للسهم الواحد، مقابل 1.71 دولار للسهم خلال المدة نفسها من عام 2020.
ومن هنا نستطيع أن نفهم خوف الشركة من انخفاض أرباحها لأول مرة منذ مدة طويلة بسبب هذه "الضغطة البسيطة على نجمة" التي هزّت عرش الإمبراطورية، ودفعت مجلس إدارتها وكبار قادتها للتحرك بسرعة فائقة لتدارك الأمر، إذ شُكّلت خلية أزمة للتعامل مع الحملة بمنتهى الجدية، وصُنّفت على أنها "بالغة الخطورة" على سمعة ومستقبل الشركة التي تكافح جاهدة للبقاء على عرش منصات وسائل التواصل الاجتماعي في العالم، وتواجه منافسة شرسة في هذا المجال.
كذلك تواصلت إدارة الشركة مع إدارتي شركتي آبل وغوغل لإزالة التقييمات السلبية في متجري التطبيقات التابعين لهما لكن آبل رفضت الطلب، وتلكأت غوغل في تلبيته حتى الآن، وما زالت التقييمات منخفضة جدا حتى لحظة كتابة هذه السطور، إذ انخفض تقييم التطبيق إلى 2.3 نجمة في غوغل بلاي، و2.4 في آب ستور.
وفي محاولة أخرى منها لاحتواء الأزمة قدمت الشركة عبر منصتها اعتذارا للشعب الفلسطيني ومناصري قضيته في أنحاء العالم، ملقية اللوم على الخوارزميات في محاولة منها للتنصل من مسؤوليتها وانحيازها لـ"إسرائيل".
الرعب الحقيقي لفيسبوك
ولكن ما آثار انخفاض تقييم تطبيق فيسبوك عبر المتجرين في دخل الشركة ومستقبلها؟
تقول علا الفرواتي الناشطة والخبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسة لشركات عدة في التسويق الإلكتروني وتكنولوجيا المعلومات "إن التقييم السلبي له آثار مباشرة قريبة المدى وأخرى بعيدة المدى، وفيسبوك تخشى الآثار بعيدة المدى أكثر لأنها ستكون وخيمة العواقب بسبب فقد ثقة المستخدمين، خصوصا لدى فئة الشباب صغار السن الذين سيكبرون وهم يحملون فكرة سابقة من آبائهم بأن فيسبوك منحازة وغير جديرة بالثقة، وهو ما سيدفعهم لهجرها لمصلحة منصات تواصل اجتماعي أخرى لا تحمل هذه السمعة السيئة مثل تيك توك (TikTok)، وتويتش (Twitch)، وسناب شات (snapchat)، وكلوب هاوس (clubhouse)، وغيرها من التطبيقات والمنصات المنافسة".
وفي الحقيقة فإن هذا هو الرعب الحقيقي لدى فيسبوك، وهو فقد ثقة الأجيال الجديدة من المستخدمين وتحولهم إلى منصات أخرى منافسة.
وتضيف الفرواتي أن "الآثار قريبة المدى تتمثل في أن التقييم السلبي سيؤثر فيها بصورة مباشرة بنزول ترتيبها في محركات البحث على آب ستور وغوغل بلاي، وهو ما سيؤدي إلى تحول المعلنين لإعلان منتوجاتهم وبضائعهم في منصات أخرى لأن الفئات ذات القوة الشرائية من المستخدمين قد هجرته، خصوصا إذا عرفنا أن عائدات الإعلانات تمثل الجزء الأكبر من دخل فيسبوك إذ بلغت 25.4 مليار دولار خلال الربع الأول من هذا العام بنسبة تصل إلى 46% من مجمل دخل الشركة".
وأشارت فرواتي إلى أن "الهم الأكبر لفيسبوك ومنذ سنوات طويلة كان المحافظة على مكانتها على عرش التطبيقات الاجتماعية، وهو ما دفعها لتخصيص أموال طائلة للاستحواذ على الشركات المنافسة كما حدث باستحواذها على إنستغرام (Instagram) وواتساب (WhatsApp)، ولكنها أخفقت في امتحان إبعاد توجهاتها السياسية الموالية للصهيونية والمعادية للشعب الفسطيني في منصاتها كافة، وهو الأمر الذي تابعه المستخدمون في جميع أصقاع العالم، وسيؤدي إلى خسارة ثقة المستخدمين حتى لدى أولئك الذين لا تهمهم القضية الفلسطينية، فهم سيسألون أنفسهم: هل ستتخلى عنهم فيسبوك وتحاربهم عندما يكتبون عن قضاياهم السياسية والاجتماعية الخاصة بهم في بلدانهم؟".
