ض وهي خطط قديمة جديدة، إلا في سياق احتواء أراضي النقب ومصادرتها، وعندما يكشف هذا الكيان عن كافة أقنعته مؤخراً بالإعلان الرسمي عن يهودية الدولة، فإن ربط مخططاته ضد السكان البدو بتهويد الأرض يصبح ربطاً منسجماً لم يعد يخفى على كل متابع.
وكانت دولة (إسرائيل) قامت منذ نواتها الفكرية الأولى على أسس قومية- دينية توراتية، ضمن عملية استثمار الحركة الصهيونية للديانة اليهودية عبر إعطائها طابعاً قومياً عنصرياً .
باشر الاحتلال طرد أهل النقب من أراضيهم الزراعية ومرابض ماشيتهم، عبر ممارسة شتى صنوف القهر والتضييق في ظل حكم عسكري صارم استمر حتى عام 1966م، ليتدنى عددهم عام 1953م إلى 11 ألف نسمة، من أصل 80 ألف نسمة عام 48م، تم طردهم إلى غزة ومصر والأردن، فيما تم محاصرة مَن تبقى منهم في (منطقة السياج) شرق بئر السبع، حيث تحتاج السيدة المسنة الى المشي عشرات الكيلومترات كي تصل الى مركز صحي لتلقّي العلاج عبر شوارع غير معبدة، والأطفال قد يضطرون إلى المشي مسافات طويلة كل صباح ذهاباً الى مدارسهم. أما خدمات المياه، فقد وفر أهالي بعض القرى بجهد سبلاً لمد قراهم بأنابيب ضخ مياه، والبعض الآخر اجتهد واخترع طرقاً لاستغلال الطاقة الشمسية للحصول على طاقة كهربائية .
وسارع الاحتلال لإقامة الكثير من المستوطنات والمنشآت العسكرية التي تتزايد مساحتها تدريجياً لتتحول إلى مدن مثل ديمونة وعراد، وإيلات، ونتيفوت، وافقيم، ويروحام، وحرصوا على تركيزها فوق أراضيهم الخصبة غرب بئر السبع من أجل زيادة السكان اليهود، وحرموا البدو من رخص البناء أو الاستقرار في المنطقة.
واستهداف الاحتلال للنقب طوال الوقت يعبر عن إدراك صهيوني لأهمية النقب الاستراتيجية، حيث تعد منطقة النقب أوسع الأراضي مساحة في (كنعان) التاريخية، تبلغ مساحتها ما يقارب 13 مليون دونم، ونصف مساحة فلسطين المحتلة، وتمتد من مدينة بئر السبع وقرية الفالوجة، حتى (بقعة أم الرشراش) مدينة إيلات على الجانب الغربي من خليج العقبة، وهو متصل بثلاثة أبحر: المتوسط من الغرب للشمال، والميت من الشمال للشرق، والأحمر من الجنوب .
ويضم النقب وجوداً عربياً متنامياً يزيد من قلق المحتلين، وأكبر مدن النقب هي بئر السبع ولكن الوجود العربي فيها انتهى بشكل تام بعد احتلالها عام 48م، وهو اليوم يتركز في مدن توطين مثل مدينة راهط 71.000 نسمة، ومدينة اللقية 15.000 نسمة، وعرعره النقب (12.000 نسمه) وكسيفه (11.000 نسمه) وحورة (10.000 نسمه) في حين يبلغ عدد سكان القرى البدوية (الغير معترف بها) 86,000 نسمة .
وكان ديفيد بن غوريون، مؤسس الدولة العبرية، ومهندس النكبة، أمضى أيامه الأخيرة في صحراء النقب، وكانت وصيّته أن يدفن هناك. يمكن الاستدلال من ذلك على مدى الأهمية الاستراتيجية للنقب لدى كيان العدو. هناك تقع أكبر قاعدة نووية في الشرق الأوسط، وتحت رمالها ثمة ثروة طبيعية هائلة لا تزال إسرائيل تتكتّم عليها، منذ الخواجا شكري ذيب والخواجا الياس الجلاد ، وتحت رمالها أيضاً وتد خيمة الإنسان البدوي الذي تعب من الترحال، فاختار الصحراء وطناً أبدياً.
وينشر المؤرخ عارف العارف (1892-1973م) قائم مقام بئر السبع في الثلاثينيات والأربعينيات ، أهداف الخطط الإسرائيلية لاستمرار طرح مشاريع ترحيل وتوطين بدو النقب، ومنها خطة عام 1965م، بما يلي:
- - تخفيض نسبة تفوق أعداد العرب على اليهود في منطقة النقب.
