بقلم/ د. وليد القططي
ملحمة الحرافيش رواية للأديب الكبير نجيب محفوظ، تمتد لعشرة أجيال زمنياً، وتتسع لعشر حكايات سردياً، تجمع بين الواقعية والرمزية، بنكهة روحية صوفية، وفلسفة ثورية وجودية، وترسم ملامح النفس الإنسانية بنقاط ضعفها وقوتها، وتُصوّر ديناميات الجماعات البشرية بتناقض صراعاتها وتوافقاتها، واسم الرواية (الحرافيش) يكتسب رمزية من دلائل مفهومها؛ فالحرافيش كمفهوم يُشير إلى طبقة مسحوقة من فقراء الناس البؤساء والمحرومين، الذين لا يملكون إلاّ كدحهم وبالكاد قوت يومهم، كانوا يسكنون أطراف الحارات المصرية القديمة زمن العصر المملوكي وما بعده. والحكاية العاشرة من الرواية عنوانها (التوت والنبوت) صوّر فيها الكاتب ثورة الحرافيش على فتوّة الحارة المُستبد الظالم وعصابته وحلفائه، ومن خلال أحداث الثورة وحوارات الحكاية قدّم رؤيته الخاصة لفلسفة الثورة، التي تعود جذورها إلى أسطورة (عاشور الناجي) في الحكاية الأولى.
الحكاية الأولى من الرواية بعنوان (عاشور الناجي) فتوّة الحارة الصالح العادل، الذي يملك القوتين الجسدية والروحية، وينشر الخير ويُقيم العدل في الحارة، ويأخذ (الإتاوة) من أموال أغنياء الوجهاء ليردها إلى فقراء الحرافيش، كرمزٍ للحاكم الصالح أو المستبد العادل. ولكنه يختفي فجأة بطريقة غامضة تُبقي للأسطورة إبهامها، فيظل أهل الحارة – كرمزٍ للشعب- مُتعلقين بهِ شوقاً لعودتهِ، أو بظهور فتوّة صالح عادل من ذريته يُعيد الحارة إلى عهدها السعيد في إشارة رمزية لانتظار المُخلّص أو المهدي. فلا يظهر إلاّ في الجيل العاشر من ذريته والحكاية العاشرة من الرواية، بنفس اسم جده الأول (عاشور الناجي). وهي فكرة مغروسة في الوجدان الشعبي، ومدفونة في العقل الجمعي، يدل عليها التراث الإنساني الديني والثقافي لمختلف الأمم والشعوب، يُنعشها طول أمد الظلم والقهر والإحباط، فتظهر الحاجة إلى المُخلّص الفرد- الرجل الكامل والبطل العظيم – كحاجةٍ نفسية للشعوب المقهورة، وكحلم جامع للجماهير المطحونة، يعوّضهم بانتظار البطولة الفردية (عاشور الناجي) عن المبادرة بالبطولة الجماعية (الثورة الشعبية)، لتغيير واقعهم السيء.
عاشور الناجي الثاني رفض فكرة البطولة الفردية الموجودة في انتظار المُخلّص جده عاشور الناجي الأول، المهدي المنتظر الخاص بالحارة، واعتبرها سبب العجز والسلبية المسئولة عن استمرار حكم الفتوّة المستبد الظالم حسونة السبع للحارة، ولذلك فقام بإقناع الحرافيش بالمبادرة بالثورة ضد الفتوّة وعصابته، وصحّح أفكارهم ومعتقداتهم بأنَّ ما يحتاجونه للحياة الحرة الكريمة هي القوة لا رغيف الخبز. وهنا يظهر الفرق بينه وبين جده متفوّقاً على جده كما كتب نجيب محفوظ "لقد اعتمد جده على نفسه، على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تُقهر". فنقل عاشور الحرافيش من حالة الضعف والعجز والسكون والخضوع إلى حالة القوة والقدرة والحركة والتمرد، فنقلهم نقلة نوعية من فقه الانتظار إلى فقه الثورة.
فقه الثورة في حكاية (التوت والنبوت) في رواية (الحرافيش) واضح من خلال فكرة القابلية للعبودية والاستعمار والاستحمار والاستخفاف عند الأفراد والجماعات والشعوب التي تشجع المستبد الظالم بمختلف أشكاله على استعبادهم، فعندما قام الفتوّة الظالم حسونة السبع بصفع حليمة البركة أم عاشور الناجي على وجهها قبل ثورة الحرافيش، قال أخ عاشور له: "لولا أننا صرنا حرافيش ما تعرّضت أمنا للإهانة، فقال عاشور له: "حرافيش أم وجهاء لا يهم ستدرك الإهانة دائماً من يتقبّلها"، فكرة تقبل الإهانة هو الأساس في حدوث الظلم بأشكاله المختلفة: الاستبداد والاستغلال والاحتلال... وهذا ما أكد عليه مفكرون وفلاسفة سابقون بمفاهيم مختلفة، منها: العبودية الطوعية عند إيتيان دو لابويسي، والقابلية للاستعمار عند مالك بن نبي، والرضى بالاستحمار عند علي شريعتي، والإذعان للاستخفاف عند سيد قطب. وبالمقابل فإنَّ رفض العبودية والاستعمار والاستحمار والاستحفاف وكل أنواع الإهانة هو الأساس الذي تُبنى عليه الثورة.