النجمة تعني الكثير
من جهته قال يزن الصوالحة الخبير والمدون في مجال تكنولوجيا المعلومات ومنصات التسويق الإلكتروني إن "تقييم التطبيقات المختلفة عبر متجري غوغل بلاي وآب ستور يعدّ أحد أهم وسائل تسويق التطبيق وانتشاره، وانخفاض تقييم تطبيق فيسبوك بسبب هذه الحملة العالمية سيكون له عواقب كبيرة على انتشاره، وجني الفوائد عبر التسويق من خلاله. فالتطبيق الذي يحصل على تقييم فوق 4 نجوم مثلا سيظهر لمزيد من المستخدمين والعملاء المحتملين، وهذه هي إحدى وسائل الإقناع التسويقية التي يستخدمها المتجر لمكافأة التطبيقات ذات التقييم العالي".
ويضيف الخبير التقني أنه في حال انخفض التقييم فإن هذا سيؤثر بوجه مباشر في تصنيف التطبيق نفسه، ويمنع ظهوره كأحد التطبيقات المقترحة بفئته من قبل المتجر الإلكتروني، ومن ثم سيؤثر في ظهور التطبيق في محركات البحث، وعند حصول أي تطبيق على تقييم أقل من 3 نجمات تصبح فرصه التسويقية أقل بكثير داخل المتجر، وهو ما سيؤثر بصورة مباشرة في العوائد المالية التي يمكن أن يجنيها.
ويتابع الصوالحة أن "التأثير سيكون أكبر على الشركة المطورة للتطبيق حيث إن التقييمات السيئة ستؤثر في سعر التداول لأسهم الشركة وذلك سيؤدي إلى خسائر مادية كما حدث خلال الأحداث الأخيرة إذ انخفض سعر أسهم شركة فيسبوك في البورصات العالمية، وبلغت الخسائر المباشرة أكثر من 5 ملايين دولار حسب تقارير التداول للمنصة.
حذف التطبيق
ولكن هل سيُحذف التطبيق من المتجرين في حال تواصل انخفاض تقييمه لدى المستخدمين؟
يقول الصوالحة إن "هناك عوامل عدة تؤخذ في الاعتبار قبل الحذف، وبخاصة إذا وصل التطبيق إلى ما يقارب النجمة، فأسس التقييم عبر المتجر الإلكتروني عُدّلت حديثا لتصبح على آخر نسخة منشورة من التطبيق في المتجر، وإذا وصلت النسخة المحدثة إلى تقييم منخفض يقوم المتجر الإلكتروني بسحب التطبيق وإرسال إشعار للشركة لمراجعته تمهيدا لرفعه مجددا على المتجر بعد تلافي أسباب الحظر، وهذا هو سبب اختلاف أرقام التقييمات من جهاز إلى آخر".
ويحق للتطبيق الذي حُذف إرسال طلب مراجعة للمتجر الإلكتروني بشأن التقييمات المنخفضة كما حدث سابقا مع تطبيق تيك توك الذي أدى انخفاض تقييمه إلى أقل من نجمتين إلى حذفه بعد أن كان من أكثر التطبيقات تداولا، وذلك بعد الحملة الشرسة التي شُنّت على التطبيق، وانخفاض تقييمه نتيجة لذلك إلى نجمتين بعد أن كان تقييمه 4.8 نجمات قبل الحملة.
ويؤكد صوالحة أن "الحذف ممكن لكنه صعب" مشيرا إلى أن الحملة الحالية المساندة للقضية الفلسطينية لها إيجابيات كثيرة حتى لو لم تنجح في حذف تطبيق فيسبوك من المتجرين، فقد نجحت في الضغط على المنصة بدرجة كبيرة أعطت عبرة للمنصات الأخرى لتكون أكثر عدلا في التعامل مع القضية الفلسطينية.
كذلك فالهزة الكبيرة التي أصابت فيسبوك والمنصات التابعة لها -يتابع صوالحة- قد أحدثت ضجة كبيرة على مستوى العالم، وهو الأمر الذي دفع تطبيقي فيسبوك وإنستغرام لتوجيه رسائل اعتذار للشعب الفسطيني، وحتى التواصل مع بعض الداعمين للقضية من ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي للاجتماع والتشاور في المشكلات التي تواجه المحتوى الفلسطيني على المنصة جراء الخوارزميات الموضوعة، بغرض تعديلها لتكون أكثر إنصافا في المستقبل.
المصدر/ الجزيرة