- - توفير أراض لأعداد جديدة من المهاجرين اليهود، لتنفيذ مشروع جزر المياه للنقب.
- - دفع بدو النقب نحو الشمال، قريباً من المدن اليهودية، بحيث يضطرون إلى العمل في مشاريع الاقتصاد الصهيوني، وضع المشاريع الصهيونية في أيد عاملة رخيصة نتيجة لتشرد البدو من أراضيهم .
إن الهدف الكامن وراء كل مشاريع (توطين) البدو هو سلخ البدويّ نفسيّاً ووجوديّاً عن بداوته ، وجرّه إلى بيئة مدنيّة مهجّنة يضطلع فيها الاحتلال بعملية «التأديب المدني» لصقل شخصية «المواطن العصري الأليف» الذي يريده الاحتلال، بعيداً عن قيم العناد والتمسّك بالأرض والمقاومة التي جبلتها الصحراء داخله. كذلك، سيتمزّق النسيج العشائري الدقيق، الذي كان يحكم علاقات العشائر البدوية منذ مئات السنين.
ستجد تلك العشائر نفسها مضطرة إلى التعايش في بيئة واحدة ضيّقة، بعدما كانت تمارس حياتها بحرّية أكبر في الحيّز الصحراوي المفتوح، وتحظى كلّ واحدة منها بنوع من الاستقلالية في حيّزها الخاص. ربّما ذلك ما يفسّر ارتفاع نسب الجريمة في القرى المعترف بها التي يسكنها خليط من العشائر البدوية، عنها في القرى غير المعترف بها .
يتكون مخطط برافر من عشر أبواب تشير جميعها لطبيعة الخطط الصهيونية لتهويد البلاد، فقد جاء في الباب الأول من المخطط:
(تسوية ملكية الأراضي في النقب مع الأخذ بعين الاعتبار ادعاءات الملكية التي قُدمت من قبل السكان البدو من أجل تنظيم قضية الاستيطان للبدو في النقب بحسب قرارات الحكومة). فالموضوع يتعلق بالأساس بالأرض وحسم إدعاءات الملكية بحسب قرارات الحكومة، وليس كما يزعم عنوان المخطط (قانون تنظيم استيطان البدو في النقب).
مع أن القصد من استعمال مصطلح "استيطان البدو" جاء لغرض طمس وتمويه حقائق جوهرية في واقع البدو، وتشبيههم بالمستوطنين الذين يستوطنون في الضفة الغربية، وباقي الأماكن التي لم يمتلكوا بها الأرض من قبل .
ولا يخفى أن تحديد فترة زمنية محدودة ماضية للادعاء يهدف لتحقيق أمرين:
- منع طرح موضوع أراضي عشيرة العزازمة في الجزء الأوسط والجبلي من النقب، والتي تصل مساحتها إلى 200 ألف دونم، والتي تم مصادرتها قبل السبعينيات .
- ضمان عدم فتح ملف أراضي شمال غرب النقب، والتي تم مصادرتها قبل السبعينيات.
ويتناول المخطط أراضي شمال غرب النقب والتي طرد أهلها وصودرت، بتعويض جزئي عبارة عن أرض صحراوية، تقع جنوب السياج في عمق الصحراء.
تكمن خطورة هذا المخطط بتجاهله المدوي لكون عرب النقب هم أصحاب الأرض الأصليين، وهو لا يعترف بكثير من القرى البدوية التي سبق تجاهل وجودها، بل إن المخطط يتجاهل قرية الفرعة التي اعترف بها عام 2006م .
وجاء إعلان وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية عن خططها لإقامة خمس مستوطنات في المنطقة الواقعة بين مدينتي بئر السبع وديمونا، حيث ستقدمه للحكومة من أجل المصادقة عليه، ضمن مقترحات تطوير الاستيطان في الضواحي، وعشية المصادقة على مشروع قانون "برافر" العنصري بالقراءتين الثانية والثالثة، وقد أطلقت وزارة البناء والإسكان أسماء على المستوطنات الخمس وهي "عومريت"، "غبعوت عدريم"، "تيلم"، "تلما" و"تلباه". هذا الإعلان يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك عن الهدف التهويدي الحقيقي لمشروع برافر .
والحقيقة أن ثمة أهداف خفية تكمن وراء مخطط برافر، وهي:
- عزل النقب عن محيطها العربي (غزة – سيناء).
