بقلم/ وائل قنديل
في ذروة اشتعال المعركة التافهة حول فساتين مهرجان نجيب ساويرس السينمائي (الجونة)، وفي صخب الاشتباك حول الفيلم المصري "ريش"، لم يتنبه أحدُ إلى اللغم الأخطر في المهرجان، فيلم"أميرة" الذي طار من فينيسيا إلى الجونة، من دون أن يوقفه أو يتوقف عنده أحد، حتى وصل إلى عمّان فيتصدى له الذين اكتشفوا الفخّ التطبيعي الكبير الذي نصبه منتجو الفيلم وصنّاعه، حتى انتهى الأمر بوقف عرضه، وصدور بيان هزيل من مخرجه المصري محمد دياب.
لم أشاهد فيلم "أميرة"، لكني أذكر أن صديقًا شاهده في مهرجان الجونة، وقال لي إن المعركة منصوبةٌ حول "ريش"، بينما الخطر هناك في فيلم عن فلسطين، وبالتالي فما أسجله هنا ليس نقدًا للعمل، أو حتى قراءة كاملة لمحتواه الذي فجر كل هذا الغضب لدى الشعب الفلسطيني، وكذلك كل الذين يحتفظون بالقدرة على تهجّي أبجدية القضية بشكل سليم.
الفيلم، وكما قدّمه منتجوه، يناقش موضوع النطف المهرّبة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إلى زوجاتهم، وكما ورد في الملخص الذي وزّعته جهة الإنتاج على الصحف، والمنشور بصياغة واحدة تقريبًا، "وتدور أحداث الفيلم حول قضايا تخصّ فلسطين وتظهر شابّة تدعى أميرة، تجسّدها تارا عبّود، وتسرد قصتها بأنها ولدت عبر عملية تلقيح مجهري بعد تهريب النطف من والدها السجين في أحد المعتقلات الإسرائيلية".
وتستكمل الأحداث بانقلاب حياة أميرة بشكل مفاجئ، بعد أن يخبرها والدها في أثناء زيارتها له بأنه عقيم ولا ينجب، وأنها ليست ابنته، وكل ما أخبرتها به والدتها كذب، لتبدأ أميرة في رحلة البحث عن والدها البيولوجي الحقيقي بكل صمت وخوف من نظرة المجتمع لها. وخوفها من أن تصبح منبوذةً هي ووالدتها كونهما لا يملكان معيلاً أو عائلة كبيرة تقوم بحمايتهم".
ما لم يكشف عنه الخبر الاحتفالي بالفيلم أن الأحداث تنتهي باكتشاف مزلزل، أن النطفة تخص ضابطًا صهيونيًا، ما يعني أن أميرة التي يقدّمها الفيلم في إطار رومانسي جميل يدعو إلى التعاطف معها والقبول بها، كما هي، ابنة مشتركة للجاني والضحية، أمها فلسطين وأبوها الاحتلال، وعليك أن تتعايش مع واقعها الوجودي وتسلّم به، بل وتدافع عنه.
إذن، هذه البنت/ الأرض للطرفين معًا، المعتدي والمعتدى عليه، القاتل والمقتول، اللص والضحية، تلك هي الرسالة التي يراد إيصالها والتسليم بمضمونها.
وحين تعلم أن الفيلم إنتاج مشترك بين كل من مصر والأردن والسعودية والإمارات (لا أدري لماذا غابت البحرين والمغرب) وتخطّت ميزانية إنتاجه، كما كشف محمد حفظي أحد المشاركين فيه، المشارك في إنتاجه 350 ألف دولار، فأنت هنا بصدد مشروع سياسي شرق أوسطي كبير، ينطلق من مخرجات كامب ديفيد الجديدة، التي وقعتها كل من الإمارات والبحرين والكيان الصهيوني، في حديقة البيت الأبيض، قبل نحو عامين، وباركتها كل من مصر والسعودية والأردن، ثم التحقت بها المغرب باتفاق ثنائي مع الاحتلال.
هذا المشروع، أو هذا الفيلم، بمحتواه وتعدّد جهات إنتاجه وميزانيته الضخمة، هو أول تعبير سينمائي مباشر عمّا يسمّى "اتفاق أبراهام" الذي يقوده جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره السابق للأمن القومي، والذي ينشط الآن في المنطقة، بعد أن أنشأ معهد أبراهام لاتفاقات السلام، وهي مجموعة غير ربحية تسعى إلى توسيع العلاقات التجارية والثقافية بين إسرائيل والعرب (بحسب تقرير حديث في نيويورك تايمز).
ومما هو منشور عن الفيلم، أيضًا، أنه عرض، للمرّة الأولى، ضمن فعاليات الدورة الـ78 من مهرجان فينيسيا السينمائي حيث شارك في مسابقة "آفاق"، ونال ثلاث جوائز: جائزة لانتيرنا ماجيكا التي تمنحها جمعية تشينيتشيركولي الوطنية الاجتماعية الثقافية للشباب (CGS)، جائزة إنريكو فولتشينيوني التي يمنحها المجلس الدولي للسينما والتليفزيون والإعلام السمعي البصري بالتعاون مع منظمة يونسكو، وجائزة إنترفيلم لتعزيز الحوار بين الأديان.
الحوار بين الأديان، هذه البضاعة التي تروّج في المنطقة منذ فترة، ليس بوصفها حوارًا ندّيًا وحقيقيًا بين الأديان، وإنما وسيلةٌ لاستيلاد ديانة جديدة من نطفةٍ محرّمة، وضعت في اللقاءات الإماراتية البحرينية الإسرائيلية، ويُراد فرضها على الجميع ديانةً مشتركةً بين الجميع في الشرق الأوسط الجديد، نطفة غامضة، مثل تلك النطفة التي أنجبت "أميرة"، ويريدون من الجماهير القبول بها والتعاطف معها، واعتمادها ابنةً لكل الأطراف.
على أن الفيلم الذي فجّر كل هذا الغضب انبنى على كذبةٍ كبيرةٍ فضحتها جهاتٌ عدّة في فلسطين المحتلة، منها هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين، ونادي الأسير الفلسطيني، والهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى، بشأن موضوع النطف المنقولة من الأسرى الفلسطينيين إلى زوجاتهم، عبر آليةٍ لا تترك أدنى فرصة للتلاعب أو التشكيك في هوية النطفة التي يجري تسليمها يدًا بيد من الأسير إلى زوجته وأسرته، في حضور شهودٍ وبمحضر رسمي. وبالتالي، لا يستقيم واقعيًا أو دراميًا هنا أن يتأسّس تماما هذا الإنتاج السينمائي الضخم على فرضية الخطأ أو التلاعب، إلا إذا كان منتجو الفيلم قد كرّسوا كل إمكاناتهم للوصول إلى هذه النهاية، البنت/ الأرض من الجميع وللجميع، وعلى الجميع الرضا بهذه الوضعية.
وبقدر ما جاءت ردّات الفعل الشعبية في فلسطين والأردن شيئًا يثلج الصدر، ويجدّد اليقين في سلامة الضمير العام، فإن مرور هذا الفيلم من مهرجان نجيب ساويرس، من دون أن يتناوله أحدٌ من محترفي الثرثرة النقدية في المهرجانات بالمناقشة والتحليل والإضاءة النقدية، هو أمرٌ يدعو إلى الأسف والحسرة على الذين تركوا النقد الفني الجاد، وتفرّغوا للتعليق على إطلالات الفساتين المثيرة فوق السجادة الحمراء، في الجونة المصرية، أو في جدّة السعودية .. لا فرق.