ومن أُسس الثورة كذلك كسر حاجز الخوف من الطاغية، وهذا ما قام به عاشور الناجي مع الحرافيش جمهور الثورة، مبتدئاً بإعادة ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التغيير، ولم يتركْ وسيلةً لكسر حاجز الخوف لديهم حتى الأحلام فقص عليهم حُلمه:" لقد رأيتُ حُلماً عجيباً، رأيتكم تحملون النبابيت"، فنجح عاشور الناجي في دفعهم للثورة كما وصفها نجيب محفوظ"... وإذا بمفاجأة تدهم الحارة كالزلزال، مفاجأة لم يتوقعها أحد، تدفق الحرافيش من الخرابات والأزقة صائحين ملوّحين بما صادفته أيديهم من طوب وأخشاب ومقاعد وعصي، وتدفقوا كسيلٍ فاجتاحوا رجال السبع". فكرة كسر حاجز الخوف من الطاغية كانت جوهر رواية (شيءٌ من الخوف) للأديب الكبير ثروت أباظة، فعندما نجحت (فؤادة) من كسر حاجز الخوف لأهل القرية من رئيس العصابة الطاغية (عتريس) نزعوا الخوف الساكن في نفوسهم من الطاغية فثاروا عليه ونزعوه من واقعهم، فلا وجود للطاغية إلاّ في نفوس من يستخفّهم ويُسخّرهم.
ومن أُسس الثورة الهدم والبناء، فإنْ نجحت ثورة في عملية الهدم وفشلت في عملية البناء، فجمعت بين عبقرية الهدم وعجز البناء، تصبح عملية احتجاج وهياج وانتقام وليست ثورة، وهذا ما انتبه إليه نجيب محفوظ في الحكاية الأخيرة للرواية، فعندما انتصرت ثورة الحرافيش بقيادة عاشور الناجي على الفتوّة حسونة السبع وعصابته وحلفائه الوجهاء المُترفين، انتقلت الثورة من هدم النظام القديم إلى بناء النظام الجديد مباشرة"... ولم تقع الفوضى المتوّقعة، التف الحرافيش حول فتوتهم في تفانٍ وامتثال، وانتصب بينهم مثل البناء الشامخ، توحي نظرة عينيه بالبناء لا بالهدم والتخريب... سرعان ما ساوى بين الوجهاء والحرافيش... وجدد عاشور الزاوية والسبيل والحوض والكتّاب وأنشأ كُتّاباً جديداً ليتسع لأبناء الحرافيش"، وعندما نصحه الوجهاء بإبعاد الحرافيش وتفريقهم لإضعافهم خوفاً من الانقلاب عليه رد عليهم بقوله: "العدل خير دواء"، ليكتمل معنى البناء عنده: البناء المادي مثل كُتّاب الحارة وسبيل الماء، والبناء المعنوي بالعدل والمساواة.
والمغامرة أحد صفات الثورة وقادتها، فلا يوجد ثورة مضمونة النتائج ومفروشة بالورود والمكاسب، إلاّ عند الانتهازيين الذين يركبون سفينة الثورة بعد تخطيها أمواج الخطر وقرب وصولها إلى بر الأمان، فالثورة تحمل في رحمها المغامرة، ولكنها المغامرة المُشبعة بالإرادة والتحدي والتفاؤل والحماسة والشجاعة، لا سيما في شخصية قائد الثورة ورفاقه، وهذا كان واضحاً في شخصية عاشور الناجي كما وصفها بقلمه صاحب الرواية أثناء التخطيط والإعداد لثورة الحرافيش"... بلقاء الحرافيش اشتعلت النار في كيانه كله، تجمعت قواه الحيوية كلها ودقت جدران قلبه تريد أن تنطلق، لا يمكن أن ينام من تضطرب جوانجه بهذه القوة كلها، إنّه يتحدّى المجهول... يواجه المجهول ويصافحه ويرمي نفسه في خضمه، كأنما كُتبت عليه المغامرة والمقامرة وركوب المستحيل، إنَّه يحمل سراً عجيباً ينبذ الأمن والسلامة ويعشق الموت وما وراءه". وهي الفكرة التي عبّر عنها فلاديمير لينين في مجموعة مقالات تحت عنوان (روح المغامرة الثورية).
فلسفة الثورة عند نجيب محفوظ المستنبطة من الحكاية العاشرة (التوت والنبوت)، من ملحمة الحرافيش) تكتمل بثلاثية الرمزية والصوفية والوجودية، فالرمزية الكامنة في أسطورة عاشور الناجي كرمزٍ للبطولة الفردية المنتظرة لإنقاذ الحارة، استبدلها الكاتب بالبطولة الجماعية إيماناً منه بالبطولة الجماعية، ليكون الحرافيش بالثورة الشعبية هم الأبطال الحقيقيون. والصوفية عنده تجاوزت مفهومها التقليدي بالقرب من الله تعالى، والزهد في الدنيا، والعزلة عن الناس... إلى تحريض المظلومين على الثورة، والأخذ بيد الناس إلى طريق الخلاص والنجاة في الدنيا والأخرة، والرؤيا الصالحة كجزءٍ من النبوة المُبشّرة بالأمل والخير. والوجودية عنده بمفهومها الثوري تعني الإيمان بقيمة الإنسان وقدرته على التحكم بمصيره ومستقبله، من خلال تحكمه بمعتقداته وأفعاله، كما ظهر عندما غيّر الحرافيش ما في نفوسهم من أفكار ومعتقدات سلبية فقاموا بالثورة التي غيرّت واقعهم ومصيرهم، وفقاً للقانون القرآني الثابت " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".