- تعزيز وجود المستوطنات في النقب خاصة في المناطق التي تعتبر خصبة من ناحية اقتصادية معادن ورمال وخصور نارية.
- بناء مراكز عسكرية واستخباراتية بالقرب من المحيط العربي خاصة مصر والأردن وخليج العقبة.
- العمل على تسهيل مخطط بناء قناة البحرين الأحمر والميت، وفتح مجال لخط السكة الحديد الذي سيربط القناة مع البحر المتوسط للاستغناء عن قناة السويس .
رفض البدو بكليتهم مخطط برافر، وعبر عنهم النائب طلب الصانع عندما تساءل قائلا: "إذا كان الهدف هو التطوير فلماذا الترحيل والمصادرة؟ ألا يمكن التطوير إلا بترحيلهم وبهدم بيوتهم وقراهم القائمة قبل قيام دولة إسرائيل؟". وأضاف "لماذا لا يتم الاعتراف بها وإقامة أكثر من 75 مزرعة فردية لليهود وترحيل قرى عربية يسكن فيها الآلاف؟ ولو كان سكان هذه القرى من اليهود فهل يتم ترحيلها؟.
كما رفضت كل القيادات العربية في الداخل الفلسطيني هذا المخطط، ودعت لسلسلة خطوات مضادة ليس آخرها إعلان الإضراب العام في مختلف مناطق الوسط العربي .
لن يمر مخطط برافر بالتأكيد، وهو نبأ قديم عبّر عنه قائم مقام بئر السبع في عهد الانتداب عندما وصف البدوي أنه: ( يعتبر أرضه كعرضه) .
والأرض والعرض متلازمان في وعي البدوي العربي، وهذا ما جعل مخطط تهويد النقب يمر بمراحل طويلة، لعل أحدها مخطط برافر، وهو المخطط الموقت بزمان محدد متصل بسعي (إسرائيل) لفرض نفسها كدولة يهودية صرفة أمام العالم برمته وخاصة الشعب الفلسطيني.
- المراجــــع
- أنظر كتاب جلعاد عتسمون: مَن التائه؟ دراسة في سياسة الهوية اليهودية. ترجمة حزامة حبايب. المؤسسة العربية للدراسة والنشر.عمان.2012م.
- العارف،عارف.أوراق عارف العارف.ص1040.ج4. مركز أبحاث م ت ف.الدار العربية للموسوعات.بيروت. فلاح،غازي، الفلسطينيون المنسيون عرب النقب 1906-1986،ص198.مركز إحياء التراث العربي.الطيبة/المثلث،1989م.
- العارف،عارف، بير السبع وقبائلها، ص267-268، مكتبة مدبولي، 1999م.
- فلاح،غازي،الفلسطينيون المنسيون ص105. 183.
- العارف،عارف،بير السبع وقبائلها ص276.
- يعقوب،أوس. واحة الفكر والثقافة. مؤسسة القدس للثقافة.
- العارف،عارف. أوراق عارف العارف. ج4 ص1060.
- العارف،عارف.أوراق عارف العارف.ج4ص1079-1088.
- فلاح،غازي، الفلسطينيون المنسيون ص170-171 ،200.
- فلاح،غازي، الفلسطينيون المنسيون ص169.
- العزازمة إحدى القبائل العربية الفلسطينية التي كانت تقطن في جنوب قضاء "بئر السبع " ، وكانت مضاربهم مترامية الأطراف ، تمتد من " بئر السبع " حتى " وادي عربة " و " حدود سيناء ". كان عدد أفراد العزازمة عام 1946م "16370" نسمة . في الثالث من سبتمبر عام 1950م ، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي ، مستعملة السيارات المصفحة ، ومستعينة بالطائرات ، بطرد "4071" بدوياً من قبيلة " العزازمة " ، من منطقة " العوجا " المجردة من السلاح على الحدود المصرية ، وأجبرتهم على اللجوء إلى صحراء " سيناء"، بعد مجزرة رهيبة قتل فيها العديد من النساء والأطفال.
- فلاح،غازي، الفلسطينيون المنسيون ص69 ،117 .
- أبو راس،ثابت. مخطط برافر ومصادرة أراضي عرب النقب. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.يوليو 2013م.
- وكالة معا. 29/10/2013م. اضغط هنا
- الخطيب،إياس. دراسة عن مخطط برافر. مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013م.
- منصوري،بديعة. خطة برافر تهجير أم توطين للبدو.26/7/2013م.
- شبكة القدس للحوار.15/7/2013م. اضغط هنا
- العارف،عارف، بير السبع وقبائلها ص274.